لم تكن فرنسا بعيدة يومًا عن الأزمات اللبنانية المتعاقبة، بل لعبت دورًا مهمًا للوساطة على مدار تاريخ لبنان في الحرب والسلم على حد سواء، كما رعت مرة بعد أخرى مؤتمرات المانحين لإقراض لبنان من أجل إعادة الإعمار وإنعاش الاقتصاد. ولذا لم يكن التحرك الأخير للرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” على الساحة اللبنانية مستغربًا، ولكنه أثار التساؤل بشأن مدى استمرارية وفعالية هذا الدور، وهل سيقتصر على تقديم الدعم الإغاثي ما بعد انفجار المرفأ فقط أم سيمتد ليشمل إنقاذ لبنان من دوامة الانهيار الاقتصادي والأزمة السياسية الداخلية. فلبنان الذي يشهد انهيارًا اقتصاديًا منذ خريف العام الماضي يواجه عدة تحديات في الوقت نفسه. فهو من جهة يشهد احتجاجات شعبية واسعة ساخطة على الوضع الاقتصادي المتردي، ومن جهة ثانية يشهد تخبطًا في القرارات الاقتصادية والمصرفية أدى إلى خسائر فادحة للمواطنين العاديين وأصحاب الأعمال على حد سواء. ومن جهة ثالثة وصلت الصيغة الطائفية للحكم إلى حد الإفلاس السياسي بعد استشراء الفساد وتحكمه بمفاصل الدولة. وأخيرًا، يواجه لبنان كغيره من دول العالم والمنطقة وباء كورونا في ظل إمكانيات محدودة ومتناقصة للقطاع الطبي. ومن ثم فالانفجار الكبير الذي وقع في مرفأ بيروت في الرابع من أغسطس الماضي كان بمثابة الإنذار الأخير الذي يشي بأن هذا الوضع الهش الذي يحكم لبنان لا يمكن أن يستمر، ولا بد من الالتفاف الدولي لتغييره.
وساطة ضرورية
التقط “ماكرون” طرف الخيط وزار بيروت بعد ساعات من الانفجار، واجتمع بالمؤسسات الأهلية من جهة والرؤساء الثلاثة وزعماء الكتل النيابية من جهة أخرى. لم يكن الاجتماع بالمكوّنين المجتمعي والسياسي -كل على حدة- محض صدفة، بل رسالة قوية من الرئاسة الفرنسية مفادها أن شرعية النخبة السياسية اللبنانية صارت على المحك، وأن الشعب اللبناني له ممثلون آخرون من المجتمع المدني أكثر مصداقية. ومن ثم جاء تعهد الرئيس الفرنسي بحشد المساعدات العاجلة لإغاثة الشعب اللبناني عبر المؤسسات الأهلية والمنظمات الأممية دون المرور بخزانة الدولة اللبنانية التي لم تعد محل ثقة المجتمع الدولي ولا الشعب اللبناني.
بتتبع الأزمات المتتالية للبنان، لا يمكن تحديد بدقة متى بدأت أزمته الحالية، ولكن وفقًا للتشخيص الفرنسي، فإن الأزمة المالية اللبنانية تعقدت منذ لم يلتزم لبنان بإقرار الإصلاحات الحكومية والمالية اللازمة التي تؤهله لاستلام مساعدات دولية (هبات وقروض ميسرة) وفقًا لمقررات مؤتمر “سيدر” في ربيع عام 2018. إذ بلغت هذه الأموال نحو 11 مليار دولار[1] كانت مقدمة من البنك الدولي ومجموعة من الدول الغربية والعربية الداعمة للبنان، ولكن مشروطة بإصلاح البنية المالية والمؤسسية للحكومة اللبنانية، فضلًا عن إقرار مشروعات بنية تحتية تساعد لبنان على التخلص من أزماته المتكررة في قطاع الطاقة والكهرباء، وهو المتسبب الرئيسي في العجز المزمن في الموازنة اللبنانية. غير أن التوازنات الدقيقة التي كانت تقوم عليها حكومة “سعد الحريري” آنذك والمناكفات السياسية التي كانت تتخللها قد عطلت هذه الإصلاحات المطلوبة، مما فوّت على لبنان فرصة الحصول على المساعدات وأدخله في بؤرة من الأزمات المتتالية خلال عهدي حكومة “الحريري” وحكومة “حسان دياب” وأيضًا بعد استقالتيهما.
