اتجهت أغلب التحليلات، وبخاصة الأوروبية، إلى اعتبار إدارة “ترامب” السبب الرئيسي في تدهور العلاقات عبر الأطلسي، بالاستناد إلى القضايا الخلافية المتزايدة بين الطرفين، معتبرة أن هذا الوضع سيدفع بالعلاقات بين الطرفين إلى نقطة “اللا عودة”. إلا أن تلك الفرضية ليست صحيحة على إجمالها انطلاقًا من عدد من العوامل التي تؤكد محورية العلاقات بين الطرفين. وعليه، يسعى التحليل الحالي لتوضيح فحوى الشراكة الاستراتيجية عبر الأطلسي، ومحاولة استشراف مستقبلها، لا سيما وأن الولايات المتحدة على أعتاب انتخابات رئاسية جديدة.
شراكة تاريخية.. بين الارتباط والاختلاف
كان تراجع الولايات المتحدة عن سياساتها الانعزالية -التي كانت السمة الغالبة لسياستها الخارجية- النتيجة الأبرز للحربين العالميتين الأولى والثانية، وسعت في أعقاب ذلك لتوطيد علاقاتها بشركاء قادرين على ردع التمدد السوفيتي. وعليه، كان خيارها الطبيعي هو التحالف مع أوروبا الغربية. هذا التحالف الذي أصبح حجر الزاوية للنظام الدولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إلا أن أوروبا التي خرجت من الحربين العالميتين مستنزفة، والتي أصبح جانبها الشرقي فريسة للتمدد السوفيتي، لم تكن بالحليف القادر على مساندة واشنطن، لذا تبنت الولايات المتحدة مشروع بناء تكاملي، تدعم من خلاله حلفاءها وفق قيم مشتركة، فأتت المبادرة المحورية التي طورها وزير الخارجية الأمريكي “جورج مارشال” في نهاية الأربعينيات لإعادة إعمار أوروبا الغربية. هذا المشروع الاقتصادي، الذي كان محوره الأساسي توثيق الروابط على جانبي المحيط الأطلسي، وتعزيز نفوذ واشنطن على أوروبا. ثم أتى التحالف العسكري بين الطرفين ممثلًا في حلف شمال الأطلسي (الناتو). وكذا لم تدخر واشنطن أي جهد لتعزيز المزيد من التكامل الأوروبي، فدعمت نشأة الاتحاد الأوروبي، وكذلك سياسته للتوسع شرقًا، لخدمة غرضها الرئيسي وهو “محاصرة النفوذ السوفيتي”.
وفي أعقاب سقوط الاتحاد السوفيتي، تراجعت حماسة واشنطن في دعم المشروع الأوروبي تدريجيًا، إذ بدأ اهتمام واشنطن ينصرف تجاه قضايا ومهددات أخرى، كالحرب على الإرهاب التي ظهر في خضمها أبرز الخلافات الواضحة بين الطرفين، تمثلت في رفض ألمانيا وفرنسا لغزو العراق عام 2003، وعليه اتجهت العلاقات نحو الفتور. ومثّل وصول “باراك أوباما” للحكم، بعد فترة رئاسة “جورج بوش” الابن، أملًا للأوروبيين للترميم المحتمل للعلاقات عبر الأطلسي. ولكن تبنى “أوباما” ذات النهج، إذ اعتبر أن أوروبا منطقة مستقرة ليست بحاجة إلى استمرار المساعدة الأمريكية، وأن الأولويات الجيوسياسية الأساسية لواشنطن هي أمريكا اللاتينية، والشرق الأوسط، وقبل كل شيء آسيا.
وعليه، فقد وجّه “أوباما” تعليقات قاسية لبعض الحلفاء الأوروبيين، إذ اتهمهم بتحريض الولايات المتحدة على التدخل في مناطق الأزمات المختلفة ثم تجنب التورط بدورهم. ثم ملاحظة وزير الدفاع الأسبق “روبرت جيتس” أن الناتو لديه مستقبل “قاتم إن لم يكن كئيبًا”. إلا أنه بالرغم من ذلك، ففي عهده لا تزال إداراته تعمل عن كثب مع حلفائها الأوروبيين لتحقيق أهداف تاريخية، مثل: اتفاقية باريس للمناخ، والاتفاق النووي الإيراني.
