مَثّل وضع مخيم الهول تحديًا كبيرًا أربك صانعي السياسات إقليميًّا ودوليًّا، ولا سيما في ضوء حالة عدم الاستقرار التي يشهدها على خلفية كثافة أعداد القانطين فيه، بالتوازي مع تصاعد الخطاب الداعشي، ناهيك عن انعدام سبل الحياة، ما يُمثل معضلة كبرى ستنصرف تداعياتها إلى أمن المنطقة ككل.
ويحاول هذا المقال إلقاء الضوء على ملامح مخيم الهول، واستعراض أبرز الإشكاليات المتعلقة به، مع محاولة استشراف السيناريوهات المستقبلية.
الملامح العامة في مخيم الهول
يُعد مخيم الهول أكبر مخيم للنازحين في شمال شرق سوريا. ويقع في مدينة الهول بالقرب من الحدود السورية العراقية. وقد تم إنشاؤه بواسطة الأمم المتحدة لاحتجاز اللاجئين من العراق في عام 1991. وفي عام 2016، أعادت قوات سوريا الديمقراطية فتح المخيم مرة أخرى، حيث يضم المخيم الأشخاص الذين فروا من تنظيم “داعش” من ناحية، والعائلات المرتبطة بالتنظيم من ناحية أخرى. ويتميز مخيم الهول عن مخيمات النازحين الأخرى في شمال شرق سوريا كالروج وعين عيسى (الذي انهار بعد الغزو التركي) بأن سكانه أكثر ارتباطًا بتنظيم “داعش” وأكثر تطرفًا من أولئك المحتجزين في المخيمات الأخرى.
في يناير 2020، بلغ عدد المقيمين في مخيم الهول حوالي 66101 شخص، حيث الغالبية العظمى من النساء والأطفال. وتتنوع الجنسيات ما بين العراقيين الذين يمثلون حوالي 46% من السكان بما يعادل (30724) شخصًا، والسوريين الذين يمثلون 39% من السكان بما يعادل (25780) شخصًا، وجنسيات أخرى يمثلون حوالي 15% من المقيمين فيه، بما يعادل (9597) شخصًا. ومن الجدير بالذكر أن السعة القصوى للمخيم تبلغ 40 ألف شخص فقط. ومن ثم، ومع زيادة أعداد المقيمين بالمخيم في أعقاب سقوط “الباغوز” (آخر معاقل نفوذ تنظيم “داعش”) في نهاية مارس 2019، بالتزامن مع الغزو التركي لشمال سوريا في أكتوبر 2019، ساءت الأوضاع داخل المخيم وزادت حالة عدم الاستقرار.
وقد تغيرت التركيبة السكانية لمخيم الهول بشكل كبير مع سقوط “الباغوز”، إذ بلغ عدد سكان المخيم في نهاية مارس 2019، حوالي 74000 شخص. وفي الفترة بين مارس وديسمبر 2019، انخفض عدد السكان ببطء؛ ليس فقط بفضل الجهود التي تبذلها قوات سوريا الديمقراطية لإعادة بعض النازحين إلى أوطانهم ولكن أيضًا بسبب بعض عمليات الهروب.
ومنذ بداية عام 2019، تم تقسيم المخيم إلى قسمين؛ القسم الأول خاص بالسوريين والعراقيين، ويمثل القسم الأكبر في المخيم. والقسم الثاني المعروف باسم “الملحق”، ويضم الأجانب. ويُسمح للمحتجزين في القسم الأول المخصص للعراقيين والسوريين بمزيد من حرية الحركة رغم أنهم لا يستطيعون مغادرة المخيم. كما يسمح لهم بالتواصل مع العالم الخارجي عبر استخدام نظام الحوالة لتحويل الأموال، وعبر استخدام الهاتف المحمول.
وفي السياق ذاته، يوجد تدفق مستمر للأموال إلى عائلات “داعش” داخله من خلال الحوالات المالية الصادرة من داخل وخارج سوريا، حيث تأتي تلك الأموال من حوالي 40 دولة مختلفة. وتُستخدم تلك الموارد المالية في رشوة المسئولين، وشراء الوثائق المزورة، ودفع المال للمهربين لنقل عائلات التنظيم خارج مخيم الهول.
وتعمل نساء “داعش” داخل مخيم الهول على نشر أفكار التنظيم بين صفوف السوريين والعراقيين القاطنين هناك، ناهيك عن قيامهن بدور كبير في نقل أيديولوجيا التنظيم عبر غرس أفكاره ومعتقداته في عقول أطفالهن. ومن يتتبع نشاطهن يصل إلى قناعة مفادها أن تحركهن يأتي بشكل مُنظم وليس عشوائيًا، إذ يُمكن القول إنه يسير وفق نهج مخطط ومدروس.
