تعاني منطقة الشرق الأوسط من تداعيات التدخل التركي في عدد من دول وأقاليم المنطقة، والتي طالت مناطق مجاورة، مثل: منطقة شرق المتوسط، والقوقاز، وبحر قزوين، والقرن الإفريقي، حيث طموحات الرئيس “رجب طيب أردوغان” في بسط نفوذ دولته، وامتلاك أكبر عدد ممكن من أوراق اللعبة إقليميًّا، وداخل كل دولة تشهد صراعًا أو فراغًا جراء غياب مؤسسات الحكم والفوضى المصاحبة لهذا الفراغ، وتأسيسًا على المشروع العثماني الجديد الذي يحتم على “أردوغان” وحزبه الحاكم الرعاية الشاملة لكل روافد تيار الإسلام السياسي وكل الجماعات “الجهادية” الإرهابية وجماعات المقاومة “السنية” كنواة لمشروعه الداعي لعودة الخلافة إلى الباب العالي العثماني، وهو ما يطرح سؤالًا حول جدوى هذا التمدد وتأثيره، ومنحنى الصعود والهبوط لهذا التحرك الذي يبدو محسوبًا ولكنه لا يعمل ولا يتفاعل بمعزل عن مصالح وإرادات دول إقليمية ودولية في المنطقة، وواقع اقتصادي مغاير يفرض محددات غير مسبوقة على دوائر الحركة.
حلم التمدد
رغم هذا الحجم غير المسبوق من التمدد؛ إلا أن الواقع على الأرض أصبح صعب المنال منذ اللحظة التي قرر فيها الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” قبل عقدين اتخاذ خطوات واسعة لتغيير مكانة أنقرة في العالم، ودمج مشروعه مع مشروع قوى الإسلام السياسي في الإقليم. منذ أكثر من 10 سنوات، حدد رئيس الوزراء -آنذاك- “أردوغان”، محورًا حاسمًا في السياسة الخارجية، لم تعد تركيا تقف على أبواب الاتحاد الأوروبي متوسلة للسماح لها بالدخول؛ بدلًا من ذلك، اعتمدت تركيا رؤية استراتيجية تستطيع من خلالها مرة أخرى إظهار قوتها الإقليمية، وتوسيع نفوذها على رعاياها في الإمبراطورية السابقة في الشرق، وتصبح قوة عالمية لا يستهان بها. فقد أدرك “أردوغان” ومنظرو حزبه السياسي أن باب الاتحاد الأوروبي قد بات موصودًا أمام كل ما قدمته تركيا العلمانية، ولا بديل أمام نخبة حزب العدالة والتنمية سوى الظهير الإقليمي “العربي/الإسلامي” الذي يحقق حلم التمدد واستعادة زخم تركيا، ويعيد لها مكانتها المفقودة، وبعضًا من هيبتها التي فقدت على أعتاب الاتحاد الأوروبي.
وتوافقت فكرة التمدد إقليميًّا مع مخيلة قاعدته الشعبية، ودعمت تلك المحاولة تعظيم اتساع سلطاته حين حقق حلفاء “أردوغان” في مصر وسوريا وتونس وليبيا مكاسب سياسية ضخمة في السنوات الأولى من الربيع العربي، الذي بدأ لأول مرة في ديسمبر 2010، وبدا أن حلم “أردوغان” العثماني الجديد يتحقق. لكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن؛ فبعد مرور عقد من الزمان، أصبح حلفاء “أردوغان” في المنطقة -إلى حد كبير مجموعات تابعة للإخوان المسلمين- قوة متضائلة بشكل كبير.
