قال وزير الداخلية الفرنسي، السيد “جيرالد دارمانان” (وله جد مسلم) في محاضرة ألقاها، الاثنين ٣١ أغسطس ٢٠٢٠، إن الخطر الإرهابي ذا الجذور السنية هو التهديد الرئيسي لفرنسا، وإن الأمن أحبط ٣٢ عملية إرهابية منذ عام ٢٠١٧، وإن الإرهابيين نجحوا في تنفيذ عشر عمليات منذ هذا التاريخ تسببت في قتل عشرين مواطنًا. وأضاف أن تنظيم الدولة الإسلامية توقع هزيمته (في الشام)، ونجح في العودة المنظمة إلى العمل السري وفي زرع عملائه وكوادره في فرنسا، بعضهم يحملون الجنسية الفرنسية، والبعض الآخر نجح في دخول البلاد. وركز وزير الداخلية على الإرهابيين من أبناء “البيئة الفرنسية” على حساب الهجمات الآتية من الخارج، ومالية تنظيم الدولة الإسلامية، وقال إن التهديد يتمثل في تغذية دعاية وخطاب التنظيم، وهو خطاب يحمله قدماء الجهاديين ودعاة التطرف الذين يحاولون السيطرة على الأحياء الفقيرة في الضواحي. وشدد على تصاعد خطر الذئاب المنفردة التي لا تنتمي إلى تنظيم بعينه ولكنها تؤمن بخطاب مشرعن للإرهاب والعنف، وكشف عن قيام الأمن الفرنسي بمراقبة ٨١٣٢ “متطرفًا” مصنفين في ملف “خطرين على الدولة”، وعن وجود ٥٠٥ إرهابيين في السجون، يضاف إليهم أكثر من ٧٠٠ سجين بدا أنهم في “طريقهم إلى التطرف” تحت تأثير الإرهابيين. وقال إن ميعاد الإفراج عن عشرات ممن اشتركوا في التحضير أو في القيام بعمليات إرهابية اقترب بعد انقضاء العقوبة.
ونستطيع أن نضيف إلى هذه الأرقام بيانات وردت في دراسات أخرى، حيث يقول الباحث الدكتور “ميشرون” إن ما لا يقل عن ألفين من الفرنسيين انخرطوا في “الجهاد” في سوريا في تنظيمات مصنفة إرهابية، وإن ٨٠٪ من الخمسة آلاف جهادي أوروبي الذين ذهبوا إلى المشرق للانضمام لتنظيم الدولة الإسلامية قادمون من أربع دول هي فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا.
في هذه الدراسة سنعرض أساسًا لثلاثة كتب صدرت هذا العام تتناول صعود التطرف والإرهاب في المجتمع الفرنسي، منها كتاب حرره سياسي هو “فرانسوا بوبوني” الذي كان عمدة يساريًا لمدينة في ضواحي باريس، وهو حاليًّا نائب في مجلس الأمة، وهو كتاب نعده شهادة بالغة الأهمية، رغم أو ربما بفضل نقاط ضعفه، فالرجل ليس عالمًا أو خبيرًا، ونقاط ضعف خطابه المنتبه إلى خطورة المشروعات الإخوانية أو الجهادية هي نقاط ضعف يشترك فيها العديد من الساسة والكوادر والمثقفين الفرنسيين غير الملمّين بتعقيدات المشهد الإسلامي. ولشهادته نقاط قوة تعود أساسًا إلى كونه عاصر وشاهد تنامي المشكلة ودق جرس الإنذار منذ البداية. الكتاب الثاني عنوانه “الأراضي التي فتحتها الإسلاموية” كتبه مجموعة باحثين شباب فرنسيين من ذوي الأصول العربية، وحرره المشرف عليهم الدكتور “برنار روجييه”، ويرصد صعود وتغلغل الإسلامويين في فرنسا وبلجيكا واستراتيجياتهم للهيمنة أو للتحكم في بعض الأحياء أو في بعض المجالات مثل كتب التنشئة الدينية، والثالث للدكتور “هوجو ميشرون” وعنوانه “الجهادية الفرنسية: الأحياء، سوريا، السجون”، وكما هو واضح يحاول دراسة بروز السلفية الجهادية الفرنسية.
