ماذا يعني تعيين “باه نداو” رئيسًا مؤقتًا في مالي؟
نسرين الصباحي
اندلعت في الخامس من يونيو 2020 موجة احتجاجية واسعة في مالي طالبت باستقالة الرئيس المالي “إبراهيم بو بكر كيتا”، واستمرّت قرابة الشهرين. تلقت هذه الحركة الاحتجاجية دعمًا كبيرًا ممثلًا في قرار المحكمة الدستورية بإبطال نتائج الانتخابات التشريعية التي انعقدت في إبريل 2020، فضلًا عن إخفاق سياسات “كيتا” في تنفيذ اتفاق السلام والمصالحة مع حركة أزواد بشمال مالي، وتأخر دفع رواتب الجنود في المؤسسة العسكرية، وقضايا الفساد المتورط بها “كيتا”. هذه التراكمات أدت في النهاية إلى إطاحة مجموعة من قيادات الجيش الوسطى بالرئيس “كيتا” في الثامن عشر من أغسطس 2020.
وبعد رفض دولي وإقليمي للتغيير غير الدستوري للسلطة في مالي، أدى وزير الدفاع السابق “باه نداو” اليمين الدستورية كرئيس انتقالي في الخامس والعشرين من سبتمبر 2020، كما أدى قائد المجلس العسكري “أسيمي جويتا” اليمين الدستورية كنائب للرئيس، وبعد يومين فقط عيّن “مختار وان”، وزير الخارجية السابق، كرئيس للوزراء في السابع والعشرين من سبتمبر 2020.
من هو “باه نداو”؟
يتمتع “نداو” بميزة مزدوجة تتمثل في كونه شخصية ذات خبرات عسكرية سابقة تحظى باحترام القوات المسلحة المالية وجزء كبير من الشعب المالي، لكن نتيجة مغادرته المشهد العام منذ سنوات يعد واجهة مدنية ملائمة للنظام الانتقالي. وقد ولد “نداو” بمدينة سان بوسط مالي عام 1950، وترقى إلى رتبة عقيد في القوات الجوية المالية، حيث بدأ الخدمة في القوات المسلحة عام 1973، وأجرى تدريبه الأساسي في المدرسة العسكرية المشتركة خلال الفترة (1976-1978)، واختير للانضمام إلى القوات الجوية وأكمل تدريبه بالخارج في الاتحاد السوفيتي سابقًا، حيث تعلم قيادة طائرات الهليكوبتر، وتخرج من كلية القيادة العسكرية École de Guerre بفرنسا. وقد عيّن “نداو” مساعدًا للرئيس المالي الأسبق “موسى تراوري”، وترك منصبه بشكل غير رسمي عام 1990، حيث استقال احتجاجًا على تدخل زوجة “تراوري” في إدارة الشئون الحكومية، وهي الاستقالة التي تركت انطباعًا لدى الماليين بأنه سياسي غير فاسد.
وشغل “نداو” في الفترة (1992-2002) خلال رئاسة “ألفا عمر كوناري”، منصب نائب رئيس أركان القوات الجوية، وبعد عام واحد أصبح رئيس الأركان. وخلال الفترة (2008-2012)، أدار المكتب الوطني لشئون المحاربين القدامى وضحايا الحرب. وفي عام 2014، عيّن وزيرًا للدفاع خلفًا لوزير الدفاع في ذلك الوقت “سوميلو بوبيا مايغا” على خلفية تعرض الجيش المالي لهزيمة في كيدال وطرد الجماعات المسلحة الجيش من المدينة، وظل “نداو” في المنصب لبضعة أشهر فقط، ولم يتم تجديد تعيينه في ظل حكومة “موديبو كيتا”، التي تشكلت في يناير 2015 بعد استقالة “موسى مارا” من منصب رئيس الوزراء.
ميثاق الانتقال
جاء تعيين “نداو” نتيجة عمل لجنة شكلها المجلس العسكري تماشيًا مع توصيات ميثاق الانتقال، وأخذت اللجنة المطالبات الدولية في الاعتبار وتحديدًا مطالب الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” والتي منحت المجلس العسكري مهلة محدودة لنقل السلطة إلى قادة مدنيين، فضلًا عن الضغوطات من قِبل دول جوار مالي المتخوفة من تحول البلاد المضطربة إلى الفوضى.
