ا
احتفل لبنان في الأول من سبتمبر بالذكرى المئوية لميلاده؛ ففي ذلك اليوم قبل مائة عام تم الإعلان عن ميلاد لبنان الكبير. يومها كان بعض اللبنانيين في قمة السعادة والشعور بزهو الانتصار، وكان بعضهم الآخر مصدوما يشعر بهزيمة ثقيلة؛ فيما كان لدى البعض الآخر مشاعر مختلطة مشوشة. بعد مائة عامة لم يكن هناك بين اللبنانيين من يشعر بالسعادة، ويزهو بالانتصار؛ ولا كان بينهم من اختلطت عليه المشاعر. فقط كان هناك لبنانيون مصدومون، حزانى لما حل ببلدهم، مفزوعين من المصير الذي ينتظره. الشيء الوحيد المشترك بين لبنان اليوم، ولبنان قبل مائة عام، هو فرنسا، التي أعلن قائد جيوشها ميلاد لبنان قبل مائة عام، ليأتي اليوم رئيسها ليحذر اللبنانيين من ضياع بلدهم.
لبنان ليس هو الوطن والدولة الوحيدة المأزومة في المشرق العربي، فهناك أيضا سوريا والعراق. لقد خرجت كل هذه الدول للوجود بشكل متزامن مع إنشاء لبنان، وكان كل هذا نتيجة لتفاهمات سايكس بيكو، بين الفرنسيين والانجليز، حول طريقة التصرف في التوابع العربية للدولة العثمانية التي انهزمت في الحرب العالمية الأولى.
وقع القسم الأكبر من العالم العربي تحت حكم الأتراك لقرون، لكنه لم يكن موحدا بأي معنى. باستثناء مصر التي حافظت على وحدتها وتكاملها الإداري طوال الوقت، فقد قسم الأتراك بلاد العرب إلى ولايات صغيرة، تمتعت بحكم ذاتي عميق في أغلب الأحوال، مقابل دفع الخراج، والدعاء للسلطان على المنابر. كان لكل ولاية نظام إدارتها الخاص، وطبقتها وسلالتها الحاكمة الخاصة بها، وكانت وحدة بلاد العرب المزعومة أمرا شكليا تماما، ناهيك عن أن العرب كانوا قد توقفوا عن إعطاء أي معنى سياسي لعروبتهم منذ زمن الأمويين، فقبلوا الخضوع لحكم سلالات متتابعة من الفرس والأتراك والمماليك الشراكسة.
اتفاق سايكس بيكو هو اتفاق بين قوى استعمارية، ليس في هذا شك؛ وهو بالتأكيد لم يكن عملا تطوعيا خيريا، يستهدف النفع العام؛ غير أن هذا ليس سببا كافيا لشطب الاتفاق، واعتباره رجس من عمل الشيطان. حول الاستعماريون العراق وسوريا ولبنان إلى دول، بعد أن كانت تحت الحكم التركي مجموعة كبيرة من الولايات الصغيرة. لم تعجب دول سايكس بيكو العرب، لأنها كانت أصغر مما ينبغي، فاعتبروها مؤامرة استعمارية تستهدف تقسيم بلاد العرب؛ ولم يدخروا جهدا لتقويض دولة التجزئة العربية المصطنعة، ونزع الشرعية عنها؛ وانشغلوا بالتفكير في تحقيق الوحدة العربية، حتى تحولت عقيدة الوحدة إلى أكبر تيار وقوة سياسية في تاريخ عرب القرن العشرين.