قد يكون من المفيد كمدخل للعرض أن نؤرخ على عجالة لعملية دراسة الظاهرة الإسلاموية، التي نعرّفها بأنها مشروع أو مشروعات تهدف إلى إخضاع تام (قد يكون تدريجيًّا) لكل ما هو سياسي وديني وقانوني وشرعي ومجتمعي ولكل جوانب الحياة ولكل سلوكيات الناس لتفسير ديني بعينه يغلب عليه الغلو المتطرف، ويرمي أيضًا إلى إزاحة أو القضاء على أو على الأقل تهميش التفسيرات الأخرى، مع إدانة صارمة قد تصل إلى حد التكفير لكل من يعترض على تفسير المنخرطين في هذا المشروع لأحكام الدين والشريعة وعلى فهمهم لأولويات السياسة والمصالح. وفي التطبيق يبدأ هذا المشروع عامة ببناء مجتمع موازٍ يشعر أعضاؤه بالتعالي، وينمي فيهم عزلة شعورية ترفض الآخر مسلمًا كان أم لا، وفيما يتعلق بالدراسات الفرنسية حول تلك الظاهرة نكتفي هنا بالقول بوجوب التمييز بين ما أُجري قبل ٢٠١٢/٢٠١٥ وما بعدها، وبالإشارة إلى وجود ما لا يقل عن جيلين للمتخصصين، فإن أبرز نجوم الرعيل الأول هم: “جيل كيبل” Gilles Kepel، و”أوليفييه روا “Olivier Roy، و”فرنسوا بورجا” François Burgat، والمرحوم آلان روسيون Alain Roussillon. لأول ثلاثة عشرات بل مئات من التلاميذ والمريدين، وآخر اثنين شديدا التعاطف مع الظاهرة على اختلاف مقاربتهما لها. أما أول اثنين فمن الصعب تصنيفهما، ويمكن أن نكتفي بالقول إن مواقفهما تغيرت وتطورت، وإنهما تنافسا وما زالا على الريادة في حقل دراسات الإسلاموية، وإن العلاقات بينهما سيئة للغاية.
لا يمكن أن نحصي في هذا المجال القضايا المطروحة، وتشخيص كل منهم للظاهرة ومنهجه في دراستها وتطور فكره وموقفه منها، يكفينا أن نقول إن كيبل وروسيون يوليان اهتمامًا كبيرًا لأدبيات الإسلامويين، على عكس الاثنين الآخرين. وإن هناك من رأى أن الظاهرة تعبر عن أصالة المجتمعات وهويتها وموروثها ونضالها ضد الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي (تأثير فكر طارق البشري واضح وإن بسّطوه تبسيطًا مخلًّا)، والإسلاموية أحد أصوات الجنوب إن لم تكن صوته الوحيد الشرعي في مواجهة الغرب أو الحكام العرب، ومن يرى أنها بالعكس تهمش بل تلغي التراث الثقافي والدين الشعبي وتفصل وتقطع التواصل بين ما هو أيديولوجي عالمي وبين ما هو ثقافي محلي، وآخرون قالوا إنها تجذب من تخلف عن ركب التحديث أو تضرر منه، وغيرهم يقول إن الظاهرة نجحت في أسلمة الحداثة والتحديث وفي حمل راية الإحياء التحديثي للإسلام.
واختلفوا في وصف العلاقة بين ما هو محلي وما هو دولي في الظاهرة وأهمية المكونين ودور العولمة في تقويتها، وفي توقعاتهم الخاصة بمستقبلها، وفي وصف العلاقة الفكرية والتنظيمية (إن وجدت) بين الإخوان والسلفية العلمية والسلفية الجهادية وجماعة التبليغ، وفي إمكان التوفيق بين منظومة (أو منظومات إن قدروا أن الفروق بين تلك الجماعات أهم من المشترك بينها) قيم تلك الحركات ومنظومة القيم الغربية، واختلفوا حول قدرة الإخوان على مقرطة أنفسهم وعلى قيادة مقرطة العالم العربي.. إلخ، وحول رغبتهم وقدرتهم على منع الإرهاب من التمدد وعلى طرح بديل وسطى ومعتدل يكون مقبولًا لدى الغرب ولدى الجماهير الإسلامية، وكما قال بعض المعادين للإخوان من أبناء السلفية الجهادية: “الغرب يريد إسلاميين لا يطبقون الشريعة ويعترفون بإسرائيل ويتعاملون معها”، واختلفوا أيضًا حول دور النموذج العلماني والعلمانيين المتطرفين في توليد المشاعر السلبية والعدوانية التي تؤسس للتطرف ولرفض عادات وقيم المجتمعات الغربية، وفي تحديد الطبقات الحاملة لراية هذه المشروعات، هل هي الطبقات الوسطى المدينية أم الطبقات الوسطى الريفية أم الطبقات الفقيرة أم تحالف من بعض هذه الطبقات أو كلها؟، واختلفوا حول علاقة هذا التيار بالعنف، هل هو عنيف بطبعه؟ هل عنفه رد فعل على عنف الآخرين؟ هل العنف ضروري لتغيير الواقع أم العكس منفر للجماهير ومعطل للمشروع؟ واختلفوا في تقييم خصوصية هذه الحركات: هل هي قوى سياسية تشبه القوى الأخرى؟ أم ظاهرة مختلفة تمامًا؟، كما اختلفوا حول قدرة هذا التيار على استيعاب وعلى التعبير عن كل التطورات المرصودة في سلوك المتدينين العام والخاص.
