في خضم مشهد انتخابي شديد الالتباس، أعلن المرشح الديمقراطي “جو بايدن” اختيار السيناتور “كامالا هاريس” كنائبة له خلال الانتخابات المزمع عقدها في نوفمبر القادم. ورغم أن “هاريس” كانت ضمن أبرز الأسماء المرشحة لهذا المنصب، إلا أن اختيارها مثّل مفاجأة لدى البعض، لا سيما مع تزايد التكهنات بشأن اختيار “سوزان رايس” التي تربطها علاقات جيدة مع الرئيس السابق “باراك أوباما” وقيادات عديدة في الحزب الديمقراطي. لكن اختيارها كان سيوفر مدخلًا مناسبًا للجمهوريين لانتقاد حملة “بايدن” بسبب إخفاقات “رايس”، وعلى رأسها هجوم بني غازي الذي تسبب في مقتل السفير الأمريكي، بجانب ما يصفه البعض بالسجل المتواضع لها أثناء عملها كمستشارة للأمن القومي للرئيس “أوباما”. لذلك، تصدرت “هاريس” كخيار مناسب في ظل حالة الارتباك والمشكلات المركبة التي باتت تضرب الساحة الأمريكية. في هذا الإطار، ثارت تساؤلات حول دوافع اختيار “هاريس”، ودورها في دفع حملة “بايدن” باتجاه الفوز.
من هي “كامالا هاريس”؟
وُلدت “هاريس” في أوكلاند بولاية كاليفورنيا، لأم هندية وأب من جامايكا. وعاشت “هاريس” في بداية حياتها فترة قصيرة في كندا، عندما عملت والدتها في التدريس في جامعة “ماكجيل”، ثم أمضت أربع سنوات في جامعة هَوارد. عقب ذلك، انتقلت “هاريس” للحصول على شهادة عليا في القانون من جامعة كاليفورنيا، وبدأت حياتها المهنية لاحقًا في دائرة الادعاء العام. وتبلغ “هاريس” من العمر 55 عامًا، ومتزوجة من رجل يهودي يدعى “دوجلاس إمهوف”، وهو محامٍ وشريك في شركة DLA Piper للمحاماة، يختص بشكل رئيسي بنزاعات التقاضي التجارية والعقارات والملكية الفكرية المعقدة.
وفي عام 2003، أصبحت “هاريس” المدعي العام الأعلى لمدينة “سان فرانسيسكو” لسبع سنوات، قبل أن يتم انتخابها كأول امرأة وأول شخص “أسود” يعمل كمدعٍ عام لولاية كاليفورنيا لست سنوات. ومنذ انتخابها لعضوية مجلس الشيوخ الأمريكي في 2017، حظيت “هاريس” ببعض التأييد من التقدميين لاستجوابها اللاذع لمرشح المحكمة العليا آنذاك “بريت كافانو”، والمدعي العام “ويليام بار”، خلال جلسات الاستماع الرئيسية في مجلس الشيوخ. وتُحسب “هاريس”، وفقًا لبعض التحليلات، على التيار التقدمي، فقد صنفتها ProgressivePunch على أنها رابع أكثر عضو تقدمي في مجلس الشيوخ.
جمعت “هاريس” علاقة صداقة قوية بابن “بايدن”، الذي توفي بسرطان الدماغ في عام 2015. وكمدعين عامين في ولايتي كاليفورنيا وديلاوير، عملا معًا بشأن عدد من القضايا، لا سيما تلك المتعلقة بالبنوك الكبرى في أعقاب الأزمة المالية لعام 2008. وأطلقت “هاريس” حملة ترشح للانتخابات الرئاسية القادمة، في بداية العام الماضي، بحضور حشد زاد عدده عن 20 ألف شخص في أوكلاند، كاليفورنيا. وفي مارس 2020، أعلنت “هاريس” تأييدها لــــ”بايدن” قائلة إنها ستفعل كل ما في وسعها للمساعدة في انتخابه رئيسًا قادمًا للولايات المتحدة.
دوافع اختيار “هاريس”
تعهد “بايدن” باختيار امرأة لمنصب نائب الرئيس، فيما تمثلت أبرز الأسماء المقترحة في السيناتور “إليزابيث وارن” (ماساشوستس)، و”سوزان رايس” مستشارة الأمن القومي السابقة، و”كيشا لانس باتمز” عمدة أتلانتا، و”كامالا هاريس”. وقد أعلن “بايدن” في 12 أغسطس 2020 عن اختياره لـــ”هاريس” لشغل منصب نائب الرئيس. وهي الآن ثالث امرأة تشغل منصب نائب الرئيس عن حزب سياسي كبير، بعد “جيرالدين فيرارو” كنائب ديمقراطي لمنصب نائب الرئيس في 1984، و”سارة بالين” لمنصب نائب الرئيس الجمهوري في 2008.
