تُعد التجربة الكوبية لإصلاح القطاع الصحي واحدة من أنجح تجارب الإصلاح الصحي في دول العالم النامي. فبعد ستين عامًا من إطلاق أول البرامج الإصلاحية الصحية، تمتلك كوبا اليوم نظام رعاية صحية مجانيًا. وعلى الرغم من وجود نقص في الموارد الطبية، فلا يوجد نقص في العاملين في المجال الطبي. كما أصبحت خدمات الرعاية الصحية الأولية متوفرة في جميع أنحاء الجزيرة، وانخفضت معدلات وفيات الرضع والأمهات لتصبح أفضل من مثيلاتها في الدول المتقدمة.
بدايات النظام الصحي في كوبا
عندما تولّت الحكومة الثورية بقيادة “فيدل كاسترو” في كوبا زمام الأمور في عام 1959، كان ملايين الكوبيين دون رعاية صحية، وشهدت مرحلة ما بعد الثورة في الستينيات تدهورًا شاملًا في القطاع الصحي؛ حيث غادر الجزيرة نصف عدد أطبائها البالغ عددهم وقتها 6000 آلاف طبيب، كما ازداد تدهور الخدمات الصحية في الريف، وبلغ معدل وفيات الرضع في الريف 100 لكل 1000 ولادة حية.
وقد شرعت السلطات الصحية الكوبية سريعًا في اتخاذ عدد من الإجراءات الإصلاحية في القطاع الصحي؛ بهدف إنشاء نظام صحي وطني يستطيع من خلاله كافة المواطنين الوصول لكافة الخدمات الصحية، واعتمدت على ثلاث ركائز لتحقيق ذلك، تشمل:
أ. توسيع نطاق الخدمات الصحية، والاهتمام بالرعاية الصحية الأولية.
ب. الاهتمام بتعليم وتدريب كافة العاملين في مجال الرعاية الصحية.
ج. دمج أنظمة تقديم الرعاية الصحية المتعددة في نظام واحد؛ بحيث يكون هذا النظام قادرًا على تلبية كافة الاحتياجات الصحية للمواطنين.
برامج الإصلاح الصحي في كوبا
لجأت كوبا إلى مجموعة من برامج الإصلاح التي قامت بتطبيقها تدريجيًّا منذ عام 1960، ويمكن إجمال أبرز معالم هذه البرامج فيما يلي:
١- القوافل الطبية: أول السياسات الصحية التي لجأت إليها كوبا، في عام 1960، كان إطلاق القوافل الطبية في المناطق الريفية التي كانت تعاني أكثر من غيرها من شح في الخدمات الطبية وتفشي الأمراض المعدية. وقد ساعدت تلك القوافل في توفير خدمات طبية أفضل للمواطنين، وتوعيتهم حول كيفية تجنب الإصابة بالأمراض المعدية، خصوصًا مرض الملاريا. كما ساهمت القوافل الطبية أيضًا في بناء عدد من المستشفيات في المناطق الريفية، ليزداد العدد من مستشفى واحد في عام 1960، إلى 53 مستشفى في عام 1970، وبدأ توزيع العاملين في القوافل الطبية في تلك المستشفيات وفقًا لاحتياجات السكان.
٢- تطوير المناهج التعليمية: في منتصف السبعينيات، أُنشئت وزارة الصحة العامة في كوبا، وأصبحت مسئولة بشكل كامل عن تخطيط وتنفيذ البرامج والتدريبات الطبية. فبينما تشرف وزارة التعليم على منح الشهادات الأكاديمية، تقوم وزارة الصحة العامة بتصميم المناهج التعليمية والتدريبية والإشراف عليها وفقًا لاحتياجات السكان ورؤيتها الجديدة في إصلاح القطاع الصحي. وكان لوزارة الصحة العامة استراتيجية واضحة للإصلاح الصحي، وهي الإدارة الجيدة للموارد البشرية الطبية المتوفرة في كوبا.