وقد نشأت خلافات في وجهات النظر بين المجلس العسكري وحركة 5 يونيو بدايةً من المشاورات الوطنية، حيث قام المجلس العسكري بتشكيل لجنة عُرفت باللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب المالي، وبدأت المشاورات بين المجلس العسكري وقادة المجتمع المدني والأحزاب السياسية والقوى المختلفة داخل مالي للحديث عن تنظيم الفترة الانتقالية، ورسم خريطة طريق لاستعادة الحكم المدني في مالي. وتم التوافق على ميثاق الانتقال من قِبل حوالي 500 مُشارك من قوى مختلفة في البلاد، وتم الإعلان عنه في الثاني عشر من سبتمبر 2020 بعد ثلاثة أيام من المشاورات الوطنية. وفي الحادي والعشرين من سبتمبر 2020 تم اعتماد الميثاق بنهاية المشاورات. وهكذا حسمت اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب المالي أسابيع من الخلافات بين الماليين، الذين انقسموا حول الطبيعة المدنية أو العسكرية للمرحلة الانتقالية المُقبلة.
وينص ميثاق الانتقال على تفويض لجنة يشكلها المجلس العسكري لاختيار الرئيس الانتقالي، حيث سيحكم “نداو” لفترة انتقالية مدتها 18 شهرًا حتى مارس 2022، ومن المتوقّع إجراء الإصلاحات المؤسسية والانتخابية وتنظيم الانتخابات. وتمنع المادة الخامسة من الميثاق، الرئيس الانتقالي من المشاركة في الانتخابات الرئاسية بنهاية الفترة الانتقالية، فيما تنص المادة العاشرة على استبدال المجلس الوطني المنحل بهيئة تشريعية تسمى المجلس الوطني الانتقالي، كما سيتم إعادة تشكيل المحكمة الدستورية، وستضم تسعة أعضاء يحملون لقب مستشار تنتهي ولايته بنهاية الفترة الانتقالية.
ولتكتمل بنية هذا الانتقال سيتم تشكيل حكومة انتقالية مُكونة من 25 عضوًا، برئاسة رئيس وزراء مدني معيّن من قِبل الرئيس الانتقالي، ومن المقرر أيضًا إنشاء مجلس وطني انتقالي وتحديد صلاحياته، يتألف من 121 عضوًا موزعين بين قوات الدفاع والأمن، وحركة 5 يونيو (ائتلاف المعارضة)، والأحزاب السياسية، والصحفيين، والمجتمع المدني، ورجال الدين، والشتات، والشباب والنساء، ليكون الهيئة التشريعية في مالي.
لكن واجه هذا الميثاق انتقادات من المعارضة، وتحديدًا حركة 5 يونيو التي شاركت في المحادثات ورفضت خارطة الطريق، وقالت الحركة إن الأفكار الرئيسية التي نوقشت خلال المحادثات تم استبعادها من الوثيقة النهائية بينما أضيفت أفكار أخرى إليها.
دلالات خطاب تنصيب الرئيس
حمل خطاب التنصيب الذي ألقاه “نداو” بعد أدائه اليمين الدستورية رئيسًا انتقاليًّا لمالي عدة دلالات هامة، تطابقت في عمومها مع توقعات الشعب المالي. وقد حدد الرئيس أولوياته والتزاماته خلال الفترة الانتقالية في:
إجراء انتخابات جديدة: تَعهد “نداو” بإعادة النظر في النصوص الانتخابية، وتصحيح العيوب في العملية الانتخابية من خلال مراجعة قانون الانتخابات وميثاق الأحزاب السياسية، وتنظيم انتخابات عامة رئاسية وتشريعية تتسم بالمصداقية والشفافية والسلمية، والتزود بالنصوص والممارسات الجيدة والضوابط والتوازنات القوية، وكل ما سبق بدون تنازل عن أوراق الاقتراع.