وبالنظر إلى تعقد المشهد الانتخابي، تبدو ثمة دوافع قوية تقف خلف اختيار “هاريس”، انطلاقًا من كون هذا الاختيار يُعد عاملًا مؤثرًا وحاسمًا في نتيجة الانتخابات. ونشير فيما يلي إلى أهم هذه الدوافع:
1- نموذج جاذب: يمكن القول إن اختيار “هاريس” نابع من رغبة “بايدن” على وجه الخصوص، والحزب الديمقراطي بوجه عام، في تقديم نموذج جديد براق للشارع الأمريكي. يرتبط بذلك عدم تمتع “بايدن” بسمات كاريزمية. ومن ثم، فإن تقديم نموذج مختلف سيعطي –بلا شك– زخمًا للحملة الانتخابية. وأبرز ملامح هذا النموذج أن “هاريس” امرأة ذات بشرة سمراء تعود لأصول مختلطة (الهند وجامايكا)، وبالتالي فهي تجسيد لصورة الولايات المتحدة كدولة مواطنة وبوتقة صهر كبرى تستطيع تجاوز كل الاختلافات.
2- تجاوز نقاط الضعف: مع تتبع المشهد الانتخابي، يتضح بشكل جلي تراجع أداء الحزب الديمقراطي، وتواضع أداء أفضل مرشحيه وعلى رأسهم “بايدن” البالغ من العمر 77 عامًا. لذا، فقد يكون الهدف من اختيار “كامالا” هو الاستفادة من شخصيتها القوية وقدرتها البارزة على التحدث والنقاش. كما قد يكون اختيارها نابعًا من محاولة لموازنة عامل “السن”. بعبارة أخرى، قد يكون الاختيار نابعًا من الرغبة في إيجاد توليفة بين خبرة “بايدن” وحماسة وحيوية “هاريس”.
3- استغلال الظروف الراهنة: من خلال تتبع الأوضاع على الساحة الداخلية الأمريكية يتضح أن تصاعد التكهنات بشأن اختيار “هاريس” جاء في أعقاب الاحتجاجات الواسعة النطاق التي وقعت في أعقاب مقتل المواطن الأمريكي ذي الأصول الإفريقية “جورج فلويد”. بعبارة أوضح، يبدو اختيار “هاريس” نوعًا من الاستغلال السياسي للأزمات التي تضرب الساحة الأمريكية، لا سيما مع اتساع نطاق الحديث حول العنصرية، والربط بينها وبين التداعيات السلبية لجائحة كورونا. وبالتالي، فإن وضع امرأة سمراء البشرة يُعد عاملًا محفزًا لحشد فئات السود والملونين لدعم “بايدن”.
4– الخبرة القانونية والسياسية: يمكن النظر إلى الخلفية القانونية لـــ”هاريس” بوصفها تمثل نقطة إيجابية كبرى في خضم هذه المنافسة، لا سيما أن نقطة الضعف المهمة ومدخل الانتقاد البارز لـــ”ترامب” وإدارته يكمن في التجاوزات القانونية والتعدي على النظام القانوني ودولة القانون. وعلى الجانب الآخر، تمثل خبرة “هاريس” كسيناتور بمجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا –أكبر ولاية من حيث عدد السكان– إضافة حقيقية لحملة “بايدن”، فضلًا عن عضويتها بلجنتي القضاء والاستخبارات.
5- التوفيق بين التيارين الوسطي والتقدمي: تختلف التحليلات بشأن الميول الحقيقية لـــ”هاريس” بين تيارات الحزب الديمقراطي، فبينما تبدو تقدمية في بعض المواقف، تبدو معتدلة في مواقف أخرى، الأمر الذي يعني أن اختيار “هاريس” سيمثل نقطة التقاء بين التيارات المختلفة داخل الحزب الديمقراطي، ويعمل على حشد أرضية شعبية واسعة من الشارع الأمريكي. وبشكل عام، يبدو أن اختيار “هاريس” ناجم عن رغبة في إرضاء التيار اليساري المتصاعد داخل الحزب الديمقراطي، حيث تناصر “هاريس” بعض الملفات التقدمية كتوفير تأمين صحي شامل، وإلغاء ديون الطلاب، وقضايا المناخ.