٣- إنشاء قواعد البيانات والحدّ من مركزية التعليم الطبي: باشرت الوزارة في بادئ الأمر في إنشاء قاعدة بيانات كاملة لكافة العاملين والدارسين، في المرحلة الجامعية، في القطاع الطبي؛ من أجل حصر كافة الموارد البشرية المتاحة. واتخذت مع ذلك مسارًا موازيًا لتقليل مركزية التعليم الطبي في المدن الرئيسية، من خلال إنشاء كليات في كافة التخصصات الطبية في المدن الريفية بالمجان، لتشجيع الطلبة من تلك المدن على الالتحاق بالكليات وتخريج أكبر عدد ممكن من العاملين في قطاع الرعاية الطبية، مع تغطية احتياجات القوى البشرية الطبية بالمستشفيات في كافة أنحاء كوبا.
٤- برنامج طبيب وممرضة الأسرة: على الرغم من تلك المجهودات التي سبق ذكرها، ظلت هناك مجموعة من المشكلات القائمة في النظام الصحي الكوبي؛ فاعتماد النظام بشكل رئيسي على المستشفيات أدى إلى طول فترة انتظار المرضى للحصول على الخدمات الطبية، مع عدم تكامل الخدمات الوقائية والعلاجية بشكل كامل. فلجأت وزارة الصحة العامة لإدخال نظام صحي جديد يتضمن إنشاء عيادات طبية عامة، واعتمادها كأساس لتقديم خدمات الرعاية الصحية فيما عُرف ببرنامج “طبيب وممرضة الأسرة”. وفي عام 1974، افتتحت وزارة الصحة العامة أول عيادة طبية عامة متكاملة. وفي العام التالي، عمَّمت الوزارة النموذج في جميع أنحاء كوبا.
“يُشير مصطلح «العيادة العامة» إجمالًا إلى مرفق صحّي يقدم الخدمات للمرضى الخارجيين (أي الذين يترددون على العيادات أو المستشفيات للعلاج أو التشخيص، ولكن دون مبيت)، وقد كان فريق العاملين ببرنامج “طبيب وممرضة الأسرة” داخل العيادات العامة، يضم على الأقل طبيبًا عامًّا ممارسًا، وممرضة، وطبيب أطفال، وطبيبًا للتوليد وأمراض النساء، وعاملًا اجتماعيًّا. وكان الممرضون والعاملون الاجتماعيون، يقومون بزيارات منزلية، ويقدّمون الخدمات الطبية لأماكن العمل، والمدارس، والمجتمعات المحلية. وشملت الخدمات المقدَّمة حملات صحية مثل برامج التطعيم الجماعي لمكافحة الملاريا وحمّى الضَّنْك. وعمل موظفو العيادات كذلك على تنسيق برامج الرعاية الأولية (رعاية الأمومة والطفولة، والرعاية الطبية لكبار السن، وطب الأسنان)، مع برامج الصحة العامة (مكافحة الأمراض المُعدية، والخدمات البيئية، ومراقبة الأغذية، وخدمات الصحة المدرسية، والطب المهني وطب العمل)؛ أي نجحت تلك العيادات في خلق حالة من التكامل بين الطبّ العلاجي والطبّ الوقائي، وأصبحت ركيزة للرعاية الصحية الأولية.
إضافة إلى ذلك كانت العيادات العامة تنسّق الحملات المجتمعية، وتوفر الخدمات الاجتماعية إلى جانب الخدمات الطبية، والأهمّ هو أنها كانت توفر نقطة دخول واحدة إلى النظام الصحي، مما يتيح سجلًا كاملًا للتاريخ الطبّي للمرضى.
حصاد عملية الإصلاح الصحي
نجحت السياسات التي طبقتها كوبا في توسيع نطاق التغطية الصحية، وأصبحت الحكومة تدير نظامًا صحيًّا وطنيًّا تتولى فيه المسئولية المالية والإدارية عن الرعاية الصحية لجميع مواطنيها، فيما لا توجد مستشفيات أو عيادات خاصة. وتنفق الحكومة الكوبية، وفقًا لإحصائيات البنك الدولي لعام 7201، ما يوازي 11.71% من ناتج الدخل القومي على الصحة.
