شرفني أستاذي الدكتور سعد الدين إبراهيم بالرد في المصري اليوم على مقال نشرته على هذه الصفحة قبل ثلاثة أسابيع، فله مني كل الشكر والتقدير، ولتكن لفتته الكريمة فرصة لتطوير ومراجعة الأفكار وإثراء الحوار. اخترت لمقالي السابق عنوان “نهاية العالم العربي”، وفكرته الرئيسية والأساسية هي انتهاء العروبة السياسية، واختفاء الفضاء السياسي العربي، في حين بقيت الفضاءات الفنية والثقافية العربية قائمة. فالرأي العام السياسي العربي لم يعد موجودا، فيما ظل الرأي العام الفني والثقافي العربي قائما؛ وبينما ينشغل المثقف والفنان العربي برأي الجمهور من المحيط إلى الخليج، فإن السياسي العربي لم يعد يأبه كثيرا لرأي الناس خارج حدود بلده.
بدأت العروبة كحركة إحياء ونهضة ثقافية في القرن التاسع عشر بين المسيحيين في المشرق العربي. كان العالم العثماني قد دخل في أزمة متعددة المظاهر، وكان النابهون من أهل المنطقة يبحثون عن مخرج من هذه الأزمة. كان الاقتتال الطائفي هو أسوأ مظاهر وأعراض أزمة العالم العثماني في المشرق العربي، وكانت فتنة عام 1860، التي بدأت في جبل لبنان، لتنتشر من هناك إلى دمشق وأغلب المدن والنواحي في سوريا ولبنان، حتى سقط فيها الألوف من الأهالي، هي المظهر الأبرز لأزمة النظام العثماني.
كان الماروني بطرس البستاني من أهم مثقفي عصره، وأكثرهم انفتاحا على الحداثة الغربية التي بدأت رياحها تهب على المنطقة. رأى البستاني أن الاقتتال بين أهالي المنطقة سيتواصل ويتكرر طالما ظل كل فريق حبيس حدود عالمه الديني الضيق، ومحاصر في حدود هويته الطائفية الخانقة، وأنه لا غنى عن تأسيس ترتيب جديد وانتماء مشترك عابر للطوائف، يؤسس للتعايش بين أصحاب الملل المختلفة. أنشأ البستاني، في عام 1863، مدرسة أسماها المدرسة الوطنية، لتكون أول مدرسة مفتوحة لأبناء الطوائف المختلفة في المشرق. كتب البستاني المقالات، وأسس صحفا عديدة أشهرها “نفير سورية”، لكن أهم ما ألفه هو “دائرة المعارف”، في أحد عشر جزءا، وهي أول دائرة معارف باللغة العربية؛ وقاموس “محيط المحيط”، الذي كان أول معجم عربي مكتوب بطريقة عصرية، فأسهم كل ذلك في خلق حركة للإصلاح والتجديد الثقافي والاجتماعي، تتمحور حول الثقافة العربية.
رفع بطرس البستاني قاموسه المحيط إلى السلطان العثماني، ونال عنه الوسام المجيدي، في إشارة إلى أن مشروع البستاني للإحياء الثقافي العربي لم يكن معاديا للسلطة العثمانية، وأن كل ما سعى إليه هو إعادة ترتيب مجتمع المشرق بطريقة أقل انغلاقا وصراعا وطائفية، على قاعدة المشترك الثقافي العربي بين أهل المنطقة، بغض النظر عن دياناتهم ومذاهبهم الكثيرة.
الثقافة وليس الدين؛ العروبة وليس الطائفة، هي أسس التنظيم الثقافي الاجتماعي الذي سعى إليه البستاني ومناصروه، ضمن الإطار السياسي للعالم العثماني. لم ينشغل الرواد الأوائل المؤسسين للعروبة الثقافية كثيرا بالسياسة؛ فلم يكتبوا شيئا في تعريف المجتمع السياسي وحدوده، أو في قضية السلطة وشرعيتها؛ فالعروبة في طبعتها الأصلية هي إطار ثقافي لحل مشكلة الانقسام الطائفي في سوريا ولبنان، فلا هي هوية مستحدثة لكل الناطقين بالعربية، ولا مشروع سياسي أو عقيدة سياسية، تنافس على السلطة.
