تشهد الساحة الدولية استمرار تصاعد التوتر الأوروبي التركي، فقد أعلن البيان الصادر عن القمة الأوروبية التي عُقدت يوم الخميس الموافق الأول من أكتوبر، عن مهلة تمتد ثلاثة أشهر للجانب التركي لوقف انتهاكاته للسيادة المائية اليونانية والقبرصية، تلك المدة التي توافق ميعاد القمة المزُمع عقدها في ديسمبر المقبل.
يُعد هذا الإعلان محطة جديدة في توتر مستمر منذ بدء تركيا في التنقيب غير المشروع عن الثروات الهيدروكربونية في المياه التابعة للسيادة القبرصية واليونانية. فلطالما اعترض الاتحاد الأوروبي على التنقيب التركي، ولكنه لم يعطِ مهلة أو ميعادًا محددًا أو حتى توضيحًا لحجم أو نوعية العقوبات التي يمكن أن يفرضها على تركيا.
اتّبع البيان سياسة العصا والجزرة مع تركيا، ما بين التلويح بالعقوبات وتقديم الحوافز، إلا أن هذا البيان لا يمكن الجزم بأنه سيؤدي إلى إيقاف تركيا النهائي لسلوكياتها غير المشروعة، وهو ما يرجع لوجود عدد من المصالح المتشابكة التي تصل لحد التعارض ضد اتخاذ موقف متشدد ضد الانتهاكات التركية. لذا فإن هذا التحليل سيسعى لتوضيح تلك المواقف، والدوافع المحفزة لعدم بلورة موقف موحد ضد الانتهاكات التركية، ومستقبل الموقف الأوروبي في ضوء تلك المواقف والمصالح المتشابكة.
مواقف متباينة
تُجمع الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي على قانونية الموقفين القبرصي واليوناني في بحر إيجه وشرق البحر المتوسط، ولكن هذا الإجماع لم ينعكس على الإجراءات الواجب اتخاذها لدعم قبرص واليونان في وجه الانتهاكات التركية لمياههما الإقليمية. وترتب على ذلك حدوث انشقاقات في مواقف الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي كل حسب دوافعه.
فكان على رأس المعسكر المناهض للانتهاكات التركية فرنسا واليونان وقبرص، حيث قامت الأولى بتكثيف حضورها العسكري وتعزيز تعاونها مع الأخيرتين. بينما قامت قبرص واليونان بترسيم حدودهما مع الدول المتداخلة معهما لحفظ حقوقهما، وتكثيف حضورهما العسكري للرد على تركيا، وأخيرًا قامت قبرص بربط موافقتها على توقيع عقوبات على عدد من رؤوس النظام في بيلاروسيا، بتوقيع عقوبات في المقابل على تركيا.
وكان على رأس المعسكر الجانح نحو التهدئة والسعي للوساطة بين الطرفين، ألمانيا، الدولة الأكثر تعاونًا مع تركيا، بالإضافة لإيطاليا وإسبانيا، ويسيطر هذا المعسكر على التعامل الأوروبي مع تركيا، الذي يرى أن التهدئة هي السبيل الأفضل لحل الأزمة.
دوافع التباين الأوروبي
يُمكن تفسير دوافع عدد من الدول بالاتحاد، وكذلك القيادات الرئيسية للاتحاد في الاتجاه نحو التهدئة وعدم التصعيد في وجه تركيا، بسبب مصالحهم المتشابكة لحد كبير مع تركيا، ويمكن بلورة أبعاد تلك المصالح كالتالي:
١- المصالح التجارية:
ترتبط تركيا مع الاتحاد الأوروبي باتحاد جمركي يركز بالأساس على السلع منذ عام 1996، ويُعد هذا الاتحاد ختام المرحلة الثانية من ثلاث مراحل رئيسية يفترض أن تمر بها تركيا للانضمام للاتحاد الأوروبي. وقد ساهم هذا الاتحاد الجمركي في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين الطرفين، حيث أصبحت تركيا سادس أكبر شريك لصادرات الاتحاد الأوروبي من السلع وأيضًا سادس أكبر شريك لواردات الاتحاد الأوروبي من السلع في عام 2019. ويعد الاتحاد الأوروبي وجهة التصدير الرئيسية لتركيا بنسبة تزيد على 42% من صادراتها الإجمالية. ومن بين الـ27 دولة الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، كانت ألمانيا أكبر مستورد للبضائع من تركيا وأكبر مصدّر لها. وفي 2019، تحولّ الميزان التجاري بين الطرفين لصالح تركيا، فحققت فائضًا لأول مرة في تجارتها السلعية مع الاتحاد.
