التفت المحللون إلى الوضع في بيلاروس عندما قامت السلطات هناك بالقبض على عشرات من عناصر ميليشيات فاجنر، واتهمت موسكو بتدبير عمليات إرهابية ومجازر للتأثير على الانتخابات، وهو اتهام رفضته موسكو بقوة قائلة إن هذه المجموعة وغيرها كانت متوجهة إلي واجهة أخرى لم تحددها، وهي غالبًا دولة إفريقية. بدا القبض آنذاك كمحاولة لتقديم الرئيس الحالي ألكسندر لوكاشنكا الذي يتولى الرئاسة منذ سنة ١٩٩٤ على أنه حامي استقلال الوطن وسيادته ضد الجميع بمن فيهم الجار الروسي. واتضح سريعًا أن لوكاشنكا يواجه تحديًا غير مسبوق في الانتخابات الرئاسية، وأن عملية القبض أو على الأقل طريقة تغطيتها إعلاميًا يجب فهمها في هذا السياق.
تم الكشف عن أسماء المقبوض عليهم، واتضح أن بعضهم من المطلوبين أمام العدالة الأوكرانية لدورهم في أحداث ٢٠١٤، وطالبت كييف بتسليمهم ولكن السلطات في مينسك فضلت ترحيلهم لموسكو.
وتم إجراء الانتخابات في بيلاروس، وتم إعلان فوز الرئيس الحالي بولاية جديدة واندلعت المظاهرات، وهربت مرشحة المعارضة إلي خارج البلاد، وقيل إنها أُجبرت على ذلك. زوجها معارض مشهور ونشيط كان قد أعلن ترشيحه للرئاسة وتم رفض هذا الترشيح وأُلقي القبض عليه، فأعلنت زوجته ترشيحها ووافقت السلطات بمنطق أنها لا تشكل خطرًا لأسباب منها أنها امرأة. وفوجئ النظام ومعه سائر العالم أنها أدارت حملة ناجحة حاشدة. ولكن زوجها بقي في السجن وقيل إنه تم تهديدها بإيذائه هو وأولادها مما فسر مغادرتها للبلاد.
يعتقد الكثيرون أنه تم تزوير الانتخابات تزويرًا فاضحًا، وحججهم في ظل غياب استطلاعات رأي تتلخص في أن المعارضة نجحت في حشد عشرات بل مئات الآلاف رغم الخطر الذي تشكله قوات الأمن، بينما لم ينجح النظام في تدبير حشد يذكر، وظهور مؤشرات تفيد بأن مكونات من قاعدة النظام الشعبية (عمال شركات القطاع العام مثلًا) انضمت للاحتجاجات، فلم يعد من الممكن القول إن المتظاهرين أقلية تمثل على أحسن الفروض الطبقات الوسطى المدينية المتأثرة بالخطاب الغربي. وأخيرًا أثار امتناع قوات الأمن عن قمع بعض المظاهرات ونشر فيديو لضابط شاب يدعو إلي عدم إطلاق النار على الشعب تكهنات اتضح فيما بعد أنها كانت سابقة لأوانها حول موقفها من النظام.
لا يتسع المجال لدراسة تفصيلية للأوضاع التي أدت إلي هذه الأزمة، وتكتفي بالقول إنه تم انتخاب لوكاشنكا ديمقراطيًّا سنة 1994، ونجح في تجنيب بلاده ويلات الفوضى التي عمت روسيا وجمهوريات أخرى في التسعينيات، ونجح في تفادي خلق طبقة من رجال الأعمال “الحيتان” الذين يستغلون شبكات الفساد والرشوة وصلاتهم بجهاز الدولة والهرولة في الخصخصة لتكوين ثروات طائلة وللحصول على ملكية الشركات والمصانع الكبيرة. لقد احتفظت الدولة بمفاتيح الاقتصاد، وبنت قاعدة شعبية من الفلاحين والعمال تؤيدها، وحاصرت الفساد الذي لم يختفِ طبعًا ولكنه ظل ضيق النطاق نسبيًّا، لا سيما إن قورن بأحوال روسيا. ونجح أيضًا في الدفاع عن مستوى معيشة أغلب الفئات إن لم تكن كلها، وفي توفير تعليم ممتاز.
وفي المقابل تم تضييق نطاق الحريات إلي أقصي درجة (الاستثناء كان ضعف الرقابة على مواقع التواصل الاجتماعي) وتمكين الدولة العميقة. ولم يتردد النظام في استخدام العنف البالغ ضد المعارضين، إذ يكفي أن نعرف أن مساحة الحريات في روسيا أكبر بكثير من مساحة الحريات في بيلاروس.
