جرت خلال الأسبوع الأخير وقائع المؤتمرين اللذين عقدهما الحزبين الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة لتسمية مرشحيهم في الانتخابات الرئاسية القادمة. يفتح المؤتمران نافذة كبيرة على السياسة الأمريكية، وهي فرصة تتكرر مرة كل أربع سنوات لدراسة الاتجاهات السياسية التي تعتمل في المجتمع الأمريكي، وللطريقة التي تعمل بها الديمقراطية الأمريكية. الملاحظة الأبرز هي أن أمريكا أصبحت أكثر انقساما، وأصبح الخطاب السياسي للحزبين الكبيرين أكثر عدائية، وأكثر بعدا عن التصالح والحلول الوسط؛ فزاد مقدار الدعاية السلبية في الخطاب السياسي والدعاية الانتخابية، التي أصبحت تهتم بكب الماء القذر على رأس الخصم، أكثر من اهتمامها بإبراز نصاعة ثوب المرشح المفضل.
الاستقطاب الواضح في انتخابات الرئاسية الأمريكية الحالية هو امتداد طبيعي لمسيرة السياسة الأمريكية، خاصة في العقود الثلاثة الأخيرة، التي زاد فيها الاستقطاب بين الأمريكيين بسرعة شديدة. ففي مطلع التسعينيات كان ثلثا الأمريكيين من الوسطيين غير المحددين إيديولوجيا، فيما توزع الباقين بشكل متساو بين المحافظين والليبراليين. أما اليوم، فقد انخفضت نسبة الوسطيين إلى أقل من الثلث، فيما توزع الباقين بشكل متساو بين المحافظين والليبراليين، الذين أصبحوا أكثر تشددا في معتقداتهم وآرائهم في الإيديولوجيا والسياسة.
الانقسام والاستقطاب ليس ظاهرة سياسية فقط، لكنه ظاهرة اجتماعية أيضا، ففي عام 1960 قال أربعة بالمائة فقط من الديمقراطيين والجمهوريين أنهم لن يكونوا سعداء لو أن ابنهم أو بنتهم تزوجت من شخص ينتمي للحزب الآخر. أما في عام 2019 فقد قال 35 بالمائة من الجمهوريين أنهم لن يكونوا سعداء لو حدث شيئا من هذا، وهي النسبة التي وصلت إلى 45% بين الديمقراطيين، الذين يبدو أنهم أصبحوا أكثر رفضا وانغلاقا ضد مواطنيهم الجمهوريين.
لعقود طويلة ساد اعتقاد بأن الديمقراطية تساعد على تخفيف حدة التشدد الإيديولوجي. فلكي يفوز الحزب الانتخابات فإنه لا يكفيه الفوز بأصوات مؤيديه المخلصين، وإنما عليه التخفيف من حدة مواقفه، ويتجه أكثر ناحية الوسط، حتى يكسب تأييد ناخبين إضافيين يساعدونه على الفوز. كانت هذه النظرية فعالة تماما في شرح التفاعلات السياسية في مرحلة سابقة، لكن الأمر لم يعد كذلك الآن، فنسبة الناخبين الوسطيين وأهميتهم في تراجع مستمر، ومن الأفضل للحزب ضمان تأييد ناخبيه المخلصين، عبر التمسك بمواقفه المتشددة، مما جعل الانتخابات آلية وعاملا مساعدا على تعزيز التشدد، وليس الاعتدال.
لقد تطورت الأمور. في البداية كانت الديمقراطية تعني الحوار بروح تعاونية من أجل الوصول إلى حلول مناسبة للمشكلات. في مرحلة تالية ظهرت الخلافات الإيديولوجية، فتراجعت أهمية النقاش العام، وزادت أهمية الدعاية. في المرحلة الحالية جرى الانتقال إلى العمل بدأب من أجل إفشال الخصم.