لم تتوقف العلاقات بين الطرفين على التبادلات التجارية، بل تزايدت الاستثمارات الأوروبية في تركيا، فبلغ إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا 219 مليار دولار بين عامي 2003 وأبريل 2020 وفق تصريحات رئيس مكتب الاستثمار التركي “أحمد بوراك داغلي أوغلو”. بالإضافة لأن الدول الأوروبية كانت لها الحصة الكبرى في حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في تركيا، فوصلت لما يقرب من 77% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية المباشرة خلال المدة من 2003-2019. وبلغت حصة هولندا نحو 25%، من إجمالي الاستثمارات الأجنبية بقيمة 33 مليار دولار. فيما بلغت الاستثمارات المباشرة من ألمانيا نحو 7.5%، من إجمالي الاستثمارات المباشرة، بقيمة عشرة مليارات دولار للفترة المذكورة، وهو ما يعني أن أي عقوبات اقتصادية مؤثرة على تركيا، سوف تؤثر عليها وستنعكس على الاتحاد الأوروبي كذلك.
٢- الديون الأوروبية:
في عام 2018، كان حوالي 80% من ديون تركيا الخارجية مستحقة لمصارف في الاتحاد الأوروبي، حيث إن المؤسسات المالية الإسبانية والفرنسية وحدها كانت قد منحت تركيا أكثر من نصفها اعتبارًا من العام الماضي. وبالتالي، من شأن أي أزمة مالية في تركيا أن تحدث صدمات مهمة في جميع أنحاء أوروبا. وعلى الرغم من أن المؤسسات المالية الأوروبية قلصت أنشطتها في تركيا في السنوات الأخيرة، فلا تزال البنوك الإسبانية والفرنسية والبريطانية والألمانية تستثمر في تركيا بأكثر من مائة مليار دولار.
تتصّدر البنوك الإسبانية القائمة بإقراض يصل لنحو 62 مليار دولار. وتساهم البنوك الفرنسية بـ29 مليار دولار، وسجلت البنوك البريطانية في ميزانياتها العمومية قروضًا لتركيا بأكثر من 12 مليار دولار، بينما تشارك البنوك الألمانية بنحو 11 مليار دولار، إضافة للبنوك الإيطالية التي استثمرت حوالي 8.7 مليارات دولار.
وبالإضافة لاستثمار البنوك الأوروبية في أدوات الدين التركية، فقد كشف تقرير لمجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأمريكية عام 2018، عن قيمة استثمار عدد كبير من البنوك الشهيرة في أوروبا في أدوات الدين التركية من سندات وأذون، حيث تحتفظ البنوك الإسبانية بأكثر من 80 مليار دولار من الديون التركية، والبنوك الفرنسية تمتلك ما يقارب 40 مليار دولار، والبنوك الإيطالية حوالي 20 مليار دولار.
وعليه فإن أي أزمة تعصف بالنظام التركي، وبخاصة النظام المالي، ستكون لها تداعيات كُبرى على المصارف الأوروبية المختلفة.
٣- الجاليات التركية:
يُشكل المهاجرون الأتراك والمواطنون الأوروبيون من أصل تركي في أوروبا أحد العناصر الرئيسية للعلاقة بين تركيا وأوروبا. فبنهاية الحرب العالمية الثانية، قدم المهاجرون الأتراك مساهمة أساسية في العمل لإعادة بناء الاقتصادات الأوروبية. حيث وقعت الحكومة التركية اتفاقيات توظيف ثنائية مع ألمانيا في عام 1961، ومع هولندا، والنمسا، وبلجيكا في عام 1964، وكذلك فرنسا في عام 1965، بالإضافة للسويد في عام 1967.
