بعد أن فشلت الجولة الأخيرة من مفاوضات سد النهضة برعاية الاتحاد الإفريقي في دمج مقترحات الدول الثلاث للتوصل إلى اتفاق شامل يراعي مصالح الدول الثلاث، نشرت مجلة “وان إيرث” (One Earth) دراسة بعنوان “ملء أكبر سد في إفريقيا يجب أن يراعي الحقائق الهندسية“، والتي أعدها فريق مكون من سبعة باحثين: اثنان من جامعة مانشستر وواحد من جامعة لندن، وباحث من جامعة أوكسفورد، وخامس من جامعة كولن الألمانية، وسادس من جامعة الخرطوم السودانية، وسابع من جامعة كولورادو الأمريكية. وتتمثل أهمية الدراسة في تقديم نموذج لملء وتشغيل السد الإثيوبي وتوضيح طبيعة بنائه وأهمية مراعاة الحقائق الهندسية حول السد أثناء التفاوض لمنع نشوب صراعات مستقبلية.
أهمية القيود الهندسية للسدود
تمثل الاستخدامات المتعددة لمياه الأنهار سواء ري الأراضي الزراعية، أو الاستخدامات المنزلية، أو توليد الكهرباء دافعاً قوياً لدى الدول لبناء السدود. وعلى الرغم من وجود 310 من أحواض الأنهار العابرة للحدود في العالم تتقاسمها 150 دولة وتغطي حوالي 47٪ من سطح الأرض، إلا أن السدود المخطط تنفيذها أو قيد الإنشاء يمكن أن تؤثر على حالة التعاون أو الصراع بين المناطق والبلدان المتضررة.
وليس مستغرباً أن يصل عدد السدود التي يتم بناؤها في الوقت الحالي إلى أكثر من 45 ألف سد على 50% من الأنهار الكبيرة في العالم من أجل تخزين حوالي 15٪ من المياه السطحية المتدفقة حول العالم سنوياً. وتساهم الطاقة الكهرومائية بحوالي 16٪ من حجم الكهرباء المولدة عالمياً، وحوالي 70٪ من الكهرباء المتجددة، ويمكن أن تساهم في توفير الكهرباء لما يقدر بنحو 840 مليون شخص ما زالوا محرومين من الكهرباء، لكن قد تؤثر السدود في دول المنبع على توافر المياه في بلدان المصب.
ويمثل سد النهضة مثالاً لذلك، حيث سيؤدي إلى مضاعفة توليد الكهرباء في إثيوبيا من جانب، ولكنه سيقلل تدفق مياه النيل إلى السودان ومصر أثناء فترة ملء الخزان. لذلك يتعين عند العمل على مخططات الملء الأول والتشغيل طويل الأجل لسد النهضة ألا تتجاهل المفاوضات بين الدول الثلاث الخصائص الهندسية الرئيسية للسد، فبعض خطط الملء التي تم التفاوض بشأنها قد تكون غير قابلة للتطبيق بسبب قدرة السد المحدودة على إطلاق المياه عند مستويات منخفضة من المياه.
ويبلغ حجم خزان سد النهضة حوالي 1.5 ضعف متوسط التدفق السنوي للنيل الأزرق، وقد يؤثر تقليل تدفق مياه النيل الأزرق نتيجة الملء الأول للخزان سلبًا على إمدادات المياه وتوليد الطاقة الكهرومائية في السودان ومصر. وقد استمرت المناقشات والمفاوضات بين إثيوبيا والسودان ومصر حول آثار سد النهضة منذ الإعلان عن المشروع، لكنها لم تتوصل إلى اتفاق بشأن ملء الخزان الأول والتشغيل طويل الأمد للسد، حتى بعد مشاركة الإدارة الأمريكية والبنك الدولي كمراقبين والاتحادين الأفريقي والأوروبي.
وفي حالات استثنائية، مثل سد النهضة، حيث سبق تصميم السد وبناؤه الاتفاق بين الدول الثلاث بشأن الملء الأول لخزان السد والتشغيل طويل الأجل، يمكن أن تحد السعة الهيدروليكية لمنافذ تصريف المياه في السد -أي كمية المياه التي يمكن إطلاقها من هذه المنافذ- من الخيارات المحتملة التي يمكن تناولها في مفاوضات لاحقة بين الدول الثلاث. في هذه الحالة، ينبغي وضع القيود الهندسية لتصميم السد وبنائه في الاعتبار أثناء المفاوضات حول الملء الأول لخزان السد للمساعدة في منع أي توتر سياسي قد ينتج مستقبلاً بسبب عدم القدرة على تنفيذ الاتفاقات التي سيتم التوصل إليها بسبب التصميم الهندسي للسد. وعلى الرغم من أن بناء سد النهضة يقترب من مراحله النهائية، إلا إنه لم يتم حتى الآن الاعتراف بشكل كامل بهذه المتطلبات الهندسية.