مواصلة الحرب ضد الإرهاب: يعتزم “نداو” الجمع بين الجهود السياسية والعمل العسكري، فقد اعتبر أنه من الضروري تجهيز نفسه بأكثر الوسائل الممكنة للردع من خلال جيش مدعوم ماديًّا ومستعد أخلاقيًّا. ووعد “نداو” بمُواصلة الحرب القاسية ضد الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة.
مُحاربة الفساد: أكد “نداو” مبدأ حسن إدارة جميع الموارد العامة، وإعادة تنظيم المؤسسات العامة في البلاد وضمان عدم الإفلات من العقاب، ونقل جميع ملفات التحقيق التي أجرتها هياكل التدقيق إلى السلطة القضائية.
تنفيذ توصيات الحوار الوطني الشامل: من المتوقع خلال الأسابيع القادمة تشكيل اللجنة الانتقالية الوطنية المستقبلية المسئولة عن تنفيذ توصيات الحوار الوطني الشامل والمصالحات، التي ستحل محل الجمعية الوطنية حتى الانتخابات التشريعية المُقبلة وذلك من أجل مباشرة المهام الرئيسية الخاصة بإتمام المرحلة الانتقالية.
استمرار الامتثال للالتزامات الدولية: أكد “نداو” أن الفترة الانتقالية لا تتعارض مع أي تعهد دولي من جانب مالي، ولا الاتفاقات الموقّعة من قِبل الحكومة، وسيضمن الامتثال للالتزامات الوطنية والدولية، وسيتم تطبيق اتفاق السلام والمصالحة “اتفاق الجزائر” الموقع عام 2015 ومراجعته بالاتفاق بين أطرافه.
تداعيات تنصيب “باه نداو” رئيسًا انتقاليًّا
فرضت الجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا “الإيكواس” مجموعة من العقوبات على مالي بعد انقلاب 18 أغسطس 2020، حيث علّقت عضوية مالي في هيئات صنع القرار في 20 أغسطس 2020 وفرضت حظرًا ماليًّا وتجاريًّا، تسبب في انخفاض الواردات إلى مالي بنسبة 30٪، كما أغلقت الحدود مع دولة مالي وأوقفت التدفقات المالية.
ووضعت جماعة “الإيكواس” مجموعة من الشروط على المجلس العسكري في مالي لرفع هذه العقوبات في مقدمتها إطلاق سراح جميع الأفراد المحتجزين عَقب الانقلاب، وحل اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب المالي، وتعيين رئيس انتقالي مدني، ورئيس وزراء مدني، على أن تكون مدة الفترة الانتقالية عامًا على الأقل. كما اشترطت المنظمة الإقليمية تعديل الميثاق الانتقالي بحيث لا يحل نائب الرئيس محل الرئيس في حال استقالته، وعلاوة على هذه الشروط يظل النقاش مفتوحًا بين الجماعة والسلطة الجديدة في مالي بشأن صلاحيات “أسيمي جويتا” نائب الرئيس الانتقالي وقائد المجموعة العسكرية التي أطاحت بالرئيس كيتا.
وعليه، جاء تعيين “نداو” قبل يومين من انتهاء المهلة التي أصدرتها جماعة “الإيكواس” في نهاية القمة المصغرة التي عقدت في أكرا بغانا في الخامس عشر من سبتمبر 2020، وقالت جماعة “الإيكواس” إنها سترفع العقوبات، بمجرد تعيين رئيس وزراء مدني، وخففت مطالبها الأولية بتنصيب قيادة مدنية. ولكن رغم كل ما تحقق مؤخرًا، لا تزال مالي بعيدة عن استعادة التبادلات التجارية والدبلوماسية مع الدول المجاورة الأعضاء في جماعة “الإيكواس” التي تراقب بحرص أداء رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء في قيادة مشاريع إصلاحات الحوار الوطني الشاملة المختلفة، والتحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية المنتظرة.
وإجمالًا، يظل عامل الوقت أمام الرئيس “نداو” هو العامل الحاسم في نجاح الفترة الانتقالية أمام التحديات المختلفة والتي تتضمن مُحاربة الفساد، وإعادة البناء، وتوفير ضمانات لإجراء انتخابات رئاسية وتشريعية، وتنفيذ اتفاق الجزائر، وتسريع عملية الإصلاح الديمقراطي.