ونتج عن هذه الاتفاقيات الثنائية، التي تم تأطيرها في البداية على أنها اتفاقات لاستجلاب “عمالة زائرة” مؤقتة، الكثير من العمال الأتراك الذين أصبحوا مقيمين دائمين بدول الاتحاد. ونتيجة لذلك، أصبح المهاجرون الأتراك وعائلاتهم أكبر مجموعة من غير المواطنين المقيمين في الاتحاد الأوروبي. وحتى في الوقت الذي كانت فيه الدول الأوروبية تركز على سياسات الهجرة الأكثر تقييدًا في أعقاب أزمة النفط عام 1973، سمحت قوانين لم شمل الأسرة باستمرار قدوم المهاجرين الأتراك إلى أوروبا. وعليه أصبح هناك ما يقرب من 5.5 ملايين تركي في دول أوروبا الغربية، وخاصة في ألمانيا وهولندا وفرنسا وسويسرا والنمسا (وفق وزارة الخارجية التركية 2018).
هذا الوجود الكبير أصبح مؤثرًا على السياسات الأوروبية تجاه تركيا. فاستغل الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” هذا الوجود، ووسع علاقاته بتلك الجاليات وبخاصة من ناحية الاتحادات التركية الإسلامية. فعلى سبيل المثال، يشرف “الاتحاد التركي الإسلامي للشؤون الدينية في ألمانيا” (ديتيب) على 860 مسجدًا منتشرة في 16 ولاية ألمانية، ويضم 200 ألف عضو. وتعد (ديتيب) أكبر منظمة مظلية للمساجد في ألمانيا، وتشرف على أكبر مسجد في البلاد، وهو المسجد الكبير في مدينة كولونيا.
ولا يختلف الحال في النمسا عن نظيرتها في ألمانيا، حيث تلعب منظمة “الاتحاد الإسلامي التركي في النمسا” (أتيب) التي تملك 64 مقرًّا ومسجدًا في عموم البلاد، وأكثر من 100 ألف تابع، دورًا كبيرًا في ترسيخ الثقافة ونمط الحياة التركي في مجتمعات المهاجرين الأتراك، حسب صحيفة “كورير” النمساوية الخاصة. ووفق الصحيفة، فإن (أتيب) تُعد ذراع الرئيس التركي الطولى في النمسا، وتتلقى تمويلًا لأنشطتها ورواتب أئمتها من مديرية الشؤون الدينية التركية.
٤- أزمة اللاجئين:
تُعد تلك الورقة من أبرز الأوراق التي يستخدمها الجانب التركي للضغط على الجانب الأوروبي. ففي عام 2015، واجهت أوروبا موجة عاتية من النازحين السوريين نحو أراضيها بسبب الحرب الأهلية السورية. ولم ترد بعض الدول الأوروبية استقبال هذا العدد الكبير من النازحين، فوقّع الاتحاد الأوروبي مع تركيا في 18 مارس 2016، اتفاقًا دخل حيز النفاذ يوم 4 إبريل، هو الأكبر من ضمن اتفاقات أخرى لوقف موجات اللاجئين والنازحين من الدخول لأراضيها. ونتيجة لذلك وصل عدد اللاجئين السوريين الذين تستقبلهم تركيا إلى ما يزيد على 3.6 ملايين سوري من أصل 5.64 ملايين لاجئ سوري في الدول المجاورة في سبتمبر 2018. في مقابل حزمة مالية تقدّر بنحو 6 مليارات دولار، تُقدم لتركيا لمساعدة اللاجئين، بالإضافة لفتح الفصل الـ33 (الخاص بالمسائل المالية والاتحاد الجمركي) لتسريع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وكذلك المضي في إعفاء الأتراك من تأشيرات دخول الاتحاد الأوروبي. إلا أن الانقلاب الذي حدث في يوليو 2016، وما تبعه من انتهاكات لحقوق الإنسان والتراجع الديمقراطي بتركيا، أوقف تلك المساعي نحو إلغاء التأشيرات أو تعميق وتوسيع الاتحاد الجمركي بين الطرفين.
ولم يتوانَ الرئيس التركي عن استخدام تلك الورقة في وجه الاتحاد الأوروبي، في حال عزم الاتحاد الأوروبي توقيع أي عقوبات عليه في أي ملف، سواء لقصفه للأكراد في شمال سوريا، أو لتدخلاته الخارجية في ليبيا والعراق، وأخيرًا لانتهاكاته المتكررة للمياه التابعة للسيادة الإقليمية لدولتي الاتحاد قبرص واليونان.