ومع وصول الرئيس “دونالد ترامب” لسدة الحكم استكمل ما بدأته إدارة الرئيس السابق “أوباما”، وهو ما يتوافق مع ما صرّح به “جيرارد أرو”، السفير الفرنسي السابق بواشنطن من أن “انعزالية “ترامب” القومية ليست انحرافًا، كونها متجذرة بعمق في شك الولايات المتحدة التاريخي في التورط الأجنبي. وبغض النظر عمن سيصل إلى البيت الأبيض في عام 2021، “فلن تكون هناك عودة للتدخل الليبرالي أو للهيمنة الأمريكية العالمية”، وهو ما أكده أيضًا في كتابه “الجواز الدبلوماسي”، الذي نُشر في أواخر العام الماضي. غير أنه اتبع في تعامله مع أوروبا “نهجًا مزدوجًا” قائمًا على التقارب مع دول وسط وشرق أوروبا، والتشدد في وجه الكتلة الغربية للاتحاد، وعلى رأسها محور برلين-باريس المحرك الرئيسي للاتحاد الأوروبي، وهو ما انعكس على تشرذم الآراء الأوروبية من التحركات الأمريكية ما بين المعارضة والترحيب.
“ترامب” وتعميق الخلافات
يمكن القول بشكل عام، إن وصول “ترامب” للبيت الأبيض مثّل بداية مرحلة جديدة من العلاقات عبر الأطلسية فحواها هو اتساع الهوة على جانبي الأطلسي. وبالرغم مما تتجه إليه بعض التحليلات بالتأكيد على أن معظم رؤساء الولايات المتحدة منذ “دوايت أيزنهاور” علقوا على عدم وفاء حلفائهم الأوروبيين بنصيبهم العادل؛ إلا أن “ترامب” حوَّل اللوم إلى سياسة عملية مستندًا إلى مقياس 2 في المائة ضد الحلفاء. لذا، اعتبرت أوروبا أن العلاقات عبر الأطلسي في حالة تدهور كبيرة، ويمكن التدليل على ذلك بالمقال الذي نشره الموقع الإلكتروني لمؤسسة كارنيجي، بتاريخ 20 فبراير 2020، الذي يحوي مجموعة لقاءات مع سفراء ودبلوماسيين أوروبيين مقيمين بواشنطن العاصمة. إذ أوضح أن النظرة الأوروبية السلبية تستند إلى 6 أسباب رئيسية؛ من بينها الدبلوماسية الهجومية من جانب إدارة “ترامب”، إذ وصف الاتحاد الأوروبي بـــــ”العدو” أو “المنافس”، كما وصف ألمانيا بأنها “سيئة للغاية”، و”أسيرة لروسيا”، فضلًا عن وجود صعوبات في التعامل مع إدارة “ترامب”، بسبب كونه “مندفعًا” و”لا يمكن التنبؤ به”.
وارتباطًا بما سبق، يتضح أن إدارة “ترامب” ساهمت في تصدر عددٍ من القضايا الخلافية، أبرزها:
- الإنفاق الدفاعي على الناتو: مثّلت ميزانية “الناتو” أول خلاف جوهري بين الطرفين، إذ طالبت إدارة “ترامب” في 2017، الدول الأوروبية برفع قيمة مساهمتها إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو الأمر الذي لم تلتزم به إلا سبع دول. وفاقم الأزمة تلميح “ترامب” المتكرر بالانسحاب من “الناتو”، وكذلك سحبه ما يزيد على تسعة آلاف جندي أمريكي من ألمانيا، من أصل خمسة وثلاثين ألف جندي أمريكي.