تلخصت المبادرة الفرنسية في تشكيل حكومة جديدة تحظى بالثقة تُجري الإصلاحات وتستلم المساعدات ويتم إنقاذ لبنان. ورغم بساطة الحل نظريًا، إلا أن تنفيذه قد استلزم تفكيك المبادرة الفرنسية إلى أربع مراحل: الأولى كانت في أغسطس حيث تم إذابة الجليد وتقديم عرض سخي بمساعدات إغاثية عاجلة. الثانية كانت استقالة حكومة “دياب” وتسمية رئيس وزراء جديد. والثالثة كان من المفترض أن تكون تشكيل حكومة كفاءات محايدة -خلال أسبوعين في النصف الأول من سبتمبر- كي تُعِد خطة لإنقاذ الاقتصاد وتطلب المساعدة من العالم. ثم يأتي العالم ليساعد لبنان عبر مؤتمر موسع للمانحين في أكتوبر بحيث يبدأ تقاطر المساعدات إلى لبنان فعليًا قبل نهاية العام. غير أن تعثر تشكيل الحكومة في المهلة المحددة قد أجهض اكتمال مراحل المبادرة الفرنسية، فيما عُزي هذا التعثر إلى تمسك الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) بتولي وزارة المالية في الوقت الذي تُحكم فيها واشنطن طوق عقوباتها على رقاب إيران وحلفائها في المنطقة. وهو الأمر الذي اعتُبر معاكسًا تمامًا لهدف فرنسا من التصدي للوساطة في لبنان، وهو تجنب رهن حل الأزمة اللبنانية بالتقلبات الإقليمية. فإذا بحلفاء إيران في لبنان يتمسكون بشرط تعجيزي يجعل من تشكيل الحكومة في مدة قريبة شبه مستحيل، مما قد يُرجئ هذه المهمة لما بعد الانتخابات الأمريكية على أمل من هؤلاء بتغير قواعد اللعبة بين إيران والأمريكيين إذا ما تغيرت الإدارة الأمريكية.
بين الترغيب بالمساعدات والتهديد بالعقوبات
تميزت مبادرة الفرنسيين بعد الانفجار بعدة خصائص ساعدت في قوة تأثيرها على الساحة اللبنانية خلال الشهرين الماضيين قبل أن تتعثر في حجر تشكيل الحكومة. فهي من جهة أحسنت استغلال فرصة الانفجار كي تُعيد إحياء تواصل بيروت مع العالم بعد شهور من العزلة التي سادت منذ تقلد “حسان دياب” للحكومة التي وُصفت بأنها خاضعة لحزب الله. فلبنان دخل في عزلة دولية وترقب داخلي عقب تولي حكومة دياب منذ يناير الماضي، ثم دخول قانون العقوبات الأمريكي المسمى “قيصر” حيز التنفيذ منذ يونيو الماضي. إذ كان للرئيس الفرنسي السبق في التجول في الشوارع المهدمة والتواصل مع الأهالي مباشرة، ثم حذا حذوه العديد من المسئولين الحكوميين الأجانب. وتميزت أيضًا المبادرة بالتواصل مع كافة الزعماء اللبنانيين على اختلاف مشاربهم والجلوس معهم -بل وحثهم على الجلوس معًا- على مائدة واحدة بعد شهور من الفرقة والتنافر. ثم استثمر ماكرون لحظة جمعه الزعماء اللبنانيين على طاولة واحدة لإقناع العالم بأنه عرّاب حل الأزمة اللبنانية الداخلية إذا ما توافرت المساعدات اللازمة لذلك. وفي المقابل أقنع الزعماء اللبنانيين بأن بيده مفتاح خزنة المساعدات الدولية الموعودة للبنان بشرط أن يتفق هؤلاء على حكومة إصلاحية تتولى مهمة إنقاذ الاقتصاد واتخاذ قرارات جذرية. وقد بدا أن هذا الاستثمار المزدوج لخطة ماكرون قد أثمر أولى ثماره من خلال عقد مؤتمر دولي -افتراضي- لجمع مساعدات إغاثية عاجلة للبنان بعد أيام معدودة من الانفجار. إذ تعهدت نحو 36 دولة ومنظمة إغاثية دولية بتقديم مساعدات عاجلة للشعب اللبناني المتضرر من انفجار المرفأ بقيمة 252 مليون يورو عبر وسطاء من الجمعيات الأهلية سواء المحلية أو الدولية[2]. وهو ما عكس قدرة ماكرون على استثمار مبادرته بشكل عاجل لإعادة ثقة المانحين في لبنان ولو مؤقتًا، وأيضًا إعادة الثقة في إمكانية اختراع الحلول للأزمة اللبنانية.