ولم يتفقوا إلا على القليل، ومنه أن هذا التيار مشروع سياسي قبل أن يكون دينيًّا وله شعارات جذابة، وهو يمثل البديل الوحيد للأنظمة الحالية في العالم العربي وأغلبها بغيض، كما أنه لا يمكن فهم المجتمعات العربية والإسلامية دون دراسة هذا التيار الذي نجح في تأطير المجالين الثقافي والديني وفي دفع الملايين إلى المشاركة السياسية، وهو يمثل تيارًا قويًّا يعبر عن فئات اجتماعية كثيرة (والبعض يقول إنه يعبر عن تطلعات الشعوب كلها)، وإن جازت مقارنته بقوة سياسية في المجتمعات الغربية فهو مماثل للمسيحية الديمقراطية أو لليسار الثوري (الكل له تحليلاته المتنوعة).
ويلاحظ في هذا الصدد أن حساسية الموضوع والاستقطاب السائد حوله يدفعان جميع الباحثين إلى التروي في الكتابة، وإلى إخفاء بعض قناعاتهم فيما يتعلق بالظاهرة وبالمجتمعات التي تنشأ فيها بما فيها المجتمع الفرنسي، ولذلك لا يمكن التعرف على حقيقة موقف كل باحث إلا من خلال مناقشات شفوية مطولة معه. وهناك طبعًا مشكلة أخلاقية، وهي: هل يمكن البوح بما يقال في مجالس مغلقة؟ ومن ناحية أخرى على القارئ عدم التأخر كثيرًا أمام التراشق وإلقاء التهم، فمن السهل جدًّا اتهام دراسة لا تعجب بأن منهجها لم يكن جادًّا، وبأن البحث الميداني لم يحترم أبجديات الأصول وبأنه اعتبر الاستثناء قاعدة والعكس صحيح، وبأن الكاتب قصد التربح السهل ودغدغة مشاعر جمهور إما متعاطفًا أو كارهًا للظاهرة. وقد قلنا في مطلع مقدمتنا إن الوضع تغير بعد ٢٠١٥، وتفصيل هذا أن فترة ٢٠١٢/٢٠١٥ شهدت حوادث إرهابية بشعة على الأراضي الفرنسية وفي باريس، وفشل “الربيع العربي”، واكتشف المجتمع والسلطات حقيقة المشروع الإخواني من خلال ممارساته في أوروبا، فهو مشروع يقوم على بناء “مجتمعات صغيرة مغلقة” إسلامية أو على بناء “نظام وبيئة” إسلامويين في بعض الأحياء أو المدن أو الضواحي يكون بينها وبين باقي المجتمع قطيعة، مما دفع الرئيس ماكرون إلى التنديد بمشروع “انفصالي”.