- الحرب التجارية: تُعد واشنطن الشريك الأكبر للاتحاد الأوروبي، فقد وصل حجم التبادل التجاري بين الجانبين إلى نحو 1.3 تريليون دولار في عام 2018 الذي شهد عجزًا تجاريًا أمريكيًا لصالح الاتحاد الأوروبي قدره 169 مليار دولار، وفقًا لمكتب التمثيل التجاري الأمريكي، الأمر الذي تسبب في قيام “ترامب” بشن حملة عقوبات تجارية على الاتحاد الأوروبي، ووصل الأمر إلى وصفه بـ”العدو” التجاري، واعتباره “أسوأ من الصين”، ففرض عقوبات على واردات الصلب والألومنيوم في 2018. وفي أكتوبر 2019، فرض ضرائب بنسبة 25% على بعض المنتجات، من بينها النبيذ والجبن. وفي مارس 2019، قررت واشنطن زيادة الرسوم الجمركية على طائرات إيرباص المستوردة من أوروبا من 10% إلى 15%. علاوة على ذلك، قامت واشنطن بتوقيع عقوبات اقتصادية على الشركات المساهمة في مشروع “نورد ستريم 2” الذي سيضاعف نقل الغاز الروسي لأوروبا، لا سيما لألمانيا، ما عرقل إتمام المشروع حتى الآن.
- الاتفاق النووي الإيراني: زلزل انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي الإيراني العلاقات بين الطرفين، لا سيما مع اتجاهها لفرض عقوبات اقتصادية على الدول والشركات والكيانات المتعاملة مع طهران؛ إلا أن الاتحاد الأوروبي رفض الخطوة الأمريكية، وتمسك في المقابل بالاتفاق، وعمل على التحايل على العقوبات عبر تدشين آلية تسمح بالتعامل التجاري مع إيران. وكذلك رفضت أوروبا الرضوخ للضغط الأمريكي بشأن تمديد حظر الأسلحة على إيران، الذي فرضه مجلس الأمن الدولي منذ عام 2007، والذي نص الاتفاق النووي على رفعه في 18 أكتوبر 2020.
- النظام الدولي والتعددية: كما تمت الإشارة سلفًا، فإن التقارب بين الطرفين تم بناؤه على أساس قيمي يهدف إلى بناء نظام قائم على القواعد والمؤسسية الدولية التي ترسخ هيمنة القيم الليبرالية الغربية. وعليه، مثّل انسحاب “ترامب” من العديد من الاتفاقيات، مثل اتفاقية باريس للمناخ، ومعاهدة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى، بالإضافة لهجومه المتكرر على المنظمات الدولية المختلفة وعلى رأسها منظمتا الصحة العالمية، والجنائية الدولية؛ انهيارًا لقيم التحالف عبر الأطلسي.
- الموقف من روسيا: تسعى كل من فرنسا وألمانيا إلى اتّباع نهج مغاير عن النهج الأمريكي –الذي تتفق فيه مع دول وسط وشرق أوروبا- من روسيا. إلا أن فرنسا بشكل رئيسي وألمانيا بدرجة أقل تؤمنان بأن إعادة تنشيط الحوار مع روسيا حول القضايا الجيوسياسية الرئيسية يُعد السبيل الأمثل لاحتواء خطرها، بالإضافة إلى كون روسيا فاعلًا رئيسيًّا في المناطق التي تمس الأمن الأوروبي كــ”أوكرانيا والشرق الأوسط”، مما يجعل التفاهم بينهم مبررًا لحماية الأمن الأوروبي.
- الموقف من الصين: فرض الاتحاد الأوروبي تعريفات جمركية على الصين، ولكن بدرجة أقل من واشنطن، نظرًا لكون السوق الصينية منطقة رئيسية للنمو الاقتصادي للاتحاد الأوروبي (الصين هي ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي بعد الولايات المتحدة)، لا سيما ألمانيا، حيث تتصدر الصادرات الألمانية، وبخاصة قطاع السيارات، الصادرات الصينية. لذا، تنامى الشعور الأوروبي بالحاجة إلى تغيير السلوك الاقتصادي الصيني، وبالأخص مع تركيز الصين على القطاعات الاستراتيجية، وانخراطها في ممارسات تجارية غير عادلة، وخلق حالة من الانشقاق الأوروبي بترويجها للنموذج الصيني مقابل الاتحاد الأوروبي (إيطاليا نموذجًا)، ولكن مثّل خطر فقدان الوصول إلى السوق الصينية رادعًا كبيرًا أمام توحد القوى الأوروبية في وجه الصين.