إشكاليات متعددة
في ضوء ما تقدم، هناك جُملة من الإشكاليات المتعددة، التي يمكن إجمالها على النحو التالي:
الإشكالية الأولى: تتعلق بتفاقم الأوضاع داخل مخيم الهول، فعلى الرغم من الجهود الدولية والإقليمية التي تهدف إلى تحسين نمط الحياة وسبل المعيشة داخله؛ إلا أن أوضاع المخيم تشهد حالة شديدة من التدهور على مدار الشهور السابقة، ولا سيما في ضوء أزمة الصحة العالمية التي خلقت حاجة ملحة لمعالجة المشاكل المتوطنة داخله، الأمر الذي قد تنصرف تداعياته إلى أمن المنطقة ككل.
الإشكالية الثانية: أن استراتيجية التنظيم الشهيرة المعروفة “بكسر الجدران” لا تزال ممتدة منذ “أبي مصعب الزرقاوي” (الذي أسس جماعة “التوحيـد والجهاد” والتي كانت النواة الأولى لتأسيس تنظيم “داعش”)، إلى “إبراهيم الهاشمي القرشي” (القائد الحالي لتنظيم داعش). إذ تحتل استراتيجية “تحرير الأسرى” جزءًا أساسيًا في أدبيات التنظيم، فلا يخلو خطاب من خطابات قيادته وناطقيه الإعلاميين من الإشارة إلى وجوب “تحرير الأسرى”.
ومن المؤكد أن الهجوم العنيف الذي قام به التنظيم في شهر أغسطس الماضي على السجن المركزي في مدينة “جلال أباد” بولاية “ننغرهار” في أفغانستان نموذج مصغر لما يمكن فعله في مخيم الهول، إذا ما أتيحت الظروف المناسبة لتنفيذ مثل هذه العملية، حيث أسفر الهجوم عن تحرير نحو 300 عنصر من عناصر تنظيم “داعش”.
الإشكالية الثالثة: تتعلق بالعلاقة القائمة بين تنظيم “داعش” وعصابات الجريمة المنظمة، حيث استفاد التنظيم من الخدمات التي تقدمها شبكات التهريب، ليس فقط من أجل تهريب نسائه وأطفاله من مخيم الهول، ولكن أيضًا لنقل عناصره عبر الصحراء إلى المناطق التي لا يزال التمرد قويًّا فيها، بهدف التمهيد لشن هجمات مستقبلية، أو إعادة إحياء الخلافة مرة أخرى. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى وجود طريقين لتهريب عناصر “داعش” من مخيم الهول: الطريق الأول عبر الانتقال برًّا إلى تركيا أو لبنان أو العراق، حيث السفر إلى أديس أبابا أو إلى إسطنبول، ثم السفر جوًّا إلى أمريكا الجنوبية ثم إلى الدول الأوروبية عبر استخدام جوازات السفر المزورة. الطريق الثاني، عبر الانتقال برًّا إلى لبنان أو تركيا، ثم السفر جوًّا إلى ماليزيا، ثم إلى سنغافورة ثم إلى دولة أوروبية.
الإشكالية الرابعة: تنصرف إلى نجاح التنظيم في جمع الأموال عبر الإنترنت لتحرير نسائه من مخيم الهول، إذ أطلق التنظيم عددًا من القنوات على منصات التواصل الاجتماعي من أجل جمع التبرعات عبر Pay pal (هو موقع ويب تجاري يسمح للمستخدم بتحويل المال عبر الإنترنت)، وبالرغم من حذف التليجرام لتلك القنوات عدة مرات، إلا أن التنظيم يقوم بإعادة إنشائها وإعادة تسميتها واتخاذ إجراءات لتأمينها. ومن ثَمّ، مكنت تلك القنوات التنظيم من جمع آلاف الدولارات في فترة زمنية قصيرة، ساعدته في تهريب عناصره.
الإشكالية الخامسة: تُشير إلى ظهور جيل جديد من الإرهابيين؛ إذ يضم مخيم الهول عشرات الآلاف من الأطفال، بعضهم وُلد في كنف تنظيم “داعش”، وبعضهم وُلد لأبناء عناصر ينتمون للتنظيم. ومن ثَمّ يمثل هؤلاء الجيل القادم من كوادر وقيادات “داعش”، وذلك في ضوء تعرضهم للفكر المتطرف من قبل أمهاتهم، وترسيخ فكرة الثأر من هزيمة التنظيم. ناهيك عن عدم توافر سُبل الاستقرار النفسي والتعليمي التي من الممكن أن تساعد على تنشئة أطفال أسوياء.
