أثار إعلان رئيس مجلس النواب اللبناني “نبيه بري”، عن توصل لبنان وإسرائيل إلى اتفاق بشأن التفاوض حول ترسيم الحدود البرية والبحرية، العديد من ردود الفعل المحلية والدولية، حيث يأتي إحياء المحادثات المجمدة منذ فترة طويلة حول ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل محملًا بآمال أن يكون له تأثير إيجابي على قطاع الطاقة اللبناني الناشئ، ويستند هذا التأثير على مساهمة الاتفاق في تقليل المخاطر القانونية والأمنية التي قد تواجهها الشركات الدولية العاملة في الأراضي المتنازع عليها بين البلدين. من جانبها، دعت إسرائيل والولايات المتحدة إلى إجراء مفاوضات مع لبنان لاعتبارات تتعلق باستغلال الفرص الاقتصادية الواعدة في شرق المتوسط، ولا تقتصر أهمية الإعلان فقط على العوائد المادية، وإنما تمتد لتشمل العديد من الجوانب السياسية، فقد كان من المستبعد قيام لبنان بإجراء محادثات حول الملف لاعتبارات جميعها تقريبًا سياسية؛ وهو ما جعل هذا الإعلان من قبل المسئولين اللبنانيين ملحوظًا بشكل خاص، وهو ما يستدعي البحث في دوافع الدعوى، وأهداف الضغط الأمريكي من أجل إنجاح المفاوضات، ومن ثم التعريج على مساراته المحتملة التي قد لا تميل إلى مسار محدد بسبب تشابك الاعتبارات المختلفة.
الترسيم بين الجغرافيا والسياسة
تشكل المنطقة المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان مُثلثًا مساحته 860 كم مربعًا من المياه يقع في شرق المتوسط، وتم تقسيمها إلى عشر مناطق أو بلوكات، ويمثل البلوك 9 إحدى تلك المناطق وأهم منطقة متنازع عليها. وينبع الخلاف حولها من اختلاف وجهات النظر حول طريقة ترسيم الحدود البحرية: تحدد إسرائيل خط الترسيم على أنه بزاوية 90 درجة لخطها الساحلي، بينما يحدده لبنان على أنه استمرار للخط الحدودي البري.
اكتسبت هذه المنطقة المتنازع عليها أهمية أكبر بكثير منذ عام 2009 عندما تم اكتشاف خزانات الغاز الطبيعي الرئيسية في البحر بين إسرائيل وقبرص. ومن المتوقع أن تحتوي المنطقة المتنازع عليها أيضًا على احتياطيات من الغاز الطبيعي.
وبشكل عام، يُعتقد أن المياه الإقليمية اللبنانية يمكن أن تستوعب ما يصل إلى 25 تريليون قدم مكعب وفقًا للدراسات السيزمية، والتي قد تكون أداة فعّالة لترميم الاقتصاد اللبناني المدمر، وسيسهل حل النزاع استغلال هذه الموارد.
حاول ثلاثة من مبعوثي الولايات المتحدة إقناع إسرائيل ولبنان بالموافقة على إطار عمل للمفاوضات، لكن دون جدوى، وتمثلت أبرز هذه المحاولات فيما يلي:
١- في عام 2012، اقترح “فريدريك هوف” تقسيم الـ860 كيلومترًا مربعًا من المياه المتنازع عليها، بمنح لبنان 500 كم مربع. وسُميت المبادرة بـ”خط هوف”، ولكن لم يتم قبوله من قبل أي من الجانبين.
٢- وخلف “عاموس هوشستين” “هوف” بعد ذلك حتى عام 2016، لكن التقدم كان ضئيلًا، حيث مرّ لبنان بعامين ونصف العام دون حكومة. حاول “عاموس” التوصل إلى حل وسط عادل لكلا الجانبين، ولكن دون جدوى.
٣- المبعوث الثالث “ديفيد ساترفيلد”، عقد جولات مكوكية ذهابًا وإيابًا لأكثر من عام وبدا أن الأمور تتجه نحو مرحلة نهائية قبل أن يسلم الملف إلى السكرتير المساعد المعين حديثًا لشئون الشرق الأدنى “ديفيد شنكر”.
٤- في رحلته الأولى إلى بيروت في أوائل سبتمبر 2019، عكس “ديفيد شينكر” رغبة الولايات المتحدة في التوصل إلى حل نهائي للنزاع كأولوية أولى فيما يتعلق بملف العلاقات اللبنانية-الإسرائيلية. ولكن لم يلبث أن أشار إلى تعطل المفاوضات بسبب الطرف اللبناني بشأن إمكانية التوصل إلى إطار للمفاوضات المحتملة. ووفقًا له، كان تنظيم “حزب الله” اللبناني هو الذي يعرقل الخطوة التالية.
في هذه المرحلة حملت مؤسسة الرئاسة اللبنانية ورئاسة مجلس النواب اللبناني (ممثلًا في نبيه بري) ملف ترسيم الحدود. بعبارات أخرى، يعني أن منح الضوء الأخضر في استئناف المفاوضات وإطلاق التصريحات سيكون مصدره “ميشيل عون” و”نبيه بري”.
ولكن لا يعني ذلك أن المشهد يشكل إقصاءً لحزب الله، فبحسب تقارير لبنانية تشير إلى أن حزب الله منح مباركته لنبيه بري لإدراكه أن الأخير لن يتجاوز خطوط الأساس التي تشكل موقف حزب الله، وأول هذه الخطوط هو عدم ربط المباحثات بنزع سلاح حزب الله.
٥- وقد رافق “ديفيد شينكر” مساعد ثان لوزير الخارجية الأمريكي “ديفيد هيل” في حمل ملف ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، وتجددت الرغبة الأمريكية مرة أخرى بعد انفجار مرفأ بيروت (أغسطس 2020) لاستغلال الأصداء الشعبية اللبنانية التي تلاحق حزب الله كونه متهمًا في الانفجار المدوي.
ورغم التصريحات الإيجابية التي أصدرها “نبيه بري” بشأن تقدم المفاوضات ووصولها إلى مراحلها الختامية؛ إلا أنه يبدو أن حزب الله يرهن موقفه المتنازل نسبيًا بشكل ملحوظ في ملف الترسيم بإعادة تموضعه في الحياة السياسية اللبنانية، خاصة فيما يتعلق بتشكيل الحكومة. حيث صرّح “عون” بأنه لا أمل في تشكيل الحكومة طالما يصر حزب الله على التوزيع الطائفي لحقائب الحكومة.
الضغط الأمريكي
طالما سعت واشنطن للعب دور وسيط من أجل إيجاد حل للنزاع، وتحقيق هدف الاستفادة الإسرائيلية من الثروات المقدرة في المنطقة المتنازع عليها، والاشتباك مع هذه الثروة التي ستقدم للشركات الأمريكية آفاقًا اقتصادية واعدة، وقد باءت جميع هذه المساعي بالفشل لعدة عوامل؛ كان أهمها هو نفوذ حزب الله وتضمينه اعتبارات سياسية تتعلق بكونه يرغب في تشبيك مصلحته السياسية في تشكيل حكومة تتوافق مع مصالحه الداخلية والإقليمية مع تقدم المفاوضات بشأن ترسيم الحدود، وكانت أداته الأساسية في هذا الشأن هي الضغط على الموقف اللبناني الرسمي من أجل تضمين ترسيم الحدود البرية مع الحدود البحرية أثناء المباحثات وهو ما كان يُلاقي رفضًا إسرائيليًا.
بعد انفجار مرفأ بيروت استغلت الولايات المتحدة ما أثير من اتهامات ساهمت في الإضرار بصورة حزب الله في الشارع اللبناني، من أجل ممارسة أقصى ضغط على التنظيم المحسوب على إيران في لبنان وتطويقه سياسيًّا من خلال تصنيفه تنظيمًا إرهابيًّا، وفرض عقوبات اقتصادية على الأطراف المتحالفة معه سياسيًّا، بجانب الرفض الأمريكي القاطع لتمرير استراتيجية حزب الله، وهي ربط تقدم المفاوضات مع تشكيل حكومة محسوبة عليه.
وتأتي أهداف الولايات المتحدة في سبيل الضغط من أجل إنجاح مباحثات ترسيم الحدود، كالتالي:
١- استمرار سياسة “ترامب” في حل النزاعات المعلقة: تأتي الخطوة ضمن استراتيجية الإدارة الأمريكية في دمج إسرائيل في المنطقة، ونزع فتائل التوتر الممكنة حول محيط إسرائيل على حدودها البرية أو البحرية. وهو ما يسمح بتعزيز رصيد “ترامب” سياسيًا في الداخل الأمريكي قبل انتخابات نوفمبر 2020.
٢- دفع عجلة الاقتصاد وتحقيق المنفعة: نجح عملاق النفط شركة “شيفرون” الأمريكية في شراء شركة “نوبل إنرجي” Noble Energy صاحبة الامتيازات في الحقول الإسرائيلية، ويبدو أن الصفقة جزء من تحرك أكبر للشركة لأعمال التنقيب في مناطق مختلفة من منطقة شرق المتوسط والشرق الأوسط عامة. كما بادرت الشركة بتقديم مساعدة إلى لبنان بقيمة مليون دولار بعد انفجار مرفأ بيروت.
قد تأمل “شيفرون” في لعب دور “المجمع” في شرق البحر الأبيض المتوسط، حيث تجمع الغاز من عدة حقول في عدة بلدان مختلفة للقيام باستثمارات رأسمالية كبيرة ومجدية اقتصاديًا في مشاريع خطوط، خاصة تلك التي بين لبنان وإسرائيل المتنازعتين، فعدم اعتراف الحكومة اللبنانية بإسرائيل سيسمح للشركة بلعب دور وسيط وفعال في دفع العمليات الاقتصادية المشتركة.
أما في الداخل الإسرائيلي، فتواجه حكومة “نتنياهو” تعثرًا اقتصاديًّا حادًّا قد يؤثر على مخصصات الميزانية القادمة 2020-2021 وعلى بند الرواتب والأجور. ولذلك يمثل فتح أفق اقتصادي جديد في ملف الغاز دفعة ثقة في السوق والبورصة الإسرائيلية.
ينصرف الأمر ذاته على المشهد اللبناني الذي يعاني من اقتصاد مدمر، ومؤشرات سلبية ترمي إلى غياب الأمل في إصلاح يسير للاقتصاد اللبناني، مما يجعل الغاز في مياهها الاقتصادية بمثابة طوق نجاة.
٣- دحض المساعي الفرنسية للتدخل في لبنان: تحاول فرنسا مؤخرًا لعب دور بارز في لبنان وفي المشرق العربي بصفة عامة، في محاولة منها لاستعادة دور شرق أوسطي ومتوسطي نافذ. لكن يبدو أن هذا الدور يحتوي على سياسة احتوائية قد تجمع أطرافًا سياسية غير مرغوب فيها من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، وهو ما ظهر بشكل خاص في تصريح الرئيس الفرنسي “ماكرون” حول رؤيته لحزب الله بأنه فصيل سياسي لبناني لا يمكن إقصاؤه. في حين تسعى الولايات المتحدة لممارسة الضغط الأقصى على حزب الله.
كما يبدو في البيانات الرسمية الصادرة عن شركة “توتال” Total S.A الفرنسية رغبتها في توسيع أنشطتها في التنقيب، ومن ثم الإنتاج في الحقول اللبنانية (مايو 2018)، كما ظهر في تصريحات مسئولين لبنانيين أن “توتال” ستستأنف نشاطها في لبنان فور توقيع الاتفاق، لذا لا ترغب الولايات المتحدة في أن تلعب فرنسا المؤيدة من قبل كثير من الأطراف اللبنانية دورًا وسيطًا في توفيق المصالح الاقتصادية مع إسرائيل.
احتمالات متباينة
يظهر من التصريحات الصادرة من بيروت، من رئاسة البرلمان اللبناني، أو المبعوثين الأمريكيين إلى لبنان (ديفيد شينكر – ديفيد هيل)، أو إسرائيل (وزير الطاقة يوفال شتايتنتس)؛ أن هناك مؤشرات إيجابية ترمي إلى استقرار المشهد ووصوله إلى نتائج مرضية. لكن هناك الكثير من الاعتبارات المتشابكة التي ترفض أن يكون هناك مسار جازم أو مرجح بشكل كبير، وهو ما يضعنا أمام احتمالين رئيسيين، كالتالي:
١- احتمال إيجابي متمثل في أن توافق جميع الأطراف المعنية بالأمر على تقسيم البلوك 9 بنسبة 58% لنصيب الاقتصاد اللبناني، و42% لنصيب الاقتصاد الإسرائيلي على أن يتفاوض الطرفان على تبعية الحقل إلى أي من السيادتين. بخلاف أن حزب الله يضغط على أن تشمل المفاوضات تضمين ترسيم الحدود البرية مع البحرية.
وتوازيًا مع عملية الترسيم، كان حزب الله واضحًا في موقفه منذ اللحظة الأولى للانسحاب، إذ ربط دوره “المقاوم” بانسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وهو الأمر الذي لم يتبين موقف إسرائيل منه بعد.
من جهة أخرى، يسعى حزب الله لتوسيع هامش المناورة وتضمين عدة ملفات استراتيجية في ملف الانسحاب الإسرائيلي من المناطق اللبنانية المحتلة، وأول هذه الملفات هو إبراز إمكانية انسحاب حزب الله من سوريا بناء على الطلب الفرنسي، وهو ما يمكن تلمسه في تصريحات مسئولي التيار الماروني المقرب من حزب الله (جبران باسيل). وثاني هذه الملفات يتمثل في إمكانية تنازل حزب الله عن سلاحه. ولصعوبة الاحتمال الثاني يحاول حزب الله إطلاق مسار الانسحاب من سوريا (وهو ما بدأ به بالفعل بسحبه 2500 مقاتل من سوريا) مقابل انسحاب إسرائيل من المناطق اللبنانية المحتلة.
وهناك مؤشر إضافي يميل إلى إضفاء طابع إيجابي على الاحتمال هو موافقة الولايات المتحدة ولبنان وإسرائيل على أن يكون الجيش اللبناني طرفًا في المفاوضات، وهو ما يعني أن هناك قبولًا مبدئيًا بمناقشة ترسيم الحدود البرية وتمركز القوات اللبنانية في الخط الأزرق تحت إشراف اليونيفيل.
هذه المعادلة التي يحاول “حسن نصر الله” دفعها إلى مقدمة المشهد والمفاوضات ربما تلقى قبولًا لدى الحكومة الإسرائيلية التي سعت بالفعل منذ شهور فائتة لكسر الارتباط بين حزب الله وإيران في سوريا والذي ظهرت ملامح له في أحداث متكررة كانت تتلخص في إرسال إسرائيل رسائل تحذيرية لحزب الله في سوريا بضرب مواقع إيرانية خوفًا من إسقاط عناصر له ضمن الضربة، كما اتضحت في الاعتذارات التي ترسلها إسرائيل لحزب الله في حال سقوط عناصره بالفعل.
٢- إحتمال سلبي يرمي إلى إمكانية فشل المفاوضات، ويتمثل في تمسك إسرائيل بالموقف التصعيدي ضد حزب الله وملف نزع سلاحه على المستويين المحلي والإقليمي، يزيد على ذلك رغبة حزب الله في تشكيل حكومة محسوبة على تياره ضمانًا لخدمة مصالحه، بخلاف تمسكه بتولي منصب وزير المالية في الحكومة؛ فالمسألة تتعلق بمستقبل القطاع المالي والمستفيدين منه؛ إدراكًا منه بأهمية الوزارة في وضع الموازنة خاصة بعد أن يرى لبنان تدفق الاستثمارات في قطاع النفط. ويبدو أن هناك تيارات سياسية لبنانية ترفض تعنت حزب الله، وهو ما بدا بوضوح في تصريح الرئيس اللبناني “ميشيل عون”: “حزب الله يصر على المحاصصة الطائفية للحكومة”.
ختامًا يمكن القول إن هناك مؤشرات ترمي إلى رسم مسار إيجابي للمفاوضات بشأن ترسيم الحدود، ولكنها ستظل رهنًا بمستقبل حزب الله “السياسي” في الداخل اللبناني، لذا من المنصف القول إن تمسك الولايات المتحدة بإقصاء كامل لحزب الله من المشهد ربما يقوض تقدم المباحثات مع إسرائيل.