شهدت العاصمة أنقرة خلال يومي 15 و16 من سبتمبر الحالي اجتماعات مكثفة بين القيادات التركية ونظيرتها الروسية، تضمنت لقاءات بين وفود البلدين على المستوى العسكري والأمني، وآخر شمل الجانب السياسي، بهدف النقاش حول آلية العمل في محافظة إدلب بالخصوص، وفق المعلن، رغم أن الزيارة الموسعة كانت معنية ببحث مجمل الأوضاع في داخل المنطقة التي تشملها تفاهمات «سوتشى». هذا ما جاءت المجموعة العسكرية الروسية لوضعه على مائدة وزارة الدفاع التركية، واختصت به اجتماع يوم 16 بمقر الوزارة، وتعمدت أن يتزامن ذلك مع تصعيد ميداني نفذه الروس بأنفسهم، كي تكون إشارة لا تخطئها العيون التركية، القابعة في نقاط المراقبة العسكرية بمناطق تسمت بـ«خفض التصعيد» وفق التفاهمات.
تركيا التي دعت إلى هذا الاجتماع الموسع تستشعر قلقاً كبيراً على الأرض بعد العديد من متغيرات موازين القوة، وترى أن هناك بساطاً ظل ممتداً لسنوات سمح لها بحرية الحركة العسكرية، بات اليوم يُسحب تدريجياً من تحت أقدامها بأيادٍ روسية صارت أكثر إحكاماً على مفاتيح الحركة، بل وسمحت للنظام السوري أيضاً أن يسترد بعضاً من عافية القدرة على إحداث إزعاج لا يستهان به. تمثل هذا الأخير في عمليات الحشد لتظاهرات محلية ضد «النقاط العسكرية» التركية، التي باتت تقع ضمن مساحة جغرافية تسيطر عليها قوات النظام وأخرى مدعومة روسياً، مما شكّل ضغطاً أمنياً بدا العسكريون الأتراك في حاجة لتغيير معادلته على نحو عاجل، فلم يكن هذا الملمح الأخير سوى مشهد واحد من متغيرات تمثل تهديداً حقيقياً للوجود التركي برمته في تلك المنطقة، قدّرها العسكريون الأتراك في الاجتماعات الأخيرة بأنها تنذر بتقويض تفاهمات «سوتشى» بكاملها.
فأنقرة ترى أن المناطق التي توغل فيها النظام السوري نهاية 2019، وفى الشهور الأولى من عام 2020، يجب وضعها تحت حماية قوى أمنية مشتركة تشرف أنقرة وموسكو على إعدادها، في حين ترى روسيا وتدعم تثبيت الوضع الراهن بسيطرة قوات النظام على تلك المناطق. هذا ترافق مع استجابة موسكو لفتح الطرق الدولية قبل التوصل إلى تفاهم شامل يضمن أمن إدلب وما حولها، وهذا ما ناقشه الوفد الأمني الروسي في أنقرة، حيث أكد على ضرورة فتح طريق (M 4) الذي تشرف تركيا حتى الآن على أجزاء مهمة منه، دون أن يتطرق الوفد في المباحثات الأخيرة لأي دور تركي فيما يخص طريق (M 5)، فالوفد الأمني يسعى لتوسعة الدور الروسي ليشمل كافة المناطق المحاذية لطريق (M 4)، تذرعاً بالتهديدات الأمنية المستمرة لمسار الدوريات المشتركة، وبالمصالح الروسية التي تتهددها الهجمات المسلحة في هذه المنطقة. هذه الرغبة بالطبع لا تلقى قبولاً لدى الأتراك الذين استشعروا بأن هناك صياغة لآلية «نزعهم» من تلك المناطق الهامة، التي ظلت أنقرة تعتبرها «الحصاد» الذي خرجت به من سنوات الانخراط في الأراضي السورية، وما تكبدته فيها من كلفة كبيرة، تتقوض الآن بتسارع روسي، وصل إلى حد صياغة توافق روسي كردى صار يهدد أيضاً مصير منطقتي «تل رفعت» و«منبج» في ريف حلب، حيث طالبت تركيا بإلحاح في جلسة المباحثات السياسية بتنفيذ روسيا لالتزاماتها في اتفاق سابق، نص على تسليم المنطقتين لفصائل المعارضة المسلحة الموالية لأنقرة.
