في إطار تناولنا لمشكلات الأجور في المجتمع خلال الفترة الحالية وبعد الحديث عن الحد الأقصى، نعرج الأن لتناول الحد الأدنى. وهنا نلحظ على الفور أن الحكومة قامت بالإعلان عن هذا الحد بموجب قرار رئيس مجلس الوزراء، الصادر في يوليو 2019، وحدده بـ 2000 جنيه للدرجة السادسة، للموظفين والعاملين لدى أجهزة الدولة والهيئات الاقتصادية، وأصبح السؤال وماذا عن القطاع الخاص؟ هنا يرى البعض ان التوقيت غير مناسب تماما لطرح الموضوع في ظل الأوضاع السائدة حاليا في سوق العمل، خاصة مع ارتفاع معدلات البطالة الى نحو 10%، فضلا عن ارتفاع نسبة المتعطلين الذين سبق لهم العمل ومحدودية الاستثمارات الخاصة نتيجة لفيروس كورونا وتباطؤ النمو الاقتصادي.
وقبل مناقشة هذه المسألة تجدر الإشارة الى ان معظم المشتغلين بأجر يعملون لدى القطاع الخاص المنظم وغير المنظم. وبالتالي فان التركيز على إصلاح الخلل في الأجور يجب ان يتم على مستوى المجتمع ككل وليس فقط الحكومي. خاصة ان السياسة الحالية قد ترتب عليها سير حركة التشغيل، على عكس الاتجاه المستهدف منها، فأصبح العمل الحكومي هو الأكثر جاذبية للعمالة، خاصة ان متوسط الاجور لديه اعلى من القطاع الخاص وارتفع نصيبه من إجمالي المشتغلين من نحو 18% الى 21%، بينما انخفض نصيب القطاع الخاص من 36% الى 32% خلال نفس الفترة، بينما كانت السياسة الاقتصادية تهدف الى ان يستوعب القطاع الخاص المنظم المزيد من قوة العمل وليس العكس.
إن معظم البلدان تقريبا تضع حدا أدنى للأجور، مع اختلاف في التفاصيل، فالبعض مثل فرنسا يطبق حدا أدنى موحدا للمجتمع ككل بينما في بلدان اخرى مثل نيوزيلاندا وجنوب افريقيا تفرق بين القطاعات وأنواع العمالة. وبغض النظر عن الجدل النظري حول هذه القضية، والذي لم يحسم حتى الآن، الا ان هناك قدرا متزايدا من الاجماع على ان وجود حد أدنى للأجور معتدل، يؤثر بالإيجاب على المجتمع للعديد من الاعتبارات الاقتصادية المعيشة، منها ان الأجور ليست مجرد عنصر من عناصر التكاليف فحسب، بل هي أيضا مصدر الدخل الأساسي لقطاع عريض من المجتمع، معظمهم يمثلون تيارا متدفقا للإنفاق الاستهلاكي، في ضوء الميل المرتفع للاستهلاك لدى هذه الشريحة، وبالتالي فهي تسهم في إنعاش الاقتصاد القومي. هذا فضلا عن ان الأجور هي المصدر الرئيسي لدخل الفقراء وفقا لما أكده بحث الدخل والإنفاق عام 2017/2018 إذ انها تشكل 44.4 % من إجمالي مصادر الدخل للفقراء. كما ان نحو 40% من الفقراء يعملون لدى القطاع الخاص المنظم والاستثماري. فضلا عما يتميز به المجتمع من ارتفاع معدل الإعالة.
المناقشات الدائرة حول الحد الأدنى للأجور تركز على تأثيرها على النمو، إذ يرى البعض أنه سيؤدى إلى الإبطاء من النمو الاقتصادي والى تشويه إشارات السوق. وخير معبر لوجهة النظر هذا تقرير الحرية الاقتصادية في العالم الذي يرى أن وضع حد أدنى للأجور هو تعد على الحرية الاقتصادية لأصحاب الأعمال، الأمر الذي يقلل من الحوافز الخاصة بسوق العمل ويحد من التوسع في استخدام المزيد من العمالة. وبالتالي يرى هؤلاء إنه ينبغي على الدولة إن تسمح لقوى السوق بتحديد الأجور حتى تتفادى المزيد من البطالة.
وللرد على هذه الانتقادات نرى أن أسواق العمل تختلف عن الأسواق الأخرى للسلع نظرا لما تتسم به من خصوصية تكمن في كونها أسواقا غير تنافسية بصفة عامة، بل قد تتسم بعدم التساوي في القوى بين أصحاب الأعمال والعمال، ناهيك عن عدم مرونة أسواق العمل وصعوبة القدرة على الحراك العمالي وعدم كفاية المعلومات، وتولد هذه الظروف نتائج غير عادلة ولا تتسم بالكفاءة، خاصة عندما يكون العمال في وضع ضعيف في المساومة. مما يجعل أصحاب الأعمال قادرين على تخفيض الأجور أو إجبار العمال على العمل في ظروف تتسم بالخطورة أو يمارسون التمييز ضد جماعات بعينها.
ويتوقف تأثير الحد الأدنى للأجور، من نتائج ايجابية أو سلبية، في قدرته على التأثير على فرص العمل والإنتاجية وهو ما يتوقف بدوره على هيكل السوق ومستوى الحد الأدنى، وقدرة الحكومة على تنفيذه. وبالتالي فان سياسات الحد الأدنى يجب أن تتسم بالكفاءة والمرونة وتعزيز العمل اللائق.
ولكن يجب الأخذ بعين الاعتبار عدة محاذير حتى تؤتى هذه السياسة ثمارها. منها التوازن بين حماية العمال من جهة وإيجاد الحافز لدى الشركات على الاستثمار والتشغيل من جهة أخرى. وبعبارة أخرى فإذا كان الحد الأدنى أعلى من اللازم فانه يؤدى بالضرورة إما إلى خفض العمالة أو تقليل فرص العمالة، الأقل مهارة. وبالتالي فمن المهم ألا يكون الحد الأدنى مغالى فيه. وهو ما يتطلب الانسجام مع الأوضاع الاقتصادية في الأسواق ويحقق مستوى لائقا للمعيشة.
وتدلنا التجارب الدولية على ان الحكومة هي التي تضع الحد الادنى بالتشاور مع النقابات العمالية ومؤسسات الاعمال، وفى مصر فقد أوكل قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 هذه المهمة للمجلس القومي للأجور، خاصة ان تشكيله يمثل الاطراف الثلاثة المعنية بالموضوع. ومن هنا جاءت التسمية «مجلس قومي» وليس «مجلس أعلى» كما جاء بمشروع قانون العمل المعروض على البرلمان، إذ أن الثاني هو مجلس حكومي بالأساس بينما القومي مفهوم أوسع وأعم.
عموما فان الوضع الحالي يتطلب قيام المجلس بوضع الاستراتيجية المناسبة للتعامل مع جميع الأمور المرتبطة بالأجور. وهو ما يتطلب بدوره تعديل المادة (34) لتعطى للمجلس الصلاحية الكاملة في إقرار العلاوة السنوية وفقا لما يراه من متغيرات اقتصادية واجتماعية معينة وما يتوقعه من سياسات وإجراءات. وذلك بدلا من الوضع الحالي الذي حددها بـ 7 % من الأجر الأساسي كحد أدنى، لان ذلك أفقد المجلس أهم آليات التعامل في هذه المسألة كما إن تحديد العلاوة بالأجر الأساسي فقط فيه ظلم شديد للعاملين، وبالتالي يجب أن يعطى المجلس الصلاحية الكاملة في إقرار هذه المسألة.