فخارج معاقل الدعم الإقليمية في قطر والصومال والحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها في شمال غربي ليبيا -التي مزقتها الحرب- لم يحقق “أردوغان” مكاسب حقيقية على الأرض، واكتفى بإشاعة الفوضى، وبث الشائعات، وإدارة ترسانات إعلامية تروج لمشروعه بين البسطاء والمتأسلمين. في المقابل، حصد عداء قادة دول الإقليم، خاصة مصر والسعودية والإمارات والبحرين، وفضحوا ممارساته ورعايته لجماعات العنف المسلح الإرهابية، كما أثار حفيظة قادة الدول الأوروبية مثل فرنسا واليونان وقبرص وألمانيا وإيطاليا في الوقت الذي يحتاج فيه إلى فتح أسواق لسلعه التجارية، وترويج للخدمات التي تقدمها تركيا، واستثمارات مضاعفة للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تفاقمت بسبب آثار فيروس كورونا، وزاد ما يشبه الحصار على كل مساحات الحركة التركية، فراح يعبث في الجوار حيث إقليم ناجورنو قاره باغ لتحقيق بعض المكاسب السياسية، وضمان استمرار الدعم من التابعين له في دول الإقليم.
يقول “سونر كاجابتاي”، مدير برنامج الأبحاث التركية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، إن رهان “أردوغان” كان على أن مشروع العثمانية الجديد كان مخططًا له أن ينهض من خلال السيطرة على الدول ذات الأغلبية المسلمة في الشرق الأوسط ومن خلالها. ولكن واقع الحال يؤكد أنه يسيطر على قطر والصومال ونصف حكومة ليبيا، ولا أمل له في أكثر من هذا، أو خارج قواعد الإخوان المسلمين ودعاة عودة الخلافة. هذا التصور الذي وضعه المخططون للعثمانية الجديدة يتفق تمامًا مع رؤية المؤسسات ومراكز الأبحاث الأمريكية التي ترى وتؤكد ضرورة أن يتولى الحكم في الدول ذات الأغلبية المسلمة حكومات وأحزاب وقوى من تيار الإسلام السياسي؛ وهو التصور الذي اعتبره البعض نقطة التلاقي الرئيسية بين أنقرة وواشنطن ولندن، وهو الذي يحكم إيقاع التحرك وجوهر الأزمة ونقطة انطلاق المبادرات وصياغة السياسات وفرض الضغوط في الإقليم.
اتفاق ضمنيّ على المواجهة
لا يعمل التصور السابق طرحه في فراغ تام، حيث يبدو أنه -في المقابل- قد أصبح هناك شبه اتفاق غير مكتوب بين دول الإقليم وبعض الدول الأوروبية الرئيسية للوقوف صفًّا واحدًا ضد أطماع وجموح “أردوغان”. فقد كثفت مصر واليونان وقبرص وإسرائيل التعاون الاستراتيجي في العديد من المبادرات، لا سيما استخراج احتياطيات الغاز في شرق البحر المتوسط والإعلان عن منتدى غاز شرق المتوسط، وتم تهميش أنقرة تمامًا في هذه العملية. من جانبها، قدمت فرنسا، التي عارضت حملة تركيا ضد المقاتلين الأكراد في سوريا، ودعمها للحكومة التي تتخذ من طرابلس مقرًّا لها في ليبيا، الدعم لمبادرة شرق البحر المتوسط للطاقة، كما يبدو أن الإمارات العربية المتحدة -التي دعمت الجهود الرامية إلى تقويض الجماعات التي تدعمها تركيا- قد قدمت دعمًا ضمنيًّا لهذا المسعى.
ورغم الحذر والغموض أحيانًا في قراءة الموقف الأمريكي الحليف، إلا أن إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، التي حافظت -إلى حد كبير- على علاقة جيدة مع “أردوغان”، دعمت بشكل لافت مؤخرًا خصوم تركيا في تلك الحزمة من الصراعات. ففي الآونة الأخيرة، قال وزير الخارجية “مايك بومبيو” إنه “قلق للغاية” من تصرفات تركيا في شرق البحر المتوسط. وفي الشهر الماضي، أعلنت الولايات المتحدة أيضًا أنها ستتنازل عن حظر بيع الأسلحة المفروض على قبرص منذ عقود.