منافذ تصريف مياه سد النهضة
يشتمل سد النهضة على خمسة أنواع من المنافذ التي تُمكِّن السد من تصريف المياه في اتجاه مجرى النهر: منافذ تحويل الأنهار، ومنافذ التوربينات، ومنافذ القاع، ومجاري التصريف ذات البوابات، ومفيضات الطوارئ غير المجهزة. وتسمح المبادئ الهيدروليكية بزيادة كمية المياه التي يتم تصريفها عبر كل نوع من منافذ السد وفقاً لمستوى المياه في الخزان، ولكن عندما ينخفض مستوى الماء ويقترب من مستوى ارتفاع المنفذ، تقل كمية المياه التي يتم تصريفها، مما يشكل قيدًا هيدروليكيًا على تصريف المياه، وهو ما سيؤثر على الاحتياجات المائية لدول المصب.
ويتألف سد النهضة من ثلاث وحدات هيكلية: سد رئيسي، ومجاري التصريف ذات البوابات، وسد السرج أو السد الفرعي. ويضم السد أربعة منافذ تحويلية، اثنان على كل جانب، تم تبطين اثنين بالخرسانة والآخرين بالفولاذ، وعادةً ما يتم وضع منافذ تحويل النهر في الجزء السفلي من الجزء الأكثر استقرارًا من السد وتستخدم لتحويل النهر مؤقتًا للتمكن من بناء السد، كما يتم إغلاق هذه المنافذ بعد وقت قصير من بدء ملء الخزان ولكن يمكن استخدامها في ظروف استثنائية بعد الانتهاء من البناء، مثل صيانة المنافذ الأخرى أو لتسريع سحب الخزان في حالة فشل السد.
يوجد منفذان سفليان على الجانب الأيسر من السد الرئيسي عند مستوى مقلوب 542.25 متراً فوق مستوى سطح البحر، ويعملان عندما تصل المياه في الخزان إلى 4.5 مليار متر مكعب (565 متراً فوق مستوى سطح البحر). وتُستخدم المنافذ السفلية لإطلاق المياه في اتجاه مجرى النهر عندما تكون سعة منافذ التوربينات غير كافية. وتعد هذه المنافذ مفيدة لضمان التدفق لاحتياجات المياه في اتجاه مجرى النهر. كما توجد منافذ التوربينات على الجانبين الأيسر والأيمن من السد الرئيسي على ارتفاعات من 542 إلى 578 متراً فوق مستوى سطح البحر، وتعمل هذه المنافذ عندما تصل المياه في الخزان إلى 4.5 مليار متر مكعب (565 متراً فوق مستوى سطح البحر). وتعتبر منافذ التوربينات هي المسار الأساسي لإطلاق المياه في اتجاه مجرى النهر مع توليد الكهرباء في نفس الوقت.
وتبدأ مجاري التصريف ذات البوابات في العمل عندما تصل المياه في الخزان إلى 49.75 مليار متر مكعب (624.9 متراً فوق مستوى سطح البحر)، ويمكن استخدام مفيضات الطوارئ عندما يتجاوز تخزين الخزان 74 مليار متر مكعب (640 متراً فوق مستوى سطح البحر). وتُستخدم مجاري التصريف ذات البوابات لتمرير مياه الفيضانات الزائدة بطريقة خاضعة للرقابة للحفاظ على الخزان عند مستوى الإمداد الكامل أو أقل منه، أي أعلى ارتفاع ممكن للخزان. أما مفيضات الطوارئ فتكون غير مغلقة وتعمل كضمان لمنع مرور المياه فوق السد خلال فترات الفيضانات الشديدة.
تصورات محتملة لملء خزان سد النهضة
لوضع تصور أقرب للواقع بشأن خطة ملء خزان سد النهضة يمكن محاكاة الاستراتيجية التي اقترحتها وزارة الخزانة الأمريكية خلال المفاوضات التي عقدت بين الدول الثلاث برعاية أمريكية من نوفمبر 2019 إلى فبراير 2020. ووفقاً لهذه الاستراتيجية يمكن لإثيوبيا الاحتفاظ بـ 4.9 و13.5 مليار متر مكعب في سنتي التعبئة الأولى والثانية، على التوالي، لكي تبدأ سريعاً في توليد الكهرباء.
وللتبسيط، يمكن وضع تصور للمرحلة الثانية للملء بفرض حد أدنى لحجم تصريف المياه السنوي يبلغ 37 مليار متر مكعب بدءًا من سنة الملء الثالثة حتى يدخل السد مرحلة التشغيل المستقر، كما يقصر الاقتراح حجز المياه على شهري يوليو وأغسطس. وقد كان من المستهدف بالنسبة لإثيوبيا أن تحتفظ بـ 12.5 مليار متر مكعب سنويًا، بدءًا من السنة الثالثة للوصول إلى مرحلة التشغيل المستقر بحلول العام الخامس.
