لم يكتفِ “أردوغان” بمتاعب تورطه وانتشاره العسكري في بعض الدول العربية وإقليم شرق البحر الأبيض المتوسط؛ بل قفز إلى إقليم جنوب القوقاز المجاور لشمال شرق تركيا، ليس بالتواجد فقط بل والتورط في الصراع العسكري المتجدد بين كل من جمهوريتي أرمينيا وأذربيجان اللتين انشقّتا عن الاتحاد السوفيتي إثر تفككه عام 1991، وشكلتا جمهوريتين علمانيتين غير دينيتين رغم أن أرمينيا ذات أغلبية مسيحية وأذربيجان ذات أغلبية مسلمة.
بدأت الأزمة القديمة بين الدولتين تطفو على السطح بمجرد تفكك الاتحاد السوفيتي حول إقليم “ناجورنو كاراباخ” أو “ناغورنو قرة باغ”، أحد أقاليم دولة أذربيجان، ولكنه ذو أغلبية سكانية تنحدر من جذور أرمينية تطالب إما بالانضمام إلى أرمينيا، وهذا غير ممكن، أو الانفصال بحكم ذاتي تحت مسمى أرميني قديم هو جمهورية “أرتساخ”، وهو ما ترفضه أذربيجان الدولة الأم التابع لها الإقليم. ووصلت الأزمة إلى حد الصراع المسلح، وكانت ذروة بدايته خلال الفترة (1992 – 1994)، حيث أُوقف القتال بوساطة روسية أمريكية أوروبية.
بقيت جذور الأزمة قائمة، وتزداد حدتها من آن إلى آخر، حتى كان آخر أكبر صدام مسلح في عام 2016، وتم إيقاف القتال والتباحث من أجل السلام من خلال “مجموعة مينسيك” (مينسيك هي عاصمة روسيا البيضاء) التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، بنفس الوسطاء، حيث نابت فرنسا عن الاتحاد الأوروبي وحضرت تركيا الجارة كمراقب، إلى أن تجدد القتال مؤخرًا بإلقاء كل طرف بالتبعية على الآخر وذلك في السابع والعشرين من سبتمبر الحالي 2020، ولكن بشكل أكثر حدة من الناحية عسكرية. تجاوزت المواجهة الإقليم وأثرت بالسلب على البنى التحتية وأوقعت خسائر بشرية عسكرية ومدنية على الجانبين.
زاد من حدة القتال التدخل العسكري التركي المباشر، خاصة من خلال الدعم الجوي بمقاتلات ومروحيات وطائرات مسيرة، حيث أسفر اليوم الثاني للقتال عن إسقاط طائرة أرمينية روسية الصنع من طراز سوخوي-24 بواسطة طائرة تركية أمريكية الصنع من طراز “إف- 16″، مما جعل الصراع يأخذ منحى جديدًا بتدخل أحد الأطراف الإقليمية مع تحسب لرد فعل روسي يستبعد أن يكون بشكل مباشر كما فعلت تركيا ولكن بدعم إضافي لأرمينيا التي تربطها بروسيا اتفاقية شبه دفاع مشترك.
ونعرض فيما يلي ملخصًا لمواقف القوى الإقليمية ودوافعها قبل أن ننتقل إلى أهم الانعكاسات الدولية للأزمة.
1- الموقف والدوافع التركية:
يمكن الوقوف على الموقف والدوافع التركية من خلال النقاط التالية:
– تتحرك تركيا من منطلق أن الصراع يدور في الجوار الإقليمي والمجال الحيوي لها، كما أن الدولتين بالإضافة إلى جورجيا، بمثابة الفناء الشمالي الشرقي لتركيا، حيث إن الأخيرة تجاور تركيا في مشاطئة شرق البحر الأسود.
– العمل على دغدغة المشاعر الإسلامية بدعمها لأذربيجان ذات الأغلبية الإسلامية في مواجهة أرمينيا ذات الأغلبية المسيحية، رغم أن الدولتين بالإضافة إلى تركيا هي دول علمانية، كما أنّ هذا التذرع التركي -إن وُجد- يتعارض مع موقف النظام التركي وعلاقاته المتميزة مع إسرائيل.
– الانتقام من أرمينيا التي فضحت المجازر والتهجير القسري بها إبان الحكم العثماني، وذلك بعد هزيمته في الحرب العالمية الأولى (1914 -1918) وزوال الدولة العثمانية. وتُبرهن أرمينيا على ذلك بأن تعداد سكانها الآن يقارب ثلاثة ملايين ونصف المليون نسمة، في حين أن ضعفي هذا الرقم قد استوطنوا الشتات حول العالم. لذا نلاحظ دائمًا لهجة الوعيد على لسان كل من “أردوغان” ورئيس أركانه “خلوصي آكار” الذي قال: “إنه قد حان وقت الحساب”.
– يُمثّل الدعم التركي لأذربيجان إحدى أوراق الضغط والتوازن مع روسيا –الأقرب سياسيًّا إلى أرمينيا- في جنوب القوقاز، وألا يقتصر الدور التركي في هذا الصراع على دور المراقب، ليشمل العمل كطرف أصيل، وأن يمثل هذا الدور امتدادًا للتفاهمات التركية الروسية في كل من سوريا وليبيا.
– تركيا متهمة من قبل أرمينيا بنقل 3000 إلى 4000 من المرتزقة والدواعش من شمال سوريا للقتال بجانب القوات الأذربيجانية، مدللة بأن ذلك السلوك التركي تم اتّباعه وما زال في ليبيا. وأُضيف أن ذلك قد يتماشى مع تخفيف تركيا لحجم المرتزقة في ليبيا مؤخرًا بعد هدوء الموقف النسبي هناك، ويتزامن أو يسبق بدء القتال الأذري الأرميني.
2- الموقف والدوافع الروسية:
يمكن الوقوف على الموقف والدوافع الروسية في الصراع من خلال النقاط التالية:
– روسيا تعتبر نفسها هي المظلة الأم كدولة كبرى وريثة للاتحاد السوفيتي، وأن لها شكلًا من الوصاية على أقاليمه، كما في هذه الحالة جنوب القوقاز.
– لجأت روسيا إلى سياسة التفاهم كما مع أذربيجان والتحالف كما مع أرمينيا، عكس توجهها السابق باستخدام القوة كما تم مع كل من جورجيا وأوكرانيا في شبه جزيرة القرم، ولاقى إدانة دولية.
– يمر خط الغاز الروسي من خلال أذربيجان وأرمينيا إلى تركيا ثم أوروبا، كمسار أطول بالدوران حول جورجيا الطريق الأقصر، نظرًا لتوتر العلاقات الروسية-الجورجية التي وصلت إلى حد العمل العسكري الروسي ضدها بشأن إقليم أفخازيا.
– يرى البعض أن مطالبة إقليم كاراباخ بالانفصال أو الحكم الذاتي بدأت في عام 1988، أي إبان حقبة الاتحاد السوفيتي، ولكنني أختلف مع ذلك، فما كان للقيادة السوفيتية أن تسمح بهذا قياسًا على تدخلها السافر والعنيف في الأزمتين المجرية والتشيكية في النصف الثاني من القرن الماضي.
3- الموقف والدوافع الإيرانية:
يمكن الوقوف على الموقف والدوافع الإيرانية من خلال النقاط التالية:
– تُعتبر إيران هي الجار الجنوبي والجنوبي الغربي للدولتين المتصارعتين، وصاحبة أطول حدود مشتركة معهما. وترتبط إيران مع أذربيجان بتاريخ إسلامي، عبر الفتح الإسلامي لإيران (فارس) خلال القرن الأول الهجري، ثم لأذربيجان وباقي جمهوريات آسيا الوسطى شرق بحر قزوين. ورغم ذلك فإن العلاقات بين البلدين تعتبر فاترة لاعتناق أذربيجان المذهب الشيعي المعتدل، دون تشدد أو اثني عشرية كما في إيران، بالإضافة إلى أن أذربيجان دولة علمانية على العكس من إيران.
– ترتبط إيران بعلاقات ودية مع أرمينيا لأسباب اقتصادية، حيث لا تمانع الأخيرة من مرور خط الغاز الإيراني عبر أراضيها للازدواج مع الخط الشرقي القادم من آسيا الوسطى، إلى تركيا ثم إلى أوروبا سوق الغاز الرئيسي.
نخلُصُ إلى أن الأزمة الأذرية الأرمينية حول إقليم كراباخ هي أزمة ذات جذور تاريخية وعرقية، شأنها شأن الكثير من الأزمات المشابهة حول العالم، وتتجدد من آن إلى آخر لتصل إلى حد القتال الميداني أحيانًا. لذا فإن حلّ مثل تلك الأزمات يكمن -قبل المصالحة- في النجاح في إدماج هذه الأقليات ضمن الدولة القومية المركزية دون تفرقة أو تمييز عرقي أو ديني، خاصةً أن كلا الدولتين علمانيتان، وكذلك تركيا.
إن التدخل التركي المباشر في القتال هذه المرة هو ما زاد الطين بلة، ولكنه يتماشى مع التوجه والسلوك التركي الجديد -منذ فشل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي- وذلك بالانتشار والتوسع العسكري في الوطن العربي منذ عام 2011 كما سبق ذكره، وصولًا إلى التدخل العسكري المباشر بقواتها أو بقوات مرتزقة كما في ليبيا، ويدعمه ويشجعه تمويل قطري على الأرجح.