- دعم الشعبوية: كان دعم “ترامب” و”ستيف بانون” -المستشار السابق له- للتيارات الشعبوية في أوروبا بمثابة إعلان شهادة وفاة للدعم الأمريكي لتعزيز التكامل الأوروبي. فنجد أن “ترامب” بمجرد انتخابه التقى “نايجل فاراج”، أحد القيادات الحزبية البريطانية المؤيدة للبريكست، كما تمتع “بانون” بعلاقات وثيقة مع العديد من القادة الأوروبيين المتشككين في التكامل، مثل: “خيرت فيلدرز” في هولندا، و”ماريان لوبان” في فرنسا، و”ماتيو سالفيني” بإيطاليا، بالإضافة إلى التقارب القوي بين إدارة “ترامب” ودول وسط وشرق أوروبا. وفي هذا السياق، قام وزير الخارجية الأمريكي “مايك بومبيو” في نهاية أغسطس الماضي، بزيارات إلى التشيك والنمسا وسلوفينيا، واختتم جولته بتوقيع اتفاقية عسكرية ثنائية بين واشنطن ووارسو، معتبرًا أن دول وسط أوروبا حلفاء طبيعيون لأمريكا، وأن فيينا يجب أن تحل محل برلين باعتبارها العاصمة السياسية لوسط أوروبا.
مستقبل العلاقات عبر الأطلسي
يمكن القول بشكل عام إن وصول إدارة ديمقراطية لسدة الحكم في الانتخابات القادمة سيساهم بقدر كبير في تحسين العلاقات عبر الأطلسي، وخصوصًا مع التخلي عن الخطاب السلبي الذي يتبناه “ترامب” تجاه أوروبا، إضافة إلى المزيد من المشاركة الإيجابية بشأن بعض الملفات كتغير المناخ من خلال العودة لاتفاقية باريس للمناخ، وتبني أشكال جديدة من التعاون حول القضايا البيئية مثل التكنولوجيا النظيفة والنمو الأخضر، إذ صرح المرشح الديمقراطي “جو بايدن” بأن تغير المناخ هو “أكبر تهديد لأمننا”.
وفيما يتعلّق بالقضايا الأمنية، وفي مقدمتها حلف “الناتو”، يعتبر “بايدن” من أشد مؤيدي الناتو، واصفًا إياه بـ”أهم تحالف عسكري في تاريخ العالم”، محذرًا من سعي روسيا لإضعاف الناتو، وتقسيم الاتحاد الأوروبي. علاوة على ذلك، يتوقع أن يؤكد على قيمة التعددية بما في ذلك إعادة الانخراط مع الأمم المتحدة، ومنظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية، والتفاهم بشأن الاتفاق النووي الإيراني، إذ حذر “بايدن” من الجهود الأحادية، مؤكدًا على أهمية العمل من خلال التحالفات والمؤسسات العالمية. كما يُتوقع أن يكون أكثر استعدادًا للتعاون مع أوروبا في قضايا مثل المساعدات التنموية، وتعزيز الديمقراطية، وعملية السلام في الشرق الأوسط. كما يفترض أن تميل الإدارة الديمقراطية إلى حرية التجارة، وإزالة التعريفات عن الاتحاد الأوروبي، وكذا التعاون في إصلاح النظام التجاري العالمي والحفاظ عليه.
ولكن بالنظر إلى العلاقات عبر الأطلسي، وفق تحليل أكثر عمقًا لماهية الروابط والأبعاد والعوامل التي تمثل محركات لهذه العلاقات، يتضح أن مستقبل العلاقات لن يتأثر كثيرًا بالمرشح الفائز في الانتخابات الحالية، حتى وإن بدت الإدارة الديمقراطية أكثر مرونة كما سبقت الإشارة. وعليه، يتضح أن هناك عددًا من العوامل التي ستمثل محددات رئيسية لمستقبل العلاقات، يمكن توضيحها على النحو التالي:
العامل الأول هو أهمية العلاقات: حيث يمكن القول إنه على الرغم من الخلافات التي تظهر بين حين وآخر بين الطرفين، إلا أن هناك إدراكًا متبادلًا لأهمية العلاقات لكلا الجانبين، حتى في ظل إدارة “ترامب” التي ساهمت بشكل كبير في اتساع التصدعات. ويتضح ذلك فيما أكدته استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018، على أهمية آسيا والمحيط الهادئ وأوروبا، مع التركيز بشكل خاص على التنافس مع الصين وروسيا، وكذا إصدار خطة دفاع صاروخي محدثة في عام 2019، التي تؤكد على استخدام التقنيات الجديدة والأنظمة الفضائية لحماية الولايات المتحدة وحلفائها.