تميزت المبادرة الفرنسية أيضًا بصفة المتابعة المستمرة، فماكرون زار بيروت في السادس من أغسطس، ثم عقد مؤتمر المساعدات الدولية في التاسع من الشهر نفسه، ثم وعد بمعاودة زيارة بيروت في بداية سبتمبر وفعل، ثم عقد مؤتمرات صحفية متعددة بشأن الوضع في لبنان لشرح ملابسات وتطورات مبادرته. ولا يزال على أجندة زيارات الرئاسة الفرنسية زيارتان جديدتان إلى بيروت حتى نهاية العام، واحدة في أكتوبر وأخرى في ديسمبر. وحتى عندما أعلن عن تعثر مبادرته، أضاف أن الحل لا يزال مطروحًا على الطاولة ولكنه ينتظر إرادة حقيقية من السياسيين اللبنانيين. ولعل هذه المتابعة المستمرة تعطي زخمًا لإمكانية الحل، لأنه عادةً ما يراهن الزعماء اللبنانيون في تعطيل الحلول على قِصَر نَفَس الوسطاء ورغبتهم في اقتناص حل سريع أو حتى تحول اهتمامهم بعيدًا عن لبنان.
ورغم اللغة القاسية –الخالية من الدبلوماسية أحيانًا- التي يستخدمها ماكرون عادةً في المؤتمرات الصحفية بشأن لبنان، فإنه يتحلى بالوضوح في هذا الشأن ويراهن على شفافية إجراءات التفاوض. إذ يرى أن الضغط الشعبي اللبناني على الزعماء يعتبر عاملًا مساعدًا لإنجاح مبادرته، وبالتالي يلتزم بإطلاع الرأي العام بما يحدث. في البداية ضمن ماكرون حدًّا أدنى من السرية لمبادرته من أجل إنجاحها، ولذا لم يتسرب الكثير عن ملامحها، إذ كل ما رشح عنها أنها تُمهد لحكومة جديدة. ولكن سرعان ما تسرب إلى الإعلام أن ماكرون هدد الزعماء اللبنانيين بإقناع الرئيس ترامب بضم زعماء الصف الأول إلى قائمة العقوبات الاقتصادية إذا ما تقاعسوا عن تشكيل حكومة إصلاحية تتولى إنقاذ البلاد. ورغم استياء ماكرون الشديد من تسريب خبر التهديد بالعقوبات، لكن بدا أن هذا التهديد كان ناجحًا في تمرير القسم الأول والثاني من المبادرة وهو إذابة الجليد واستقالة حكومة حسان وتسمية مصطفى أديب -سفير لبنان ببرلين- كرئيس للوزراء. ثم تعثرت المبادرة في قسمها الثالث والرابع وهو تكوين الحكومة بالفعل وإعداد خطة الإنقاذ ثم طلب المساعدات الدولية.