سيناريوهات محتملة
في ضوء تلك المعطيات هناك عدد من السيناريوهات الحاكمة لمستقبل مخيم الهول، والتي يمكن إجمالها في السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول- استعادة الدول مواطنيها المنتمين لتنظيم “داعش”:
يُشير هذا السيناريو إلى احتمالية توصل الدول لاتفاق يتضمن استعادة مواطنيها الذين انتموا لتنظيم “داعش”، سواء كانوا في العراق أو سوريا. وتتراجع احتمالات هذا السيناريو بالنظر إلى جملة من المحددات، يتعلق أولها بأن أغلبية الدول تفتقر إلى قوانين تستطيع من خلالها مقاضاة من سافروا للانضمام إلى “داعش”. وينصرف ثانيها إلى تخوف الدول من قيام تلك العناصر بعمليات إرهابية، حيث خلصت إحدى الدراسات حول الغربيين الذين شاركوا كمقاتلين على الجبهات الجهادية بين عامي 1990 و2010، إلى أن واحدًا من بين كل تسعة مقاتلين أجانب عاد لشن هجوم في الغرب. ويتصل ثالثها بتعدد الحالات والنماذج المختلفة التي فشلت فيها مبادرات الدمج وبرامج إعادة التأهيل في تحقيق أهدافها، وذلك نتيجة لصعوبة نزع عقيدة التطرف والعنف التي تم غرسها في نفوس هؤلاء.
السيناريو الثاني- استمرار الوضع الحالي:
يُشير هذا السيناريو إلى بقاء المخيم على وضعه الحالي. ويُعد هذا السيناريو هو الأكثر ترجيحًا على المديين القصير والمتوسط، لا سيما في ضوء تعذر الوصول لاتفاق يلزم الدول باستعادة مواطنيها الذين انضموا إلى “داعش”. من جهة أخرى، يُمثل ذلك الطرح ورقة رابحة يحصل عليها الأكراد لزيادة فعالية دورهم على الصعيدين الإقليمي والدولي باعتبارهم “حارس المخيم الأخطر في العالم”، غير أن خطورة هذا الطرح تكمن في احتمالية انهيار سيطرة الأكراد على المخيم، ما يترتب عليه خروج الآلاف من عناصر تنظيم “داعش”، بما يشكل نقطة تحول فارقة للتنظيم.
السيناريو الثالث- هروب عائلات تنظيم “داعش” من المخيم:
يُشير هذا السيناريو إلى احتمالية هروب عناصر التنظيم من مخيم الهول. وقد بَرز هذا التوجه في خطاب “البغدادي” الأخير في سبتمبر 2019 قبل مقتله، حيث طالب أنصاره بالهجوم على السجون لإطلاق سراح أتباعه، وإنقاذ مقاتليه وعائلاتهم المحتجزين. كما استمر هذا النهج في عهد “إبراهيم الهاشمي القرشي”، إذ سلطت كل خطب “أبو حمزة القرشي” (المتحدث الرسمي الجديد باسم التنظيم) الضوء على تلك القضية، حيث حَرض عناصر التنظيم بشكل مباشر على مهاجمة السجون في سوريا والعراق.
واتصالًا بما سبق، وظف تنظيم داعش استراتيجية “كسر الجدران” في العراق بين عامي 2012 و2013، لتحقيق أهداف مشابهة للطرح السابق، حيث استهدفت تلك الاستراتيجية تحرير الإرهابيين من السجون العراقية، وذلك عبر تنفيذ سلسلة من الهجمات المفاجئة. وفي أعقاب تلك الحملة نجح التنظيم في إطلاق سراح عدد كبير من عناصره الذين شكلوا بعد ذلك قوام عملياته الرئيسية في سوريا والعراق. ومن ثم يمثل تكرار حدوث هذا السيناريو تبعات كارثية للمنطقة ككل على وجه العموم، ومنطقة شمال شرق سوريا على وجه الخصوص. ومن الجدير بالذكر أنه من الممكن أن تتولى تركيا مسئولية توظيف مخيم الهول لتحقيق مصالحها الاستراتيجية والسياسية عبر استغلال العناصر الداعشية القابعة هناك لنقلها إلى دول شمال وغرب إفريقيا بما يخدم أهدافها ومصالحها.
مجمل القول، توفّر بيئة مخيم الهول، حيث الاكتظاظ السكاني، وسوء الظروف المعيشية، وانعدام سبل الرعاية الصحية، وأعمال الشغب المستمرة؛ بيئة خصبة لإعادة إنتاج “داعش”. ومن ثم هناك حاجة ماسة للتعامل مع تلك المعضلة من قبل المجتمع الدولي، وذلك عبر بذل المزيد من الجهود، وتفعيل السياسات، وتقديم المساعدات الإنسانية، وطرح رؤى وحلول قابلة للتنفيذ على أرض الواقع.