وما سمح لهذه الصيغة بالاستمرار عشرين سنة (إلى سنة ٢٠١٥ أو ٢٠١٧ تقريبًا) رغم عدم تطوير الاقتصاد وتحديثه وضعف قدراته التنافسية (إن استثنينا قطاع الكمبيوتر والمعلومات) هو الدعم الروسي اللا محدود. لفترة طويلة ظلت روسيا ترى في دعمها لبيلاروس دعاية موجهة إلي أوكرانيا وغيرها للبقاء في فلكها. وسمحت موسكو لجارها بشراء البترول بأسعار مدعومة وتكريره وإعادة بيعه في أوروبا وغيرها بأسعار دولية. واستوردت موسكو كميات من المنتجات البيلاروسية من صناعات غذائية وأحذية وجرارات. ولكن هذا الدعم تراجع إلى حد يسمح بالحديث عن إلغائه، ويفسر هذا التراجع بالأزمة الاقتصادية الروسية الناتجة عن العقوبات الغربية وعن تراجع أسعار الطاقة وعن ارتفاع فاتورة سياسة التدخل الخارجي، وبتبدل في أولويات السياسة الروسية، وبتململ الرئيس بوتين من مناورات نظيره البيلاروسي.
لفهم هذه المناورات علينا أن ندرك أن روسيا هي الحليف والحامي ومصدر التهديد الرئيسي في آن واحد. وتفصيل هذا أن بيلاروس رأت في روسيا حليفًا وحاميًا عندما كثر الحديث عن تغيير الأنظمة بالقوة، وحصل هذا كثيرًا بين ١٩٩٥ و٢٠٠٣. أما كون روسيا مصدر تهديد فإن الروس لم يقبلوا إلى الآن فكرة أن هناك شعبين. بالنسبة لهم الروس والبيلاروس شعب واحد أو على الأقل نفس الإثنية. أما الرئيس “بوتين” فيبدو أنه يشارك شعبه في هذا، ولكنه يرى أن استقلال بيلاروس له مزايا استراتيجية لا يجوز التقليل منها، فهي دولة حاجز بين روسيا والغرب. ولكنه لم ينجح تمامًا في تحقيق ما يبدو أنه هدفه وهو إخضاع كامل سياسات بيلاروس الخارجية.
الوضع “اللغوي” في بيلاروس دال على تعقيدات العلاقات. اللغتان الروسية والبيلاروسية موجودتان. البيلاروسية يتم تدريسها في المدارس وتستخدم في الوثائق الرسمية، وهي اللغة المفضلة للمعارضة، ولكن الرئيس يخاطب شعبه مستخدمًا الروسية التي يفهمها الجميع. أغلب الشعب البيلاروسي يعتبر نفسه روسيًّا (بالمعني الإثني للكلمة) ويعلم كم الروابط التي تؤسس العلاقات بين الدولتين، ولكنه لا يريد فيما يبدو الوحدة مع الدولة الجارة. وفي المقابل، يُجمع الخبراء الأوروبيون على عدم وجود “وعي قومي ناضج” عند أغلب البيلاروس.
لعب الرئيس لوكاشنكا لسنوات لعبة معقدة في علاقاته مع روسيا، عرضت لها باقتدار دراسة نشرت على موقع المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية. من ناحية، حرص لوكاشنكا على طمأنة موسكو وعلى عدم ارتكاب ما يهدد مصالحها، وعلي توثيق العلاقات العسكرية بين البلدين، وعلي تفعيل الحوار والتنسيق، إلي درجة سمحت لخبراء غربيين بأن يقولوا إنه يجب اعتبار القوات البيلاروسية جزءًا لا يتجزأ من القوات المسلحة الروسية، ولكن هذا غير دقيق وأثار استياء مينسك. روسيا رفضت منح أي سلاح متطور للجيش البيلاروسي مكتفية بعرض تسهيلات في الدفع. وفي المقابل، منع لوكاشنكا رجال الأعمال الروس من امتلاك الصناعات الاستراتيجية والمهمة البيلاروسية، وأدان بحزم السياسة الروسية تجاه أوكرانيا، وأمد القوات الأوكرانية بالوقود بأسعار مدعمة، وعمل جاهدًا وبالتنسيق مع الجمهوريات التي نشأت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي لمنع موسكو من توظيف المنظمات المشتركة والهياكل الجماعية في صراعاتها مع الغرب. ولم يتردد في استخدام روسيا كفزاعة، وتقديم نفسه كضامن وحارس لاستقلال البلاد. باختصار يمكن القول إن بيلاروس تنسق تنسيقًا وثيقًا مستمرًّا مع أذربيجان وكازاكستان لاحتواء المارد الروسي دون إغضابه. وقد تنضم إليهم أوزبكستان في بعض الأحوال. وكلها دول تدرك أن الحفاظ على استقلالها يقتضي عدم استفزاز موسكو بالتقرب من الغرب، وترى أن الابتعاد الواضح أو النسبي عن الغرب يعطي لها القدرة على رفض بعض أو أغلب الطلبات الروسية. وفي الوقت نفسه، حرص لوكانشكا على عدم إغضاب الغرب، فوافق على تبادل المعلومات فيما يخص الإرهاب والجريمة المنظمة. وساهمت مينسك في عمليات الإمداد للقوات الأمريكية في أفغانستان.. إلخ.