تعثر المبادرة
تعثّرت المبادرة عندما فشل رئيس الحكومة الجديد في تشكيلها على مبدأ الكفاءة والاختصاص وعدم حصر وزارة بعينها لفريق بعينه إلا بما يضمن تمثيل جميع الطوائف كما هو متبع دستوريًا. ولكن تمسك الثنائي الشيعي بوزارة المالية بدا وكأنه محاولة لإرساء محاصصة جديدة تجعل التوقيعات الرسمية للقرارات الحكومية مرهونة بموافقتهما. فمن المعروف أن أي قرار حكومي لا يُمرر إلا بثلاثة توقيعات: رئيس مجلس الوزراء (السُني)، ورئيس الجمهورية (الماروني)، وأيضًا وزير المالية، ولذا تمسكوا بأن يكون شيعيًا. واجه الرئيس الفرنسي تحذيرات كثيرة بشأن مساعي حزب الله للتعطيل ولكنه أصر على إشراكه على قدم المساواة في كل محادثات الوساطة. بل إن ماكرون تجاهل دعوات فرنسية كثيرة تطالب بإدراج حزب الله -بشقيه السياسي كما العسكري- على قوائم الإرهاب، ولكنه راهن على صدق التزام الحزب بتعهداته بتيسير تشكيل الحكومة. ولذا عندما تعذر تشكيل الحكومة، كان تعليق ماكرون قاسيًا بتحميل الزعماء اللبنانيين مسئولية هذا الفشل واتهامهم بخيانة تعهداتهم والعمل ضد مصالح اللبنانيين لصالح جهات خارجية. وخص بالذكر الطبيعة المركبة لحزب الله وصعوبة القبول بهويته المتناقضة التي يحاول توفيقها دون جدوى “كجيش في مواجهة إسرائيل وميليشيا تقتل المدنيين بسوريا وحزب سياسي محترم في لبنان”[3].
يواجه حلفاء إيران في لبنان ضغطًا كبيرًا منذ البدء في توقيع عقوبات أمريكية على شخصيات لبنانية، ثم حدوث الانفجار الكبير وانتباه العالم لأزمة لبنان المزمنة. فعادةً لا يكون سهلًا عليهم تعطيل الحلول في لبنان ورهنها للمصالح الإيرانية عندما يكون اهتمام العالم منصبًا على الوضع اللبناني. وهذا ما حققته المبادرة الفرنسية في بادئ الأمر، ولكن سرعان ما استعاد الثنائي الشيعي زمام المبادرة وعطلوا إجراءات الحل، انتظارًا لتغير الوضع الدولي إذا ما تولى رئيس أمريكي جديد، وبالتالي لن يكونوا مضطرين لتقديم تنازلات قاسية كما هو حاصل اليوم. بينما يجد حزب الله نفسه محاصرًا بإحياء مطالب نزع سلاحه وتحجيم نفوذه وإبعاده عن بيروت والحدود الشرقية. بالإضافة إلى تسارع إجراءات تقسيم المناطق الاقتصادية في شرق المتوسط وما يستتبعه من ضغط أمريكي من أجل ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. وفيما كان حزب الله نفسه يعارض سابقًا أي اتفاق من هذا النوع، يجد نفسه مضطرًا اليوم لقبول مفاوضات مباشرة بين الجيشين اللبناني والإسرائيلي بوساطة من الأمريكيين وقوات اليونيفل. بينما انتشرت هذه الأخيرة في محيط مرفأ بيروت مؤخرًا لتسجل نقطة قوة جديدة، بما يوحي بأن تصاعد الاهتمام الدولي بلبنان قد يؤدي تلقائيًا إلى تراجع نفوذ حلفاء إيران فيه. بينما رفض هؤلاء الحلفاء التنازل لصالح الفرقاء اللبنانيين من أجل تسهيل تشكيل الحكومة لإنقاذ اقتصاد البلاد، ولكنهم وافقوا على التنازل والقبول بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل من أجل ترسيم الحدود البحرية.
المراجع
[1] “مؤتمر سيدر لدعم الاقتصاد اللبناني يحصد 11 مليار دولار”، موقع فرانس 24، 6-4-2018، متاح على:
[2] “مؤتمر الدول المانحة لمساعدة لبنان: يجب إيصال المساعدات بشكل مباشر إلى الشعب اللبناني”، موقع فرانس 24، 9-8-2020،متاح على:
[3] “Emmanuel Macron: la classe politique libanaise a trahi son engagement” , France 24, 27-9-2020, available at: