غلّفت العلاقات التركية-الأمريكية خلال فترة حكم الرئيس “دونالد ترامب” حالة من الالتباس والغموض. إذ حوت سجلًا مختلطًا من الخلافات المعلنة والتفاهمات التي تجري تحت الطاولة، الأمر الذي أرجعته بعض التحليلات إلى رؤية شخص الرئيس “ترامب”، وليس إلى سياسة المؤسسات الأمريكية. لذا، ووفقًا لهذا التحليل، فقد يتضمن تغيير الرئيس تغييرًا مماثلًا في سياسة واشنطن تجاه أنقرة.
ومع اتساع الحديث وتزايد التكنهات بشأن تقدم فرص فوز “بايدن” يتضح ضرورة النظر في التأثير المزمع لفوزه على نمط العلاقات بين البلدين، لا سيما مع ما يبدو كموقف مناهض من قبل “بايدن” تجاه الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”. وعليه، يثار تساؤل رئيسي مفاده: هل ينذر فوز “بايدن” بفصل جديد في العلاقات التركية الأمريكية؟.
“ترامب” والنمط المختلط للعلاقات
اتخذت العلاقات بين أنقرة وواشنطن منحى متأرجحًا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016. وتُوج هذا المنحى المتأرجح وتَغذّى مع وصول الرئيس “ترامب” لسدة الحكم. أفاد “جون بولتون” -المستشار السابق للأمن القومي الأمريكي- في كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث” بأن “ترامب” قال لـ”أردوغان” إنه “صديقه الحميم”. كما قدم الكتاب صورة مفصلة لكيفية نجاح “أردوغان” في تحقيق ما يريده من الإدارة الأمريكية في القضايا التي تقع تحت سلطة “ترامب”.
وعلى الرغم مما ذكره “بولتون” في كتابه، إلا أن العلاقات شهدت بروز عدد من الملفات الخلافية بين الطرفين، كالاجتياح التركي للشمال السوري، والاعتداء على الأكراد وبالأخص قوات سوريا الديمقراطية. كما تبع الانقلاب الفاشل أزمة شائكة بين الطرفين تمثلت في اعتقال القس الأمريكي “أندرو برونسون”، وما ترتب عليها من عقوبات، وكذا رغبة أنقرة في تسليم واشنطن لـ”فتح الله جولن”. وفي أعقاب تزايد المناوشات في شرق المتوسط، اتجهت واشنطن إلى طرح قانون (شراكة الأمن والطاقة لشرق المتوسط) في يونيو 2019، الذي ينص على رفع الحظر عن مبيعات الأسلحة إلى قبرص. كما ترددت الأنباء بشأن التفكير في بدائل لقاعدة “إنجرليك”، إذ لفت السيناتور الأمريكي “رون جونسون”، الذي يرأس اللجنة الفرعية للعلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ، إلى النظر لليونان كبديل في حال نقل هذه القاعدة.
وفي المقابل، تبلور عدد من الملفات التي تحمل طابعًا يغلب عليه الخلاف بالرغم من أن الوقائع تدلل بحق على وجود قاعدة من التفاهمات بين أنقرة وواشنطن، كالأزمة الليبية التي تظهر فيها أنقرة كفاعل موازن للوجود الروسي. وأيضًا منظومة (S400) التي قال عنها قائد القوات الأمريكية في أوروبا الجنرال “تود والترز” إن امتلاك تركيا لها لا يؤثر على علاقاتها مع الحلف. إضافة إلى ملف شمال سوريا الذي شهد انسحابًا أمريكيًا بناءً على مكالمة تمت بين “ترامب” و”أردوغان” في أكتوبر 2019، وفقًا لبعض التحليلات. وارتباطًا بذلك، قال “ترامب” إن “العديد من الأكراد يعيشون في تركيا حاليًا، ويتم الاعتناء بهم”.
وعلى النقيض من ذلك، تحوي العلاقات بين واشنطن وأنقرة ملفات تحمل تفاهمات صريحة كإسقاط نظام الأسد، إذ يتبنى الطرفان موقفًا معاديًا لنظام الأسد رافضًا لاستمراره. إضافة إلى اتخاذ الموقف ذاته تجاه معركة إدلب، فقد جرت مباحثات عديدة بشأن تنسيق المواقف بين الطرفين حول إدلب. وبدا الدور التركي في هذه الساحة بوصفه مناوئًا للمعسكر المناهض لواشنطن والذي يضم روسيا وإيران. فضلًا عن ملف الإيجور الذي يحوي منفعة مباشرة للجانبين: بالنسبة لواشنطن اتخاذه ورقة للضغط على بكين، وبالنسبة لأنقرة تخفيف الضغط على الإيجور الذين تجمعهم بأنقرة علاقات واسعة.
فوز “بايدن” وتأثيره على نمط العلاقات
تشير أغلب استطلاعات الرأي الأمريكية إلى تفوق المرشح الديمقراطي “بايدن” على الرئيس “ترامب”، الأمر الذي يعني تزايد فرصه للوصول للمكتب البيضاوي مع مستهل العام القادم. وبصفته عضوًا في مجلس الشيوخ ونائبًا للرئيس، شارك “بايدن” بعمق في تشكيل الدبلوماسية الأمريكية والسياسة العسكرية في جميع أنحاء الشرق الأوسط، معتبرًا نفسه مرشحًا يمتلك خبرة في التعامل مع العراق وإسرائيل وسوريا وإيران وغيرها من دول المنطقة. وكسيناتور -لما يزيد على ثلاثة عقود- يُعرف “بايدن” بموقفه الرافض للتدخل التركي في قبرص، كما أنه من الداعين لاعتماد مصطلح “الإبادة الجماعية” بحق الأرمن.
بداية، تجدر الإشارة إلى أن البرنامج الانتخابي الذي وضعه الحزب الديمقراطي لم يشر إلى تركيا. ولكن في المقابل، يتبنى “بايدن” نبرة معادية لتركيا، فقد أدلى بتصريحات لصحيفة “نيويورك تايمز” وصف فيها “أردوغان” بالمستبد، منددًا بسياسته تجاه الأكراد، وداعيًا إلى دعم المعارضة. وفي هذا السياق، وأثناء توليه منصب نائب الرئيس، بدا “بايدن” في البداية كداعم لأنقرة معربًا عن إعجابه بـ”أردوغان” في مايو 2013. لكنه سرعان ما انقلب، في أكتوبر 2014، مشيرًا إلى أن أنقرة ساعدت في بناء (داعش)، وفي غضون أشهر، قرر “أوباما” اختيار قوات سوريا الديمقراطية لقيادة القتال ضد (داعش).
وفي أعقاب ذلك، أبدت الإدارة الأمريكية رد فعل متواضعًا للتنديد بمحاولة الإنقلاب الفاشلة، وكلفت “بايدن” –بوصفه نائب الرئيس- آنذاك، بإصلاح التصدعات التي ضربت العلاقات. في 24 أغسطس 2016، سافر “بايدن” إلى أنقرة، إذ تم استقباله بفتور، ومن جهته لم يفعل الكثير أثناء زيارته لاحتواء المخاوف التركية. كما كان متشككًا من إرسال قوات أمريكية إلى سوريا، بحجة أن أي استخدام كبير للقوة ستكون له عواقب لا يمكن التنبؤ بها.
وخلال حملته الحالية، أدان “بايدن” سحب “ترامب” للقوات الأمريكية من شمال سوريا، ووصف هذا التحرك بكونه خيانة للأكراد، و”أكثر الأشياء المخزية التي قام بها أي رئيس في التاريخ الحديث”. ولفت إلى أن تركيا “يجب أن تدفع ثمنًا باهظًا” لحملتها العسكرية في الأراضي الكردية السورية، معربًا عن قلقه بشأن احتفاظ الولايات المتحدة بأسلحة نووية في تركيا. كما انضم “بايدن” إلى عدد من النواب الديمقراطيين الذين أدانوا تركيا في أعقاب شن عملية “نبع السلام” بشمال سوريا. وفي تصريحاته لصحيفة “نيويورك تايمز” أشار “بايدن” إلى إمكانية التعاون مع حلفاء واشنطن لعزل تركيا في المتوسط بسبب المناوشات المتكررة التي تقوم بها ضد قبرص واليونان، وتدخلها في الشأن الليبي طمعًا في ثروات غاز المتوسط.
وعليه، وبنظرة أولية لما يمكن أن يكون عليه مستقبل العلاقات بين واشنطن وأنقرة يتضح أن العلاقات سوف تشهد تراجعًا في التفاهمات، وسوف تتجه نحو مزيد من التأزم. إذ إن رئاسة “بايدن” ستعني ترسيخ الخطاب المعادي لتركيا على الساحة الأمريكية حال سيطر الحزب الديمقراطي على الكونجرس والبيت الأبيض على حد سواء. إذ يبدو “بايدن” أكثر ميلًا ودعمًا للأكراد في شمال سوريا، وأكثر تعاطفًا مع اليونان وقبرص في شرق المتوسط، وأكثر اقتناعًا بضرورة فرض عقوبات على تركيا. وعلى الجانب الآخر، يبدو أن “بايدن” أكثر تنديدًا بالخطى غير الليبرالية والمناهضة للديمقراطية التي تسير عليها أنقرة، كانتهاكات حرية الصحافة، وقانون وسائل التواصل الاجتماعي.
بين استمرار النهج ذاته وفتح فصل جديد
لا يمكن افتراض تحول العلاقات بين واشنطن وأنقرة إلى حالة من العداء التام حال فوز “بايدن”. كما لا يمكن الاعتداد بالتصريحات المعادية التي يطلقها “بايدن” بين حين وآخر كدليل على اتجاهه إلى اتباع سياسة متشددة تجاه أنقرة في حالة وصوله إلى سدة الحكم، إذ يمكن النظر إلى هذا الخطاب المتشدد وفق أمرين:
الأول- تأرجح المواقف السياسية: على الرغم من أن المرونة والاعتدال التي تغلف مواقف “بايدن” تجعله أكثر حنكة ودبلوماسية، إلا أنها ساهمت إلى حد كبير في تأرجح مواقفه السياسية. فبالرغم من معارضته لحرب الخليج الثانية 1991، إلا أنه وافق على تدخل القوات الأمريكية إلى جانب حلف الناتو في حرب البوسنة ما بين عامي 1994-1995، كما صوت بالموافقة على الغزو الأمريكي للعراق، لكنه أقر في إحدى المناظرات الانتخابية بأن قرار التصويت على حرب العراق كان “سيئًا”. وعلى هذا النحو، يمكن النظر إلى موقفه من أنقرة، وما ستكون عليه سياساته تجاهها.
الثاني- الخطاب الانتخابي: يمكن النظر إلى النبرة العدائية التي يتبنّاها “بايدن” تجاه أنقرة في إطار كونها مجرد “خطاب انتخابي” يسعى من خلاله إلى إحراج الإدارة الحالية، وكذا كسب المزيد من الأصوات الانتخابية الرافضة للتحركات والسياسات التركية العدائية، لا سيما التي وقعت خلال الفترة الأخيرة. ولعله من المنطقي أن نتوقع التغير في مواقف وسياسات “بايدن” حال وصوله لسدة الحكم، حيث ستفرض عليه المصالح الأمريكية تعاملًا أكثر تعقلًا مع دولة بأهمية تركيا.
وفي سياقٍ موازٍ، سيظل يُدرك كلا الطرفين أهمية علاقته بالآخر، وضرورة تعظيم التفاهمات والمصالح المشتركة. وعليه، قد يتجه “بايدن” إلى اتّباع سياسة أكثر مرونة تجاه أنقرة مما يبدو على خطابه التصعيدي الحالي، وذلك للأسباب التالية:
١- الموقع الجيوسياسي: تمتلك تركيا موقعًا جيوسياسيًّا يمكّنها من ربط آسيا بأوروبا. كما أنه يسمح لها بمد نفوذها وتأثيراتها داخل أغلب الساحات المهمة بالشرق الأوسط، والبلقان، والقوقاز، والبحر الأسود، وآسيا الوسطى. كما تتحكم في مضيق البوسفور الذي يُعد نقطة مرور هامة لروسيا نحو البحر المتوسط، وحلقة مهمة ضمن مبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
٢- فاعل رئيسي: تمتلك أنقرة حدودًا مع كل من سوريا والعراق وإيران، كما تعد فاعلًا رئيسيًّا في معظم الساحات الساخنة بالشرق الأوسط، سواء في العراق، وإيران، ولبنان، والقضية الفلسطينية، وسوريا، وليبيا، وشرق المتوسط. الأمر الذي يفرض ضرورة وضعها في الحسبان عند النظر في أية تسويات تتم بشأن هذه القضايا.
٣- موازن استراتيجي: تقوم أنقرة بدور مهم بوصفها “موازنًا استراتيجيًّا” لمواجهة الدور المتزايد الذي يسعى خصوم واشنطن للعبه، لا سيما روسيا والصين. ويأتي هذا الدور وتزداد أهميته مع اتساع رغبة واشنطن في حصر انخراطها الخارجي بطريقة تتطلب الاستناد إلى وكيل يستطيع ملء هذا الفراغ.
٤- ساحة حيوية: تضم تركيا قواعد عسكرية ومراكز للرصد والإنذار المبكر والاتصالات اللا سلكية، ونظم التجسس وجمع المعلومات، أهمها القاعدتان الجويتان “إنجرليك” و”قونيا”، وقيادة القوات البرية التابعة لحلف الناتو في “أزمير”، ونظام رادار الإنذار المبكر الأمريكي في “كوريسيك” الذي يعد جزءًا من نظام الدفاع الصاروخي لحلف الناتو في أوروبا، وقاعدة “سينوب” التي تحوي رادارات بعيدة المدى ونظم اتصال متطورة، ومحطة رادار “كورجيك”. الأمر الذي يعني أنها ساحة حيوية وأداة رئيسية بالنسبة لحلف الناتو.
٥- قناة للتواصل مع طهران: تعد أنقرة القناة المناسبة لتحقيق التقارب في الرؤى بين واشنطن وطهران، لا سيما مع تزايد رغبة “بايدن” في اتباع نهج أكثر تعقلًا وبراجماتية مع طهران، والعودة إلى الاتفاق النووي. ويرجع ذلك إلى كون أنقرة الساحة التي تعتمد عليها طهران –بقدر ما– للالتفاف على العقوبات الأمريكية.
٦- بوابة التواصل مع الإسلام السياسي: تبدو أنقرة البوابة الأنسب والأقرب للتواصل مع الإسلام السياسي حال استطاع إعادة بناء قوته من جديد بطريقة تجعل منه رقمًا مهمًّا في معادلة المنطقة. ويرجع ذلك إلى إصرار تركيا على تصدير نفسها بوصفها “نموذجًا إسلاميًّا عصريًّا” بطريقة مكنتها من امتلاك قنوات اتصال مفتوحة مع الإسلام السياسي، وأيضًا مع التنظيمات المتطرفة حسبما تفيد أغلب التقارير.
إجمالًا، يمكن القول بشكل عام، إن حالة الازدواجية والتأرجح في العلاقات بين واشنطن وأنقرة ليست بالجديدة، إذ لم تكن العلاقات بينهما على وئام دائم. فقد سحبت إدارة “جون كينيدي” صواريخ “جوبيتر” من تركيا بداية من أبريل 1963. وبعد احتلال تركيا لقبرص في عام 1974، حظرت واشنطن السلاح الأمريكي على أنقرة، كما ساهمت المساعدات العسكرية الأمريكية إلى اليونان في التصدي لطموحات أنقرة في بحر إيجه. إلا أن التهديد السوفيتي أدى إلى تجاوز كل هذه الخلافات، وساعد على تقوية العلاقات.
وقياسًا على ذلك، يتضح من العرض السابق أن الخلافات التي تتصدر العلاقات بين واشنطن وأنقرة لا تعني وصول العلاقات إلى حالة العداء، بل على العكس لا تزال هناك جملة من التفاهمات والمصالح التي توجه بوصلة العلاقات بينهما. كما يتضح أيضًا أن النظرة الأمريكية لتركيا لا تزال تدور في إطار كونها أحد الأذرع الغربية أو أداة للناتو في مواجهة المعسكر المناوئ للولايات المتحدة. وعليه، لا يعني –بالضرورة- فوز “بايدن” في الانتخابات القادمة فتح فصل جديد للعلاقات بين الطرفين يكون قوامه الصدام أو العداء، وإنما استمرار النهج المختلط التي يحوي مزيجًا من التفاهمات والاختلافات.