على مدى العقد الأخير حصدت روسيا العديد من الجوائز الاستراتيجية في مجالها الحيوي على رأسها شبه جزيرة القرم، ربما لا تقل عنها جائزة سوريا، بمنظور حسابات العوائد الاستراتيجية، فوفقا لوزير الدفاع الروسي سيرجى شيجو فإن العمليات العسكرية الروسية في سوريا «عززت هيبة روسيا، وزادت من نفوذها الدولي، وأحبطت محاولات المنافسين الجيوسياسيين لعزلها سياسيا ودبلوماسيا». وهو ما يعكس فائضا في موازين القوى الدولية لصالح روسيا وفقا لمؤشرات عديدة، منها «عودة الدب إلى المياه الدافئة» في شرق المتوسط عبر قاعدتها البحرية في مرفأ «طرطوس»، واستعراض مقاتلات السوخوي والميج انطلاقا من قاعدة «حميميم» إلى أرجاء الشرق الأوسط، وتجارب على مئات الأنواع من الأسلحة الروسية الحديثة في ميدان عمليات غير تقليدي، ونجاحها في استقطاب «تركيا» من حلف «الناتو».. إلخ. فضلا عن انعكاسات حملتها العسكرية في سوريا على أمنها القومي فقد قطعت الطريق على أي محاولة تسلل للإرهابين باتجاه أراضيها. وقضت على 133 ألف إرهابي بينهم نحو 4,5 ألف من الجمهوريات السوفيتية السابقة.
لقد مرت خمس سنوات على أول ضربة جوية روسية في سوريا في 30 ديسمبر 2015، وعلى الرغم من مساندة موسكو سياسيا ودبلوماسيا للرئيس السوري بشار الأسد، إلا أن تدخلها العسكري مثل العامل الرئيسي في الحيلولة دون سقوط نظامه في مواجهة تنظيمات وفصائل مسلحة أديرت من غرف علميات في «الموك» بالأردن، و«الموم» على الحدود التركية، وحظيت بدعم مالي سخي غير مسبوق في تاريخ الحروب من قوى إقليمية ودولية قدرها وزير الخارجية القطري حمد بن جاسم بنحو 200 مليار دولار عام 2015.
في هذا السياق، فإن تقييم حصاد الانخراط الروسي في الأزمة السورية على صعيد المكاسب يمكن تقييمه في إطار عدة اعتبارات منها على سبيل المثال:
إن سوريا ــ كانت ولا تزال ــ نقطة ارتكاز تاريخية للنفوذ الروسي في المنطقة، وهنالك تحالف تاريخي وثيق بين البلدين. وتعتبر سوريا المنفذ الوحيد لروسيا على البحر المتوسط، وبالتالي فإن موسكو استثمرت حضورها في سوريا لإعادة تثبيت هذا النفوذ بعد فترة من الغياب المؤقت. كما عملت على ملء الفراغ الذى ترتب على عملية التراجع الأمريكي في المنطقة وعدم الرغبة في الانخراط بصورة كبيرة على الساحة السورية في محاولة لإعادة هيكلة التوازن الدولي والإقليمي وبما يسمح لروسيا بدور أكثر تأثيرا على هذا المستوى، ومن الواضح أن الولايات المتحدة والدول الغربية لم تمانع في الانخراط العسكري الروسي على أمل استنزافها في المستنقع السوري إلا أن موسكو تنبهت لذلك، وتمكنت من إدارة عملياتها في سوريا بذكاء واقتدار، لاسيما بالاعتماد على القوة الجوية، مع توظيف أدوار حلفائها لاسيما إيران فى المعارك الميدانية ما جنبها الخسائر البشرية في الحرب.
وعلى التوازي نجحت موسكو في إدارة معركة دبلوماسية وسياسية تمكنت من خلالها تثبيت أقدام النظام السوري، ما مثل حائط صد أمام محاولات إدانة النظام من خلال مجلس الأمن ومنظمات دولية متعددة وذلك باستخدام حق الفيتو. كما نجحت في بلورة تفاهمات مع الولايات المتحدة، تعتبر أحد مرجعيات الحل في سوريا (جنيف 1) اللجنة الدستورية.. كما حرصت روسيا على دعم مؤسسات الدولة السورية المركزية، حيث ركزت اهتمامها على عملية إعادة بناء وتأهيل المؤسسة العسكرية (تسليح/ تدريب) وأجهزة الأمن لفرض مزيد من السيطرة، الأمر الذى أدى في النهاية إلى زيادة مساحة سيطرة النظام من 21% من مساحة سوريا عام 2015 إلى نحو 70% حاليا، ومحاصرة التنظيمات الإرهابية، وعلى رأسها تنظيم داعش، والتنظيمات الأخرى المنحدرة من تنظيم القاعدة والتي تتمركز في إدلب وبعض المواقع في الشمال الخاضعة للنفوذ التركي حاليا.