كما أصبح نظام الصحة الوطني الكوبي، الذي تأسس على رعاية صحية أولية قوية، فعالًا في تطبيق الخدمات الوقائية؛ فتمتلك كوبا رقمًا قياسيًّا في التحصين الكامل للأطفال بعمر السنتين ضد 13 مرضًا محتملًا بنسبة 98%؛ مع تقديم رعاية ما قبل الولادة لـحوالي 95% من النساء الحوامل بنهاية الثلث الأول من الحمل. وأصبحت معدلات وفيات الرضع في كوبا تساوي 4.2 لكل 1000 مولود، محققةً بذلك معدلًا مساويًا تقريبًا لمثيله في كندا والولايات المتحدة الأمريكية، كما هو موضح في الرسم البياني التالي.
وبجانب توفير خدمات الرعاية الصحية، استثمرت الحكومة الكوبية مبالغ كبيرة في تمويل بحوث العقاقير واللقاحات وتطويرها، حيث أدى استثمار ما يقرب من مليار دولار أمريكي في الصناعة الصيدلانية والتكنولوجيا الحيوية في كوبا، إلى إنتاج أدوية ولقاحات ومعدات للتشخيص المبكر تُصدَّر إلى دول كثيرة في العالم. فيما حصلت مجموعة الصناعات البيوتكنولوجية والصيدلية الكوبية (بيوكوبافارما)، وهي الشركة العامة التي تجمع جميع المشاركين في صناعة الطب الحيوي داخل كوبا، على أكثر من ألفي براءة اختراع، وتصدر مئات المنتجات المختلفة إلى البرازيل وفيتنام وجنوب إفريقيا وفنزويلا والجزائر وإيران.
وتمتلك كوبا أيضًا قدرة هائلة على جمع البيانات الصحية وتحليلها، من خلال مركز الإحصاءات الوطنية، الذي يقوم بجمع البيانات من جميع مستويات النظام الصحي، بدءًا من مكاتب طب الأسرة؛ وتحليلها من أجل تطوير خطط تأهب للطوارئ الصحية تتضمن آليات الإنذار المبكر والاستجابة الفورية لأي مخاطر صحية تطرأ في البلاد.
الاستثمار في الأطقم الطبية
خلال ما يزيد على نصف قرن من الإصلاحات الصحية، شهد التعليم الصحي في كوبا طفرة كبيرة، وخصوصًا مع تخصيص الحكومة الكوبية أكثر من 10% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على التعليم العام. فأصبحت كوبا تمتلك أعلى نسبة أطباء بالنسبة لتعداد السكان بين دول العالم، حيث يبلغ متوسط عدد الأطباء لكل ألف نسمة في كوبا 7.52 أطباء، وهو معدل يفوق بكثير أعداد الأطباء في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول المتقدمة كما هو موضح بالرسم البياني التالي.
ولكن مع انخفاض أجور الأطباء في كوبا (حوالي 50 دولارًا شهريًّا)، وتدني جودة المرافق الصحية والنقص المتكرر للأدوية الأساسية لجأ الأطباء إلى الهجرة خارج البلاد، وهو ما جعل الأطباء الكوبيين يشكلون رافعة اقتصادية حقيقية للجزيرة، فهم المصدر الأول للنقد الأجنبي. وبفضل اتفاق تمّ توقيعه عام 2000 مع الرئيس الفنزويلي الراحل “هوغو شافيز”، تحصل كوبا منذ فترة طويلة على مئة ألف برميل من النفط يوميًا (بأسعار مدعومة) مقابل عمل أكثر من عشرة آلاف طبيب كوبي وأكاديمي في فنزويلا. كما ينتشر حوالي 50 ألف طبيب كوبي في 67 دولة يدرون على بلدهم عائدات سنوية تتجاوز 11 مليار دولار.
المصادر
- Keck, C William, and Gail A Reed. “The curious case of Cuba.” American journal of public health vol. 102,8 (2012): e13-22.
- CIA World Factbook and the World Bank Databank 2014.