وقد ترتب على ذلك ما يلي: تراجع مصداقية تطمينات الخبراء والأكاديميين لدى جمهور المتابعين للشأنين العام والثقافي من نخب ومثقفين، وتراجعت أسهم عرّابي المشروع الإسلاموي وفقدوا مصداقيتهم أمام الرأي العام، وتشجع المتحفظون والمعارضون للمشروع من مسلمين وغير مسلمين وكثفوا من مجهوداتهم لعرض وجهة نظرهم، واهتم الرأي العام بكل مكوناته بتتبع الجدل بين المتخصصين. هذه المرة انفجر الجدل على الساحة العامة، وكان الفرقاء: “كيبل” ومريدوه من ناحية، و”روا” ومريدوه من ناحية أخرى، وقد يبدو الخلاف بينهما سخيفًا وسطحيًّا، ولكنه ليس كذلك من حيث التبعات والنتائج. باختصار قال “روا”: “لن ندخل في التراشق حول الصاحب الأصلي للتشخيص”. إنه ليس من الدقيق أن نقول إن الإسلام والمسلمين تطرفوا، بل الصحيح أن التطرف تأسلم، ويقصد بهذا أن المجتمعات الأوروبية والعربية تخلق بيئة دافعة إلى التطرف العنيف، فهي ظالمة اقتصاديًّا، والفوارق بين الطبقات تزداد، والخطاب الليبرالي السائد لا معنى له، والفردية الأيديولوجية والسلوكية والثقافية تتسبب في تفتت أسري وانحلال أخلاقي وتخلق ميولًا عدمية، كل هذا الظلم والفراغ ينتج شخصًا متطرفًا يبحث عن شرعنة لحقده ولإطلاق العنان لعنفه العدمي المكبوت الساعي إلى تدمير المجتمع البغيض، وهذا الشخص يبحث عن هذا المشرعن في سوق الأفكار والتيارات، ويجد الفكر السلفي الجهادي في صورته المبسطة، ولو لم يجد هذا الفكر لتوجه إلى غيره، لفكر يساري مثلا. ويرى “روا” في ارتفاع نسبة من اعتنق الإسلام على كبر (أي لم يولد في عائلة مسلمة) في صفوف الجهاديين وعلى الجهل المذهل لأبجديات الدين عند الجهاديين برهانًا على كلامه.
من جهة أخرى، اعترض “كيبل” بشدة على تحليل “روا”، وأرجعه إلى ميل “روا” لإنكار أهمية الخطاب ودلالاته وقوته الحاشدة والدعاية وشبكات وآليات التجنيد، وقال “كيبل” إن صعود المشروع الإسلاموي والإرهاب يعود إلى تطور موازين القوى في حقل الخطاب الديني والسياسي الإسلامي، وإلى قيام الحروب الأهلية والفتن (عنوان أحد كتبه) بين أبناء الأمة الإسلامية حول الفهم الصحيح لتعاليم الدين الحنيف، وإلى بروز ظاهرة المجاهدين المعولمين الذين يقاتلون في أفغانستان ثم في البوسنة ثم في إفريقيا.. إلخ. باختصار، يتمسك هو بمقولة إن المسلمين أو قطاعات منهم تطرفوا، وإن تطور “البضاعة الدينية” المنتجة في جنوب المتوسط وفي الشرق الأوسط وفي الخليج يلعب دورًا هامًّا في نمو الظاهرة. هو طبعًا لا يُنكر دور المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في بروزها، ولكنه يرى أن “روا” مخطئ لأن تبعات كلامه هي ضرورة دراسة التطرف كظاهرة عامة اجتماعية ونفسية لا تخص دينًا أو تيارًا معينًا، وأن حلها يقتضي معالجة الأسباب التي تدفع قطاعات من الشعوب الأوروبية أو العربية والتي ليست جميعها مسلمة إلى التطرف العنيف، بينما يرى “كيبل” أن الحل بين أيدي المسلمين المعارضين للفهم الإسلاموي للدين، وأن فهم الظاهرة الإسلاموية يقتضي فهم ما جرى وما يجري في الحقل الديني الإسلامي محليًّا وعالميًّا، وأن فرنسا تستطيع دعم الأجنحة التي تدافع عن فهم للدين يتفق والقيم الغربية وضرورات العيش المشترك ومراقبة نوعية “البضاعة” المعروضة.
يلاحظ أن الاثنين يعتقدان أن منظومة قيم المتأسلمين تتعارض كلية مع قيم الجمهورية الفرنسية، ولكن “كيبل” حريص على تذكرتنا دائمًا بهذا، بينما لم يقر “روا” بهذا إلا نادرًا. ويلاحظ أنهما يختلفان في تقييمهما للمسلم غير المتأسلم. يبدو لي أن “كيبل” يراه متأثرًا بدرجات متفاوتة بخطاب القطيعة الآتي من الخليج، بينما لا يرى “روا” هذا.
وعلى العموم فإن الكتب التي سأقوم بعرضها لاحقًا هي كتب لتلاميذ “كيبل”.