يفسر “سنان أولجن”، المحلل التركي والباحث الزائر في مؤسسة كارنيجي أوروبا، ما يحدث من تراجع نسبي للدعم الأمريكي والأوروبي لتركيا حين يقول: “كل هذا لم يحدث بين عشية وضحاها، لقد حدث نتيجة لسياسة خارجية (أنقرة) أكثر عنفًا، وأكثر صراعًا وأكثر قتالية ودموية”. ويضيف: “أعتقد (أيضًا) أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على وجه الخصوص أساءوا إدارة العلاقة مع تركيا، ومع ذلك هذه هي النتيجة؛ لذلك كل هذا يتحد في هذه اللحظة من الزمن، لكن الأمر استغرق 10 سنوات للوصول إلى هذه النقطة”.
فتِّش عن الركود الاقتصادي
وقد أجمعت التقارير الدولية وخبراء الاقتصاد وبعض الخبراء في المجال العسكري والأمني أن ورقة الاقتصاد ستكون السبب الرئيسي في تراجع حلم “أردوغان” وانكماشه في غياب القدرة على تمويل هذا الحلم، والإنفاق على الحجم الكبير المطلوب من التسليح، وتقديم الرعاية لأتباع هذا الحلم أو من يطلق عليهم “جنود الخلافة”؛ ولن تكون أموال قطر كافية بمفردها لسد الفجوة بين النفقات والإنفاق في ظل تدهور كل مؤشرات الاقتصاد التركي، وفقدان الثقة وغياب الاستثمار الخارجي والدعم الدولي.
يرى الخبراء أن الظروف التي مكّنت “أردوغان” من إحداث ثورة في سياسة تركيا الخارجية، وحققت لها مكانة وصورة ذهنية غير مسبوقة، قد تبخرت. ففي أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حقق “أردوغان” نتائج اقتصادية ممتازة، مما عزز محاولته لتغيير السياسة الداخلية والخارجية، لكن الاقتصاد التركي اليوم بعيد كل البعد عن ذلك، مما أدى إلى خسائر كبيرة لحزب “أردوغان” في الانتخابات البلدية، وقد يؤدي في النهاية إلى التراجع عن الساحة الدولية.
لقد شهد العقد الأول من حكم “أردوغان” أو نحو ذلك انتشال ملايين الأتراك من براثن الفقر، وازدهارًا اقتصاديًا، وتنويعًا إضافيًا في السوق التركية، وانخفاضًا حادًا في معدلات وفيات الأطفال وكبار السن. لكن في السنوات الأخيرة، شهدت الليرة انخفاضًا كبيرًا، وزادت قيمة الدين الحكومي، وارتفع التضخم ومعدل البطالة. وكما هو الحال مع العديد من الاقتصادات الأخرى حول العالم، من المتوقع أن ينكمش الاقتصاد التركي في عام 2020، وقد يتعرض لكارثة كبرى ما لم يتعافَ العام المقبل.
ويرى الخبراء في مؤسسات التصنيف الدولية أن الاقتصاد هو نقطة ضعف “أردوغان” الحالية بعد أن كان نقطة قوة، ليس فقط على المستوى المحلي ولكن أيضًا في السياسة الخارجية بعد أن تم عسكرتها، واستخدام الأداة العسكرية والمرتزقة والميليشيات لتمرير سياساته، ولن يكون بمقدور “أردوغان” استعراض عضلاته لفترات طويلة كما كان يخطط ويأمل، فلن يكون لدى تركيا الميزانية لتخصيصها لكل هذه المعارك والجبهات لما تستلزمه من دعم لوجيستي كبير أصبح غير متوافر، وهو ما يهدد بانقلاب السحر على الساحر في بعض المناطق. إضافة إلى أن خصوم “أردوغان” إقليميًّا يعملون على تجفيف منابع تمويل تلك العمليات العسكرية بهدف تقليم أظافره وتحجيم جموحه.
إضافة إلى ذلك، يرتبط مستقبل تركيا الاقتصادي ارتباطًا وثيقًا بعلاقاتها الدولية، حيث يمكن أن يؤدي الاقتصاد المنهك إلى طلب مساعدة صندوق النقد الدولي وغيره من مؤسسات التمويل والدعم الفني، وهو ما يرى فيه البعض أداة إضافية لتقويم السلوك التركي العدائي، وإخضاعه لقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني، واحترام قواعد العلاقات الدولية، وسيادة الدول، والكف عن إثارة القلاقل والفوضى في الإقليم.