كما تم استخدام حد أدنى للتدفق البيئي يبلغ 15 مليون متر مكعب / يوم على غرار ما تم استخدامه في سد سنار الذي لا يبعد عن سد النهضة كثيرا. واقتصر التباين اليومي في التدفقات النهائية على 300 مليون متر مكعب / يوم، وفُرض حد أقصى للتدفق اليومي يبلغ 650 مليون متر مكعب لمنع الفيضانات على دولتي المصب.
وتم تقسيم مراحل التخزين كما يلي: بمجرد الوصول إلى حجم تخزين يبلغ 4.9 مليار متر مكعب سيتوقف الملء حتى بداية العام المائي التالي لتركيب أول توربينين واختبار استقرار جسم السد. وبالمثل، سيتوقف الملء في العام الثاني حتى العام المائي التالي بمجرد أن يتم تخزين 18.4 مليار متر مكعب لتركيب باقي التوربينات تدريجياً واختبار ثبات السد. وكان من المفترض أن يتم تركيب التوربينات وإنشاء خطوط نقل الكهرباء وإتاحة مراكز استهلاكها عند بدء توليد الطاقة من سد النهضة. وبدون هذا الافتراض، لن يكون من الممكن تمرير المياه عبر التوربينات.
كما تم اختبار ملء خزان سد النهضة عبر 34 تسلسلًا لتدفق الأنهار تم إنشاؤها باستخدام طريقة تسلسل المؤشر، واستخدمت هذه الطريقة سجلات تدفق النهر التاريخية للفترة 1983-2017 لإنشاء تسلسلات هيدرولوجية وتطبيقها على المستقبل، مع أخذ كل السنوات في السجل كنقاط بداية ممكنة. ويشمل النطاق الزمني للبيانات كلاً من فترة الجفاف في الثمانينيات وفترة التعافي بعد عام 1990.
الدروس المستفادة من حالة سد النهضة
يعتبر وضع سد النهضة مثالاً يمكن من خلاله تعلم عدداً من الدروس لتطوير السدود المستقبلية في أحواض الأنهار المؤثرة سياسياً. وتظهر النتائج أن القيود الهندسية لسد النهضة يمكن أن تؤثر على تدفق النهر المتوقع سنوياً إلى السودان ومصر ويمكن أن يكون لذلك عواقب سياسية وأمنية وخيمة. لكن ما يمثل أخباراً جيدة بالنسبة لمصر أن خزان السد العالي بأسوان ممتلئ حاليًا تقريبًا (أي أعلى من 179 مترًا) منذ أغسطس 2020. لذلك، فإن استخدام هذه المياه المخزنة يمكن أن يقلل من الآثار السنوية على مصر أثناء ملء خزان سد النهضة، ومع ذلك، فإن هذا الإجراء من شأنه أن يقلل من قدرة السد العالي على توليد الطاقة الكهرومائية.
ويمكن للجميع سواء العلماء والخبراء أو حتى وسائل الإعلام والجمهور، استناداً إلى بيانات الاستشعار عن بعد بالأقمار الصناعية المنتظمة والموثوقة بشأن مستويات المياه في الخزان، أن يلاحظوا أي فشل لسد النهضة في تصريف كميات المياه التي سيتم الاتفاق عليها في اتجاه مجرى. وقد يؤدي عدم تنفيذ اتفاقيات تصريف المياه بسبب القيود الهندسية إلى الخوف العام والتكهنات، وبالتالي تفاقم التوتر السياسي وانعدام الثقة بين دول المنبع والمصب. لذلك، يظل من الضروري التحقق من أي آثار محتملة للقيود الهندسية لسد النهضة وإدارتها بشكل تعاوني.
وبصورة أعم، ينبغي أن يبدأ تصميم وبناء السدود الكبيرة على أحواض الأنهار العابرة للحدود بعد التوصل إلى اتفاق بين البلدان والمناطق المتأثرة بالملء الأول لخزان السد والتشغيل طويل الأجل، حيث يؤدي النمو السكاني والسعي لتحسين مستويات المعيشة إلى زيادة الطلب على المياه، وبالتالي زيادة احتمال نشوب نزاع على أحواض الأنهار العابرة للحدود، خاصة في البلدان الفقيرة مائياً التي تتلقى غالبية مياهها من الخارج (على سبيل المثال مصر وسوريا وأوزبكستان وتركمانستان). وإذا تم تنفيذ التصميم والبناء من جانب واحد قبل الاتفاق، فينبغي مراعاة القيود الهندسية في المفاوضات بين الدول كي لا ينشأ توتر سياسي وانعدام للثقة بسبب الفشل في تفعيل عمليات تصريف كميات المياه المتفق عليها. وفي حالة نهر النيل، سيقف عدم الثقة في طريق التعاون العابر للحدود في مجالات المياه والطاقة والأمن الغذائي وسيؤدي إلى الاستخدام غير الفعال للموارد المائية المحدودة بالفعل.
Source: Basheer, Mohammed, et al. “Filling Africa’s Largest Hydropower Dam Should Consider Engineering Realities.” One Earth 3.3 (2020): 277-281.