ولا يمكننا اختصار التشابكات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في تلك الملفات فقط. فهناك ملف الدواعش الأوروبيون الذي يحتجزهم النظام التركي وترفض أوروبا استلامهم، وكذلك الأهمية الأمنية والجغرافية التي تمثلها تركيا لأوروبا، وأخيرًا العلاقات الراسخة والممتدة منذ عقود طويلة بين الطرفين، التي تجعل من الصعب فك تشابكات العلاقات بينهم.
مستقبل الأزمة ما بين احتمالات التهدئة والتصعيد
يبدو للوهلة الأولى أن تركيا برُغم تصريحاتها العدائية، قد بدأت في التهدئة مع الجانب الأوروبي، وهو ما ظهر في عدد من المواقف؛ أولها: سحبها سفينة التنقيب “أوروتش رئيس” من منطقة شرق المتوسط، وإعادتها إلى ميناء أنطاليا، بعد مباحثات عقدت بين أنقرة وأثينا برعاية حلف شمال الأطلسي “الناتو” يوم 14 سبتمبر من العام الجاري. ثانيها: اتفاقها على استئناف المحادثات مع اليونان يوم 22 سبتمبر لمحاولة الوصول لحل بخصوص مطالبهما البحرية المتنازع عليها في البحر المتوسط. تلك الجولة التي بدأت بعد توقف استمر منذ عام 2016، وتعد هذه الجولة الـ61، بعد 60 جولة استمرت لنحو 14 عامًا بين البلدين لحل القضايا العالقة بينهما. وثالثها: توصلها لآلية لتجنب النزاعات والحوادث العسكرية في شرق المتوسط بينها وبين اليونان بعد جولة مفاوضات برعاية الناتو في الأول من أكتوبر.
وأخيرًا استقبالها الإيجابي نوعًا ما للبيان الأخير الصادر عن القمة الأوروبية. فرُغم انتقادها لتحيز الاتحاد الأوروبي لليونان وقبرص، وتلويحه بالعقوبات ضدها، إلا أنها ثمنت على الجوانب الإيجابية التي صدرت في البيان. ففي البيان الصادر عن المفوضية الأوروبية نجد أن الاتحاد أبدى استعداده لمزيد من الانفتاح على تركيا، متى ما أوقفت انتهاكاتها. فنصت الفقرة 19 من البيان على أنه “في حال تواصل الجهود الإيجابية التركية لوضع حد للأنشطة غير الشرعية التي تقوم بها إزاء اليونان وقبرص، فإن الاتحاد الأوروبي عازم على إطلاق برنامج سياسي بنّاء بينه وبين تركيا يشمل تحديث الاتحاد الجمركي، وتسهيل المبادلات التجارية، وتنقل الأشخاص، وقيام حوار عالي المستوى بشأن استمرار التعاون في مسائل الهجرة”، بالإضافة للدعوة إلى مؤتمر متعدد الأطراف لمناقشة أوجه التعاون في شرق المتوسط بين تركيا والدول الأوروبية المعنية.
إلا أنه في حال أمعنّا النظر في التحركات التركية الأخيرة، نجد نمطًا واضحًا من الجنوح نحو استخدام أوراق الضغط وسياسة الأمر الواقع كسبيل للحصول على ما تبتغيه، بالإضافة للسعي للتهدئة المؤقتة كمناورة. وعليه فإن تركيا ستسعى لاختبار المدى الذي يمكن للاتحاد الذهاب إليه، لذا فإن الاتحاد لو لم يسعَ إلى فرض عقوبات حقيقية على تركيا ما لم تلتزم، فإن تركيا ستستمر في اتجاهها التصعيدي دون حائل أوروبي رادع لتحركاتها.
في الختام، فإن بلورة موقف أوروبي موحد في الوقت الحالي تجاه تركيا يُعد صعبًا نظرًا لقوة أوراق الضغط التركية من جهة، والمصالح الأوروبية المتشابكة مع تركيا من جهة أخرى. إضافة إلى أن نمط تشرذم القرار الأوروبي في تحركاته الخارجية والعاكسة لواقعه الداخلي، أصبح حاضرًا في أغلب الملفات الذي ينخرط بها الاتحاد، بما يسهل على الأطراف الخارجية استغلال هذا التشرذم لصالح تمرير مصالحها كما تفعل روسيا والصين وغيرهما.