كانت بيلاروس مرت بأزمة اقتصادية حادة في بداية العقد الماضي، ولكن الأزمة الحالية بدأت بعد غزو أوكرانيا، فموقف مينسك المدين للسياسة الروسية أفقد الرئيس لوكاشنكا تأييد وتعاطف عدد كبير من كوادر وعناصر النخب السياسية والاقتصادية والأمنية والكنسية الروسية. قد يكون الاستثناء الأهم الرئيس قاديروف. وتعددت الإجراءات المعلنة وغير المعلنة الرامية إلى تقليل الدعم والتعاون العسكري وإلي إغلاق بعض الأسواق في وجه الصناعات البيلاروسية وإلى عرقلة نشاطها الخارجي.
المهم في هذا السياق أن التغير في الموقف الروسي أدى إلى تراجع كبير في مستوى معيشة سكان بيلاروس. وكان موقف الرئيس من جائحة (كوفيد ١٩) القشة التي قصمت ظهر البعير، فقلل من أهمية الوباء ورفض اتخاذ إجراءات لمنع تفشيه، ودعا إلي مقاومته بشرب الفودكا. وارتكب لوكاشنكا خطأ آخر عندما سمح لزوجة معارض أن ترشح نفسها للرئاسة مبررًا هذا الخيار بكلام بدا مهينًا للمرأة عامة. ورفض مؤيدوها نتيجة الانتخابات متهمين النظام بتزوير النتائج واندلعت المظاهرات وأغلبها قمع بوحشية.
تختلف التقديرات حول قدرة المتظاهرين على فرض إعادة الانتخابات أو على إسقاط النظام، وبالتالي حول قدرة لوكاشنكا على الاستمرار في الحكم، وحول موقف كل من الرئيس بوتين والدول الغربية من الأزمة.
من الواضح أن أغلب الحديث تكهنات لأنه لا أحد يعلم على وجه اليقين ما هي قدرة المتظاهرين على الاستمرار في الحشد ومدى ولاء قوات الأمن للنظام الحالي ولرئيسه، ومدى قدرة الرئيس الحالي على شق صف خصومه واسترداد تأييد قاعدته الشعبية وتخويف الجمهور من الفوضى. ولا نعرف إن كان القمع يغذي الإصرار أم يسكته. ما نستطيع توقعه أن الرئيس لو نجح في الاستمرار في الحكم فسيكون في موقف أضعف في علاقاته مع موسكو لأنه سيكون في حاجة ماسة إلى مساعدتها. وهذا السيناريو قد يكون الأمثل للرئيس بوتين رغم استيائه من سياسات لوكاشنكا وغضبه منها، فالشيطان الذي تعرفه قد يكون أحسن من الملاك الذي لا تعرفه. أما في حالة وصول المعارضة إلى كرسي الحكم فتختلف التقديرات، فهناك من يتصور أن العلاقات ستسير مسار علاقات روسيا وأوكرانيا. وهناك من يقول إن هذا ليس حتميًّا، فالشعب البيلاروسي لا يعادي روسيا ويعتبرها أقرب إليه من الغرب. ويضيفون أن موسكو نجحت في إقامة علاقة تعاون وثيق مع نظام ديمقراطي يدور في فلكها وهو النظام الأرميني. ويقولون إن هذا السيناريو يتفق ومصالح روسيا، وإن الغرب سيكون حريصًا على دعمه بوسائل لا تغضب موسكو.
المشكلة أن لا أحد يعلم على وجه التحديد كيف يقرأ الرئيس بوتين الأزمة، فإعلامه لا يتكلم بصوت واحد، مما يشير إلى عدم وجود تعليمات أو إلي وجود أوامر بتوزيع الأدوار. هناك من يرى أنه لا يحتاج إلى جبهة جديدة، وأنه سيسعى إلي استغلال ضعف بيلاروس، وأنه لا يريد أن “يخسر” تعاطف الشعب البيلاروسي. وفي المقابل، هناك من يرى أنه لا يملك ترف التغاضي عن سقوط نظام سلطوي في دولة مجاورة بأهمية بيلاروس. وهناك من يرى أن كل السيناريوهات سيئة له. وهناك من يقدر أن أغلبها في صالحه.
ما هو أوضح هو موقف الغرب. سيؤيد الغرب المتظاهرين بمعسول الكلام، ولكنه سيتجنب إغضاب روسيا أو إعطاءها ذريعة تُمكّنها من الحديث عن مؤامرة خارجية برتقالية. وقد يتخذ عقوبات ضد بعض مسئولين تورطوا في القمع.
بالتأكيد مواقف الدول المجاورة لبيلاروس، دول البلطيق وبولندا، تختلف عن مواقف الدول الغربية، وقد يكون هذا موضع دراسة أخرى عندما يتطور الموقف.