علاوة على ذلك، استضاف “ترامب” عدة اجتماعات بالفيديو مع العديد من القادة الأوروبيين بما في ذلك المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” والرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”. كما تحدث وزير الخارجية “بومبيو” مع دبلوماسيين أوروبيين، مثل الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، ووزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان”، معربًا خلال اللقاءين عن الرغبة في تعزيز التعاون عبر الأطلسي. إضافةً إلى المساعدة الفنية والدعم الذي قدمته واشنطن لروما في إطار دعم الدول المنكوبة جراء فيروس كورونا. كما يُحسب للولايات المتحدة أنها لعبت دورًا أكثر نشاطًا في مناقشات مجموعة السبع ومجموعة العشرين حول الدعم المالي المنسق، وتعليق الديون للبلدان منخفضة الدخل في إفريقيا.
العامل الثاني هو التهديد الصيني: فلا يمكن إغفال حقيقة أن كلا الطرفين يشتركان في مخاوفهما من الصين، إذ سبق وأن صرّح وزير الدولة الفرنسي للشئون الأوروبية “كليمان بون” بأنه “على الرغم من عدم مشاركة بروكسل بنفس الأسلوب والطريقة، إلا أن بروكسل لديها تحليل مماثل لواشنطن عندما يتعلق الأمر بموقف الصين العدواني المناهض للمنافسة”.
لذا، فإن التعاون الأوروبي الأمريكي هو السبيل الوحيد لمحاصرة الصين الصاعدة بقوة. فقد أظهر صندوق النقد الدولي في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي لعام 2020، أن اقتصاد الصين تفوق بقيمة السدس على اقتصاد أمريكا (24.2 تريليون دولار مقابل 20.8 تريليون دولار أمريكي). كما ستتفوق بكين على واشنطن في الإنفاق على البحث والتطوير. علاوة على ذلك، أصبحت بكين الشريك التجاري الأكبر لأغلب الدول، كما أصبحت ورشة التصنيع في العالم. وعليه، لا يمكن إغفال أن الصين تحمل مشروعًا مغايرًا للمشروع الغربي، وبالتالي فإن اتساع تدخلاتها وتأثيراتها في الولايات المتحدة وأوروبا يعني انحصار الرواية الغربية، وتزداد هذه الحالة خطورة مع تزايد الانغماس الصيني في دول العالم بشكل عام والدول الغربية بشكل خاص، لا سيما مع اتجاهها لتنفيذ مبادرة “حزام واحد طريق واحد”.
العامل الثالث هو التهديدات الروسية: فعلى الرغم من انحصار التهديد الروسي في صورته الشيوعية، إلا أن التهديد الروسي لا يزال قائمًا بطريقة قد تجعله من المحفزات على تعزيز العلاقات عبر الأطلسية. فلطالما مثّل التنسيق بين بعض القوى الأوروبية وروسيا سبب خلاف أمريكي أوروبي، إلا أنه قد يمثل أيضًا مدخلًا مناسبًا لتعميق التحالف الغربي. إذ إنه من غير شك وجود اعتقاد أمريكي بأن استمرار الحالة العدائية بين أوروبا وروسيا ستعني استمرار حاجة أوروبا للأمن الأمريكي.
وعليه، فإن الاعتماد على التهديد الروسي كمحفز للعلاقات عبر الأطلسي يعني أمرين؛ يتضمن الأول حماية دول شرق أوروبا من الوقوع مجددًا تحت السطوة الروسية، وينصرف ثانيها إلى العمل على تغيير وجهة نظر بعض دول أوروبا الغربية القائمة على فتح قنوات للتفاهم والتنسيق مع روسيا.