هيمنت التيارات الوحدوية على السياسة العربية في سنوات الفتوة والفوران، لكن الوحدة لم تحدث. توحدت مصر وسوريا لفترة قصيرة، عاد بعدها كل شيء إلى أصله. حكمت الأحزاب الوحدوية سوريا والعراق وبلاد عربية أخرى، لكن الوحدة لم تتحقق؛ فهل قسم سايكس بيكو العرب فعلا؟ هل كان العرب ليصبحوا أحسن حالا لو أن سايكس بيكو حولت العراق وسوريا إلى دولة واحدة؟ هل كان الحفاظ على دولة فيها الشيعة والعلويين والسنة والأكراد السوريين والعراقيين مجتمعين أسهل من الحفاظ على الدول الأصغر نطاقا في سوريا والعراق الحاليتين؟ هل كان لبنان ليصبح أحسن حالا لو تم دمجه مع سوريا في دولة واحدة؟ وهل كانت الحرب الأهلية السورية الراهنة لتشمل لبنان أيضا؟
لم يفشل الحكام العرب فقط في تحقيق الوحدة، لكنهم فشلوا أيضا في الحفاظ على الدول التي آلت إليهم عبر سايكس بيكو. عدم الاستقرار والتشظي والصراعات الأهلية المسلحة في بلاد المشرق توحى بأن الدول التي خلقها الاستعماريون في سايكس بيكو كانت أكبر، وليست أصغر، مما ينبغي، كما استقر في الفكر السياسي العربي لعقود طويلة. ماذا لو أسس الاستعماريون دولة للشيعة، وثانية للسنة، وثالثة للكرد في العراق؟ وماذا لو أنشأوا في سوريا دولة للعلويين حول اللاذقية، وثانية للدروز في حوران، ودولتين للسنة في حلب ودمشق؟ لو فعل الاستعماريون هذا لأعطونا أسبابا أقوى لصب اللعنات عليهم رفضا للتجزئة، لكن ربما كانت دول العرب لتصبح أكثر انسجاما واستقرارا، وأقل قلقا على هويتها، وأقل فشلا في الاتفاق على قواعد اقتسام الثروة والسلطة.
دعك من هذه الحجج الافتراضية، فليس القصد من هذا المقال الدفاع عن الوحدة أو الدعوة لتقسيم الدول العربية، وإنما التأكيد على قيمة الدولة التي بين أيدينا، بغض النظر عما إذا كنا أقمناها بأنفسنا، أم منحها الاستعمار لنا؛ وبغض النظر عما إذا كنا راضين عن حدودها، أم كنا نفضلها أكبر أو أصغر قليلا أو كثيرا.
لقد اعتدنا لعقود طويلة صب اللعنات على سايكس بيكو لأنه قسم العالم العربي. انشغل الفكر السياسي العربي بقضية الوحدة الغائبة، بينما كان عليه الانشغال بالدولة التي وصلته عبر سايكس بيكو. ألف المثقفون العرب آلاف الكتب والمقالات عن الوحدة العربية، لكنهم لم يفكروا في الدولة، أو يكتبوا عنها شيئا ذو قيمة، ونتيجة ذلك معروفة. لقد بقيت الوحدة العربية سرابا غير قابل للتحقيق، فيما الدولة العربية التي بين أيدينا تكاد تضيع.
الدول لا تتكون حسب أمزجة وأهواء المثقفين والنشطاء، لكنها تتكون عندما تتجمع وتنضج ظروف تاريخية موضوعية أقوى من كل رغبة أو إرادة؛ وسايكس بيكو كان هو فرصة عرب المشرق لبناء دولتهم. لعب الاستعمار دورا كبيرا في إنشاء دولة المشرق، وها هو يعود لمساندتها، ممثلا في شخص الرئيس الفرنسي. التبعية للخارج ليست شيئا يمكن الاحتفاء به، والطريقة الوحيدة للتحرر من التبعية هو بناء دول حقيقية تستحق هذا الاسم. من لم يحصل على دولة في سايكس بيكو لن يحصل عليها أبدا، ولنتأمل حال الفلسطينيين والأكراد. من يضيع الدولة التي وصلته بطريق سايكس بيكو فعليه القبول بدويلات الطوائف والعرقيات والميلشيات، وهو ما تشهد به الأوضاع في سوريا والعراق ولبنان. تمسكوا بالدولة؛ أصلحوها، لكن لا تهدموها مهما جارت عليكم، فالشعوب تتحول في غياب الدولة إلى قطعان من الأيتام.