لقد بدأت أزمة العروبة عندما تجاوزت نطاقها المشرقي، وعندما خرجت من عالم الثقافة الناعم إلى معترك السياسة الخشن؛ وكانت أزمتها تزداد عمقا كلما أوغلت أكثر في هذا الاتجاه. لقد دخلت العروبة في مسارات خطرة مع اجتيازها لثلاث منعطفات. في منعطف أول تم تسييس العروبة، وتحويلها من حركة ثقافية إلى حركة سياسية، ومن إطار ثقافي إلى عقيدة سياسية، يسعى أصحابها لاستلام السلطة، ويستمدون أجنداتهم السياسية من العروبة المسيسة. في هذا المنعطف تحولت العروبة الثقافية إلى القومية العربية؛ وتحول الهدف من نزع أسباب الصراع بين أبناء الطوائف المختلفة من العرب المشرقيين، وتوفير إطار للتآخي بينهم؛ إلى سبغ الشرعية على سلطة العرب السياسية. هذا المنعطف هو الأقل خطورة بين المنعطفات الثلاثة، فقد حدث تلقائيا عندما شرع عرب المشرق في التمرد على السلطة العثمانية، فوجدوا في القومية العربية مصدرا يضفي الشرعية على ثورتهم، خاصة وأن القومية وثوراتها كانت هي صرعة العصر، بينما لم يكن لدى أهل المشرق هويات قومية موحدة تغنيهم عن القومية العربية.
في منعطف ثان جرى توسيع نطاق الهوية العربية خارج إطارها المشرقي، لتزعم أنها هوية شاملة جامعة لكل الناطقين بالعربية، متجاهلة التاريخ الخاص والهوية المميزة لشعوب العرب في مصر وشمال أفريقيا والخليج. لقد مثلت العروبة حلا مناسبا لمشكلة التفتت الطائفي في المشرق، ووفرت إطارا جامعا لأهله المنتمين لطوائف عدة، فهل فعلت الشيء نفسه في مصر، وهل أسهمت في تعزيز اللحمة بين المصريين، أم أنها خلقت شرخا في جدار اللحمة الوطنية الذي كانت الوطنية المصرية قد أسسته؟ ماذا عن المغرب الأقصى صاحب التقاليد العريقة في الدولة الوطنية المستقلة، التي جعلت الإسلام دينا للدولة الوطنية منذ قرون؛ هل ساهمت العروبة في تعزيز اللحمة بين العرب والأمازيغ من أهل المغرب، أم أنها كادت تعرض للخطر نسيجا اجتماعيا وثقافيا وفريدا تكون عبر قرون.
في منعطف ثالث جرى تجذير العروبة، فتحولت إلى عقيدة سياسية راديكالية، تبشر بالثورة، وتطيح بالطبقات والنظم الاجتماعية، والأنظمة الحاكمة؛ فقسمت العرب إلى ثوريين ورجعيين، وحدويين وقطريين؛ فعمقت الانقسام بين العرب، بعد أن كانت تبشر بتوحيدهم؛ وأصبحت العروبة السياسية سببا في صراعات العرب، في تباين صريح مع وعود الميلاد والنشأة. والخلاصة هي أن خروج العروبة من نطاقها المشرقي، وتوسيع نطاقها وطموحاتها إلى ما وراء الوظيفة الأصلية التي صممت من أجل تحقيقها، حملها بمهام ومسئوليات لم تكن مؤهلة لتحقيقها، فدفعها في سلسلة من الإخفاقات معروفة للكافة.
بدأت العروبة حركة ثقافية، فلنرحب بعودتها إلى قواعدها، ولنرضى بها ثقافية، ونجاهد للحفاظ عليها كذلك، لأنه لا شيء خالد في عالم الهويات والانتماءات، وما نظنه اليوم هوية راسخة قد تطيح به ثقافة الاستهلاك وعالم التواصل الرقمي والعولمة الثقافية في سنوات قليلة.