كما أنه من الضروري الإشارة إلى أن روسيا حققت الكثير من المكاسب من تدخلها في سوريا وهو ما يمكن إجماله باختصار في استعادة تأثيرها في النظام الدولي من خلال امتلاكها للورقة السورية والتي فرضت على الأطراف الدولية المعنية بالأزمة التحاور معها، وفرضت على القوى الإقليمية المنخرطة فيها تقدير الدور الروسي ومساومته. فضلا عن توسيع وتكثيف النفوذ العسكري في سوريا، فإلى جانب قاعدة حميميم الجوية يوجد قاعدة طرطوس البحرية، وكذلك 24 قاعدة وتركزا عسكريا، و42 نقطة مراقبة. وقد قامت روسيا باختيار 210 نوعا من الأسلحة الجديدة في الحرب السورية.
في المقابل؛ ومع تقدير مجمل الجهود الروسية لدعم الدولة السورية إلا أنه مع توقف العمليات العسكرية ـ تقريبا ـ منذ أكثر من ستة أشهر عدا ما يجرى أحيانا في ريف إدلب بدأت روسيا تمارس سلطات أوسع تشهد نوعا من التباين مع توجهات الرئيس السوري، وقد تعددت زيارات كبار المسئولين الروس لسوريا لمناقشة ذلك الأمر، وقبل الدخول في تفاصيل هذه التباينات من المهم الإشارة إلى عدد من الملاحظات التي قد تفسر بعض المواقف، ومن أهمها أن روسيا بدأت تدير الأزمة والعملية السياسية في سوريا بصورة تتجاوز الحكومة السورية كمباحثاتها واتفاقاتها مع تركيا، وحوارها مع الأحزاب الكردية والتقريب بين الأكراد. ولعل ما يكشف عن ذلك بوضوح زيارة الرئيس الروسي لقاعدة حميم والمعاملة غير المناسبة للرئيس السوري، وكذلك زيارة بوتين لدمشق وتجوله في بعض أحيائها دون عقد لقاء في القصر الجمهوري.
ويعد حديث الرئيس السوري لوكالة نوفوستي الروسية للأنباء أخيرا كاشفا عن مدى التباين في المقاربة الروسية والسورية من مسارات وتطورات الأزمة السورية والذي يظهر خلافات بعضها جوهريا ومن أهم مظاهر ذلك ما يلى:
إن روسيا تعتبر أن الحرب السورية قد انتهت وأن ما يجرى في إدلب عملية تضييق على تنظيم فتح الشام، وليس تصفيته، فيما تعتبر دمشق أن الحرب لن تنتهى إلا بعد تحرير إدلب وتصفية تلك التنظيمات. كذلك ترى سوريا ضرورة إعادة شرق الفرات إلى سيطرة الدولة المركزية، وترى روسيا ضرورة صياغة تفاهمات تسمح بتحقيق الطموحات الكردية ضمن الدولة المركزية السورية. كما ترى موسكو أن هذا الملف شائك ويحتاج إلى جهد كبير في ظل الوجود العسكري الأمريكي والغربي المساند للأكراد والرفض التركي لأية حلول تكفل حكما ثانيا للأكراد.
أيضا تراهن موسكو على التفاهمات مع تركيا وتستثمر فيها كورقة مساومة في ملفات إقليمية أخرى، فيما ترى دمشق أنها غير فعالة ويجب تمكين الجيش السوري من فرض سيطرته وخروج القوات التركية من الأراضي السورية. وكذلك الموقف من الوجود الإيراني والمليشيات التابعة لها، حيث ترى روسيا أن ذلك الوجود يعقد الأزمة، بينما ترى دمشق أنه ضروري وأن الموقف الإسرائيلي والأمريكي لا مبرر له.
وتعتبر قضية الإصلاح الدستوري آخر قضايا الخلاف بين الطرفين، وترى موسكو أنها قادت الحوار الوطني وصولا إلى الاتفاق على التزام طرفي الصراع بتشكيل لجنة دستورية وإصلاح دستوري وذلك بالتنسيق مع الأمم المتحدة وترى موسكو ضرورة الإسراع بتحقيق إنجاز على هذا المستوى قبل الانتخابات الرئاسية القادمة. في المقابل ترى دمشق أنه لا مبرر للاستعجال ولا علاقة لموضوع الدستور بالانتخابات الرئاسية.
في ضوء مساحة هذه التباينات، يمكن القول إنه رغم تماسك التحالف الروسي السوري، وتبلور نفوذ روسي شامل إلا أن تلك التباينات الأخيرة بين البلدين تكشف عن رؤى مختلفة بخصوص مستقبل حل الأزمة السورية، ومن الواضح أن دمشق تراهن على التوازن بين روسيا وإيران وهي مراهنة محفوفة بالمخاطر خاصة في ظل الحصار الذي تواجهه إيران، وعدم تقدير للاستراتيجية الروسية التي تنطلق من سوريا وتتجاوزها للمنطقة بأكملها واستثمار ذلك في ملفات شائكة بينها وبين قوى دولية متعددة. وعلى الجانب الآخر في ظل الأوضاع السورية الراهنة من المتصور أن دمشق ستتجاوب مع التوجه الروسي لتحقيق تقدم فيما يتعلق بالإصلاح الدستوري لاستيعاب الموقف الدولي العدائي وإن كان ملف الوجود الإيراني يحتاج إلى فترة أطول لحسمه وهو أمر لا تستعجله موسكو بل يمكنها استثماره في التعامل مع إسرائيل والولايات المتحدة.