الوفود الروسية بالطبع استمعت لتلك المطالب التركية، لكن تنفيذها على الأرض يظل محل شك، فالقوة العسكرية الروسية ستستخدم دون شك التصعيد الميداني، استباقاً لقيام تركيا من جانبها بممارسة ضغوطات مسلحة بهدف تسريع الوصول إلى تفاهم كامل، فما ذكرته أنقرة في أروقة الاجتماعات لنظرائها الروس أنها بالتأكيد تسعى إلى تثبيت اتفاق دائم وشامل لإطلاق النار، يحافظ على مناطق النفوذ الحالية، تمهيداً لترتيبات الحل السياسي النهائي. لكن ربما المشهد يسير عكس هذا التوجه التركي الحالم، فروسيا في المقابل طرحت خطة لإعادة انتشار نقاط المراقبة التركية في إدلب، وطرحت في لقاء وزارة الدفاع أهمية سحب السلاح الثقيل منها باتجاه الأراضي التركية، وما تسرب من نتائجه أن أنقرة أبدت خلال الاجتماعات مرونة حيال مسألة سحب السلاح الثقيل من سوريا، مع تشبثها بالاحتفاظ بنقاط المراقبة. في كل الأحوال بدت الوفود الروسية وهي قادمة إلى أنقرة، لديها النية لطرح معادلة جديدة كلياً على الأراضي السورية، فموسكو دخلت مرحلة تفكير مختلفة في سوريا، أساسها إنهاء الوجود التركي، خاصة بعد أن تمكن الجيش الروسي من إعادة سيطرة النظام على مناطق واسعة من البلاد، خلال السنوات الخمس الماضية. وهي ترى أن الأوضاع الميدانية التي تم خلالها التوقيع على اتفاق «آستانا»، الذي مُنح الأتراك بمقتضاه فرصة الدخول إلى سوريا عام 2017، قد تغيرت بشكل كامل، حيث تحول الروس اليوم إلى اللاعب الأكبر في المعادلة السورية والظروف باتت أفضل على نحو كبير.
الجيش الروسي عام 2017 كان يبحث عن انتصارات حاسمة دون تكبد خسائر بشرية، ووافق على تحقيق ذلك مقابل دخول الجيش التركي إلى مناطق خفض التصعيد، حتى يضمن الحماية من هجمات التنظيمات التي كانت حينها على درجة عالية من الجاهزية البشرية والتسليحية. اليوم، ومع تراجع تلك القدرات لدى المعارضة المسلحة، فقدت تركيا أهم أوراقها ضمن الوضع الراهن، لا سيما أن روسيا سيطرت فعلياً على المناطق الهامة في «حلب» و«إدلب» و«حماة»، وهي مناطق انتشار وارتكاز تلك المجموعات، بل وتنامى حجم السيطرة الروسية في الشمال السوري ككل.
النظام التركي لا يملك اليوم في سوريا الكثير من الخيارات، بعد أن بدد رصيده من الميليشيات والتنظيمات المسلحة، عبر دفعهم للانخراط في حروب مع الفصائل الكردية استهلكتهم وتسببت في شرذمتهم، وبدا وهو يستجدى اللقاء الموسع الأخير مع الروس وكأنه يبحث عن أطواق نجاة، من واقع يذهب لخلعه بصورة نهائية من الأراضي السورية، قد يكون بعيداً نسبياً حتى اللحظة، لكنه بدأ على أي حال، ويشعر الأتراك بوطأته عبر عشرات التفاصيل التي تحاصرهم يومياً من كافة الجهات.