العامل الرابع هو التهديدات السيبرانية: لا بد من التأكيد على أن التهديدات السيبرانية باتت مؤثرًا حيويًّا في الأمن الغربي، إذ ذكر تقرير لمجلة “دير شبيجل” الألمانية إشارة بعض خبراء الحكومة الألمانية لوقوع هجمات سيبرانية على بعض شركات الطاقة في ألمانيا بطريقة ستؤدي إلى إظلام القارة الأوروبية، فضلًا عن تعالي التحذيرات المتكررة من تدخل روسي محتمل في الانتخابات الأمريكية.
لذا، فإن وضع استراتيجية مشتركة عبر الأطلسي للفضاء السيبراني بات أكثر إلحاحًا، لعددٍ من الأسباب، أبرزها: اتجاه العالم إلى ممارسة أنشطته الاقتصادية وإدارة البنى التحتية عبر الإنترنت لا سيما في أعقاب جائحة كورونا، إضافة إلى الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي بطريقة ستزيد من القدرة على استخدام (وإساءة استخدام) البيانات الشخصية، مما يشكل تهديدًا للديمقراطية والحرية. علاوة على ذلك، أصبح كل من روسيا والصين أكثر عدوانية في استخدام الأدوات السيبرانية لمهاجمة الدول والسيطرة عليها. وعلى الرغم من الجهود المشتركة التي يبذلها الطرفان داخل أروقة “الناتو” لمواجهة هذه التهديدات؛ إلا أن هناك ضرورة ملحة لتعميق التعاون في مجال الأمن السيبراني، وبالأخص عبر وضع أجندة مشتركة تتعلق بالجيل الخامس G5 ومواجهة “هواوي”.
العامل الخامس هو تداعيات فيروس كورونا: ففي خضم التداعيات الاقتصادية الهائلة لفيروس كورونا على جانبي الأطلسي، يتوقع أن تنخفض التجارة في السلع؛ إلا أن أحد الآثار الجانبية الإيجابية للانكماش الناجم عن الوباء هو عدم اتجاه واشنطن لفرض المزيد من الرسوم على الاتحاد الأوروبي على المدى القصير خوفًا من تفاقم الأزمة الاقتصادية. ومن الشواهد التي يمكن النظر إليها في هذا الإطار، إعلان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، في أغسطس الماضي، عن أول تخفيضات تفاوضية في الرسوم الجمركية منذ أكثر من عقدين، مع إلغاء التعريفات الأوروبية على بعض الواردات الأمريكية مقابل تخفيض التعريفات الأمريكية على بعض المنتجات الأوروبية.
وارتباطًا بذلك، فمن مصلحة واشنطن تشجيع الأوروبيين على تقديم دعم اقتصادي للبلدان التي تضررت بشدة جراء الجائحة، إذ إن مثل هذه المساعدة من شأنها منع الصين من شراء البنية التحتية الحيوية والأصول الاستراتيجية الأخرى في البلاد الأوروبية المتضررة. بعبارة أوضح، دعم الدول الأوروبية يعني الحيلولة دون تكرار ما حدث بعد أزمة منطقة اليورو عندما استحوذت الصين على أصول رئيسية مثل ميناء “بيرايوس” اليوناني. عطفًا على ما سبق، يتضح جليًا ضرورة قيام واشنطن بنزع فتيل التوترات التجارية مع الاتحاد الأوروبي، وتنسيق نهجهًا لتنويع سلاسل التوريد العالمية بعيدًا عن الصين.
وبالاستناد إلى ما سبق، يمكن القول إن العلاقات عبر الأطلسي لا تزال من أهم العلاقات لكلا الطرفين، إذ انعكس ذلك في إقرار بعض الدبلوماسيين الأوروبيين بأن العلاقات الثنائية بين بلدانهم وإدارة “ترامب” أفضل خلف الأبواب المغلقة، وبخاصة في قضايا أمن الطاقة، والتعاون الأمني في إفريقيا، والصراع في أوكرانيا، ودول البلقان الغربية. وعليه، قد تزداد فرص التحسن في العلاقات بين الطرفين، حتى وإن فاز “ترامب” بولاية ثانية، بالاستناد إلى إدراك الطرفين لوجود تهديدات مشتركة تستدعي استمرار التحالف بينهما. لذا، وانطلاقًا من العوامل المؤثرة في العلاقات -السابق الإشارة إليها- قد تستمر حالة الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين حتى مع وجود بعض الملفات الخلافية الفرعية الأخرى.