الديمقراطية أقدم من الأحزاب. قاوم الفلاسفة العظام الذين وضعوا التصور الأصلي للديمقراطية الانفراد بالرأي، وأسسوا نموذجا للتشاور والتدبر بين مندوبين أحرار يختارهم الناخبون. لم يكن هناك إيديولوجيات أو أحزاب في التصور الأصلي للديمقراطية، لأن الالتزام الحزبي والإيديولوجي يقيد حرية الفكر، ويجعل للولاء للحزبي أولوية على الولاء للمصلحة العامة. في حديث نشرته قبل أيام جريدة نيويورك تايمز، قال السناتور الديمقراطي كريس مورفي أنه لم يعد يتحدث في السياسة مع زملائه الشيوخ الجمهوريين. لقد تم تفريغ الديمقراطية من التشاور والتدبر والمصلحة العامة، ليحل محلها الصراع الحزبي والإيديولوجي. لقد اختفت محاولة فهم وجهة نظر الطرف الآخر، أو محاولة مناقشة قناعاته والإجابة على تساؤلاته، فالرأي المختلف بالغ التفاهة، لا يمكن التعامل معه سوى باستهزاء وسخرية.
الرفض المتبادل والدعاية السلبية يحول المنافسة الديمقراطية إلى نشاط يقوم على الاستثمار في الفشل، وفيها لا يكون مهما إقناع الناخبين بقدرتك على قيادتهم إلى النجاح، بقدر ما يكون عليك إقناعهم بأن المرشح الآخر سيقودهم حتما إلى الفشل؛ وتكون فرصتك في النجاح أكبر كلما كان فشل المرشح المنافس أكثر وضوحا وفداحة.
في ظل هذا الانقسام ضاع الفارق بين كشف فشل الحزب المنافس، وبين تمني فشله، وبين العمل بدأب لإفشاله، ليتسنى إسقاطه، واختطاف السلطة منه. في الولايات المتحدة أصبح إصدار التشريعات أمرا بالغ الصعوبة بسبب المكايدات الحزبية. تصل الصعوبة إلى ذروتها عندما يكون للرئيس والسلطة التنفيذية مصلحة مباشرة في التشريع، مثلما هو الحال في إصدار قانون موازنة الحكومة الفيدرالية، والذي يتعطل لأسابيع، فأصبح من العادي أن يسبق صدوره أسابيع طويلة من الإغلاق الحكومي، وبعد مناورات ومماحكات يضيع فيها الفارق بين الدفاع عن الصالح العام، وبين الرغبة في إفشال المنافس.
لقد بلغت السياسة الأمريكية درجة متقدمة من التعثر، لكنها ليست بمفردها؛ فقد أصاب الانقسام الإيديولوجي الحاد عددا من النظم السياسية في أوروبا، خاصة في جنوب أوربا وشرقها، حيت تحولت السياسة من نشاط يستهدف تحقيق الأفضل للصالح العام، إلى الاستثمار في فشل الخصم؛ ومع هذا فإن أمريكا تبقى استثناء فريدا، كما هو الحال دائما.
هناك خبرة نادرة في دول شمال أوروبا، وهي بلاد تتصرف فيها النخب السياسية بطريقة مختلفة، حيث تتصرف النخب بدرجة عالية من الاستقامة، وبحرص على الصالح العام أكثر بكثير من الحرص المكسب الانتخابي. هذا هو الحال في بلاد الدانمرك، ألمانيا، السويد، النرويج، هولندا، فنلندا؛ وربما كان السر في الثقافة.
قد تستطيع الدول الغنية المتقدمة مواصلة سياسة الاستثمار في الفشل، فلدى هذه الدول الكثير من الموارد والفائض القابل للإهدار، ولديها أيضا قطاع خاص قوي ومؤسسات مجتمع مدني تواصل العمل بنجاح حتى عندما تفشل مؤسسات الحكم. لكن ماذا عن الدول النامية، حيث الموارد محدودة، وأصحاب الحاجة هم الأغلبية من الناس، فيما القطاع الخاص والمجتمع المدني مازالوا في طور النمو. هل لاحظتم أن أداء مصر الاقتصادي أفضل من الأداء الاقتصادي لتونس، وأن التجارب الناجحة في العالم الثالث تطبق نظما لا تشبه الديمقراطيات الغربية في شيء؟ مازال على دول العالم الثالث إبداع نظام سياسي يضمن فعالية الأداء والمحاسبة والتعددية، دون أن ينتهي بنا في مستنقع الاستثمار في الفشل؛ فهل نستطيع؟
نقلا عن جريدة الأهرام، 27 أغسطس 2020.