يُعد التضخم من المؤشرات الاقتصادية المهمة التي ينشغل بها المجتمع بأسره، سواء رجال الأعمال أو المواطنون العاديون نظرا لتأثيره على كل مناحي الحياة اليومية، خاصة أن التضخم هو العدو الرئيسي لأصحاب الدخول الثابتة من مكتسبي الأجور وأصحاب المعاشات، ناهيك عن آثاره على السياسة النقدية التي تهدف أساسا إلى الحد من الضغوط التضخمية وضبط الأسعار، فضلا بالطبع عن السياسة المالية وغيرها.
من هنا تأتى أهمية القراءة الدقيقة للتغييرات التي تحدث في هذا المؤشر، كما عكسه الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في تقريره الأخير عن الأرقام القياسية لأسعار المستهلكين والذي أشار إلى استمرار التراجع في معدل التضخم السنوي لإجمالي الجمهورية محققا 3.6% خلال أغسطس، مقابل 4.6% في يوليو، 6% خلال يونيو. وهي أنباء طيبة ويمكن أن تُحدث أثرا إيجابيا، وتحقق بعض المكاسب. ويصبح التساؤل هو هل يسير الاقتصاد على مسار النمو غير التضخمي؟ أم أنها ظاهرة مؤقتة؟ مع الأخذ بالحسبان أن الهدف الأساسي للسياسة الاقتصادية ليس هو تحقيق معدل تضخم يساوى صفرا، بل الوصول إلى معدل تضخم معتدل يدعم الاستقرار الاقتصادي ويجعل الاقتصاد في حالة توازن حركي منتظم يزيد من الناتج المحلي.
التراجع في هذا المؤشر يرجع لعدة أسباب، يأتي على رأسها أسباب إحصائية، ترتبط بمنهجية حساب الرقم القياسي لأسعار المستهلكين، حيث تم، اعتبارا من أكتوبر 2019، تغيير سنة الأساس لتصبح 2018/2019. كما تم تغيير الأوزان النسبية للاستهلاك اعتمادا على نتائج بحث الدخل والإنفاق عن عام 2017/2018 بدلا من عام 2008/2009. ولذلك انخفض الوزن النسبي لنسبة الطعام والشراب في المؤشر من 44.2% إلى 35.9%. وفى المقابل ارتفعت الرعاية الصحية من 6% إلى 9%، والنقل والمواصلات من 4.6% إلى 6.1%، وكذلك التعليم من 3.5% إلى 4.4%..
ثاني العوامل يتعلق بانخفاض القوى الشرائية، وذلك لعدة أسباب يأتي على رأسها الآثار السلبية لفيروس كورونا والذي أدى إلى انخفاض دخول 75% من الأفراد، وذلك نظرا لأنهم تركوا العمل نهائيا، أو أصبحوا يعملون أيام عمل أقل أو ساعات عمل أقل من المعتاد، أو يعملون عملا متقطعا. فضلا عن ارتفاع معدل البطالة إلى 9.6% خلال الربع الثاني من عام 2020، ناهيك عن انخفاض حجم قوة العمل من 29 مليون خلال الربع الأول من العام إلى 26.7 مليونا في الربع الثاني بسبب انسحاب البعض من سوق العمل.