6- مغازلة الجماعات اليهودية: على الرغم من النشأة المزدوجة الهنودسية المسيحية لـــ”هاريس”، إلا أنها تزوجت من مواطن أمريكي يهودي، وتربطها صلات قوية بالتكتلات اليهودية في الولايات المتحدة، وتتبنى بشكل عام مواقف داعمة لإسرائيل، حيث تؤمن بحل الدولتين، وتعارض حركة المقاطعة لإسرائيل BDS، كما عارضت إدارة “أوباما” لسماحها بصدور قرار من مجلس الأمن يدين سياسات الاستيطان الإسرائيلية، الأمر الذي يعني وجود فرصة متزايدة لتدخل هذه الجماعات اليهودية للحشد لحملة “بايدن”. وقد أكدت “هالي سويفر” رئيسة المجلس اليهودي الديمقراطي في أمريكا ومساعدة سابقة لــ”هاريس” أن “هاريس تعطي الأولوية لنفس القضايا التي تهم الناخبين اليهود، وستعمل بجد للدفاع عن قيمنا في البيت الأبيض”.
حدود تأثير اختيار “هاريس” على فرص فوز “بايدن”
يتضح من العرض السابق أن “هاريس” كانت الاختيار الأفضل والأنسب –إلى حد معقول- بالنظر إلى الأوضاع والمشكلات التي تموج بها الساحة الأمريكية، وبالنظر إلى قوة المنافس الآخر “دونالد ترامب” وأوراق اللعب التي يستند إليها. إلا أن اختيار “هاريس” لن يعني بشكل مؤكد أو حتمي فوز “بايدن”، إذ لا يزال المشهد الأمريكي شديد التعقيد، ومرشحًا للتغير بشكل دائم استنادًا إلى المعطيات المتغيرة والمعقدة. ومن ثم، لا بد من وضع نقاط الضعف الخاصة بحملة “بايدن–هاريس” في الاعتبار. ويمكن بلورة أبرزها فيما يلي:
1- الانتقادات التي وقعت في الانتخابات التمهيدية: يمكن القول بشكل عام إن الانتقادات التي شنتها “هاريس” ضد “بايدن” خلال الانتخابات الرئاسية بشأن العنصرية، تمثل المدخل المناسب للنيل من هذه الحملة، وهو ما بدا جليًّا في انتقاد “ترامب” لاختيار “هاريس”، عندما ذكر أن “هاريس” لا تحترم “بايدن”، وأنها تسيء إليه بشدة.
2- الانسحاب من الانتخابات التمهيدية: تشير الانتخابات التمهيدية التي جرت خلال الفترة الماضية، إلى أن حملة “هاريس” لم تكن تتمتع بقدر كبير أو مؤثر من الزخم يمكنها من الاستمرار في الحملة، أو حتى التأكد من قدرتها على الفوز في الانتخابات.
3- الجدل حول خلفيتها: على الرغم من أن خلفية “هاريس” تمثل عاملًا إيجابيًا داعمًا في صالحها، إلا أن هناك الكثير من الجدل حول مواقفها بشأن عدد من القضايا. ودفع هذا الأمر ببعض التحليلات إلى اعتبار “هاريس” براجماتية ومتناقضة، لا سيما بسبب موقفها من عقوبة الإعدام وأداء جهاز الشرطة. وفي السياق ذاته، اتسع الحديث حول تزايد عمليات الاعتقال بين المواطنين السود في ولاية كاليفورنيا أثناء عملها كمدعٍ عام بها.
4- الميول اليسارية: في حين تبدو الميول اليسارية محفزًا لتشجيع بعض الفئات على المشاركة والتأييد بسبب الأجندة التقدمية، إلا أن مسألة اليسار باتت إشكالًا في الساحة الأمريكية، لا سيما بعدما تم الربط بين الاحتجاجات الفوضوية الأخيرة واليسار. كما أن الميل باتجاه اليسار يعني بشكل قاطع خسارة القطاعات المحافظة على الساحة الأمريكية. ومن الدلائل الواضحة على ذلك أنه في أعقاب إعلان “بايدن” اختيار “هاريس” قامت اللجنة اليهودية الجمهورية بمهاجمة “هاريس”، ووصفتها بأنها يسارية راديكالية، وانتقدت تعهدها بالعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران.
إجمالًا، يمكن القول إن المشهد الانتخابي الأمريكي المعقد جعل من منصب نائب الرئيس رقمًا مهمًّا في معادلة فوزه، وبالتالي فإن اختيار “هاريس” تم وفقًا لمحددات ومحفزات تتوافق مع تشابكات المشهد، وتسعى لإيجاد أرضية حقيقية للتأثير في الصندوق. إلا أنه يصعب الجزم بدور “هاريس” في حسم نتيجة الانتخابات لصالح “بايدن”، ناهيك عن كون الساحة الأمريكية مرشحة بقوة لمزيدٍ من الأحداث القادرة على إعادة رسم ملامح المشهد السياسي.