ولا يخفى ما لذلك من آثار على مستويات الإنفاق والفقر، خاصة إذا أخذنا بالحسبان نتائج بحث الدخل والإنفاق 2017/ 2018 والتي أشارت إلى أن انخفاض نصيب الفرد من الإنفاق، خاصة لدى العُشير الأدنى من المجتمع، قد أدى إلى زيادة نسبة الفقراء بمقدار6.6 نقطة مئوية، فضلا عن النتائج المهمة لبحث الجهاز المركزي للإحصاء، الذى تناول كيفية تعامل الأسر مع نقص الدخل، حيث أشار إلى أن 93% من الأسر قد اعتمدت على أنواع أرخص من الغذاء، و20% قاموا بتقليل كميات الطعام أو تقليل عدد الوجبات اليومية وبالتالي انخفضت مستويات الاستهلاك الفعلي. ولذلك هبط معدل نمو الاستهلاك الخاص إلى 0.9% خلال العام المالي 2018/2019 مقابل نحو 4.6% عام 2015/2016 وكذلك الاستهلاك العام الذي هبط من 3.9% إلى 2.8% خلال نفس الفترة نفسها، وبالتالي هبطت نسبة الاستهلاك النهائي للناتج المحلى الإجمالي من 98.2% عام 2016/2017 إلى 90.6% عام 2018/2019، وانخفضت نسبة مساهمته في معدل النمو إلى أقل من 1%، وأصبحت معدلات نمو نصيب الفرد من الاستهلاك سالبة.
يضاف إلى ما سبق القانون الخاص بخصم 1% من أجور العاملين بالدولة، و0.5% من أصحاب المعاشات، خاصة أن زيادة الأجور تعد من أهم الطرق التي تستطيع بها الحكومات ضمان الحد الأدنى من مستويات المعيشية اللائق لقطاعات لا بأس بها من السكان.
وثالث العوامل يرجع لانخفاض التضخم المستورد نتيجة لتراجع الواردات من جهة وانخفاض الأسعار العالمية من جهة أخرى. وهنا تشير الإحصاءات إلى أن الواردات المصرية قد تراجعت بنسبة 20% خلال عام 2019/2020 مقارنة بالعام السابق، وذلك بعد التراجع في الواردات من السلع الغذائية، سواء الأولية أو المصنعة للاستهلاك، وكذلك مستلزمات الإنتاج والسلع الاستهلاكية المعمرة. وهنا نلحظ أن الصادرات المصرية من معظم هذه المجموعات قد تراجعت أيضا. ويمكننا تفسير ذلك إما أنها اتجهت إلى السوق المحلية للإحلال محل الواردات أو لانخفاض الإنتاج أصلا نتيجة لتوقف بعض المصانع عن الإنتاج.
يضاف إلى ما سبق الانخفاض المستمر والمتتالي في أسعار الفائدة خلال الفترة الماضية، وبالتالي الانعكاس الإيجابي على خفض تكلفة المنتجات. فضلا عن تراجع عجز الموازنة العامة. كل هذه الأسباب مجتمعة أدت إلى الحد من الآثار السلبية لارتفاع أسعار بعض الخدمات الحكومية على معدل التضخم، ولكنها تشير وفى نفس الوقت إلى ضرورة الفهم الدقيق للمسألة. بعبارة أخرى، يجب ألا نتخذ كذريعة لإجراءات مثل رفع أسعار الخدمات أو السلع الحكومية أو اتخاذ إجراء يقلل من الدخول النقدية للأفراد بحجة انخفاض التضخم، بل العكس هو المطلوب. إذ ان الاستمرار في انخفاض معدل التضخم رغم أنه تطور إيجابي يجب البناء عليه، ولكنه يحتاج إلى عناية فائقة، حتى لا يترتب عليه نتائج سلبية، خاصة أن هذا الانخفاض كان مدفوعا في الأساس بضعف الطلب وتحولات النمو في الأساس باتجاه الاستثمار العقاري والغاز الطبيعي وتراجع أسعار السلع الأولية. ولهذا كان التراجع أكبر في أسعار المنتجات الصناعية منه في أسعار الخدمات وهنا يجب الحرص على ألا يؤدى انخفاض التضخم إلى عزوف المستثمرين والأفراد عن الإنفاق والاستثمار، مما يُحْدِث تقلصا في الطلب يتسبب في ضغوط انكماشية وعرقلة النمو الاقتصادي. بعبارة أخرى، يجب العمل على زيادة القوى الشرائية للمواطنين والتضحية بجزء من عجز الموازنة لتنشيط الطلب وإعادة عجلة الإنتاج للدوران.