أشار الرئيس “عبدالفتاح السيسي” خلال الندوة التثقيفية بمناسبة احتفالات السادس من أكتوبر إلى كوريا الجنوبية التي كانت تعاني مشاكل اقتصادية واجتماعية جمة حتى الستينيات، وأصبحت الآن نموذجًا عالميًّا في النهضة العلمية والاقتصادية، والتي تمتلك أحد أفضل النظم التعليمية والبحثية في العالم، حتى أصبحت أحد أهم مراكز الابتكار والتطوير التكنولوجي في العالم. بدأت كوريا الجنوبية بخطة تنمية شاملة؛ شملت تطوير المؤسسات والتشريعات والسياسات الاقتصادية والمالية وسياسات الاستثمار والتجارة الدولية والتنمية البشرية وخصوصًا التعليم، إلا أن سياسة العلوم والتكنولوجيا طويلة الأمد كانت الرافعة الأساسية التي أخرجت كوريا من صفوف دول العالم الثالث النامية، ونقلتها إلى مصاف الدول المتقدمة.
تحتل كوريا الجنوبية المرتبة الحادية عشرة عالميًّا من حيث الناتج المحلي الإجمالي، وهي الدولة الأولى عالميًّا في مجالات الابتكار والبحث والتطوير، وفقًا لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة “يونسكو”، كما أنها الدولة الأكثر إنفاقًا على البحث والتطوير كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي، حيث تستثمر حاليًّا 4.5٪ من الناتج المحلي الإجمالي في البحث والتطوير، وهي نسبة أعلى بكثير من دول مثل الولايات المتحدة والصين والمملكة المتحدة، التي خصصت نسب 2.7٪ و2.0٪ و1.7% على التوالي. تعي كوريا الجنوبية جيدًا أهمية مساهمة الابتكار في النمو الاقتصادي، فقد بلغ الإنفاق على البحث والتطوير في 2019 حوالي 73 مليار دولار، يساهم قطاع الأعمال بنسبة 78.2٪ منها، متفوقة على بلد بأهمية المملكة المتحدة، التي يسهم قطاع الأعمال فيها بنسبة 65.1٪ من إجمالي 44 مليار دولار، تنفقها المملكة المتحدة على البحث والتطوير.
جاء ذلك بعد معاناة طويلة مرت بها كوريا، سواء مع الاحتلال الياباني أو الأمريكي أو حربها مع كوريا الشمالية بعد الانقسام، وهي الحرب التي استمرت حتى عام 1953 عندما تم توقيع اتفاقية الهدنة، حيث بدأت كوريا الجنوبية بإعادة الإعمار والبناء لما دمرته الحرب بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية. صنفت كوريا الجنوبية وقـتها كواحدة من أفقر دول العالم، خاصة وأن أراضيها تفتقر إلى موارد طبيعية كبيرة، وأن القاعدة الصناعية والعلمية كانت متركزة في الشمال الذي أصبح دولة مستقلة معادية، أما بالنسبة للسكان فقد انتشرت بينهم الأمية التي بلغت نسبتها 90%، واعتمدت البلاد بنسبة كبيرة جدًا على المعونات والمساعدات الخارجية، خاصة الأمريكية.
بدأت النهضة في كوريا الجنوبية بإحداث إصلاح عميق في مجالين أساسيين؛ الأول هو الإصلاح الزراعي، والثاني والأهم هو تطوير التعليم، فزادت نسبة الالتحاق بالتعليم العالي 10 أضعاف، واستوعبت المدارس 96% من الأطفال في سن التعليم، وأصبح لدى كوريا الجنوبية قوة عاملة متعلمة، تحملت المسئولية مراكز البحث والتطوير والجامعات، ولعبت دورًا مهمًا في النهضة الصناعية، لمساعدة الصناعة والشركات لنقل وتوطين التكنولوجيا، حتى تحولت البلاد مع مرور السنوات إلى واحدة من أهم الدول الصناعية المتقدمة في العالم.
ارتباط وثيق بين البحث العلمي والتصنيع
لولا تركيز كوريا الجنوبية على البحث العلمي والتطوير، لظلت مثلها مثل بلاد نامية كثيرة، طبقت إصلاحات زراعية ووسعت نطاق التعليم العام، لكن ذلك لم يكن كافيًا لإخراجها من نطاق معاناة الدول النامية متوسطة الدخل. أما ما يميز كوريا وسر نهضتها فهو التعاون الوثيق بين الحكومة والصناعة والمجتمع الأكاديمي في عملية بناء الاقتصاد والدولة، وقد قاد الرئيس “بارك تشونغ” التنمية الاقتصادية في كوريا الجنوبية بين عامي 1961-1979. وتحت شعار تحديث كوريا، كان دعم البحث والتطوير محوريًّا في خطة الرئيس “بارك” الخمسية الأولى للتنمية الاقتصادية، والتي بدأها في عام 1962، وتجلى ذلك في تأسيس المعهد الكوري للعلوم والتكنولوجيا (KIST) في عام 1966، ووزارة العلوم والتكنولوجيا في العام التالي. لقد دعمت هذه الأدوات ظهور مجموعات صناعية كبيرة تسمى باللغة الكورية (chaebol)، وهي مؤسسات اقتصادية كبرى يمتلكها ويديرها أفراد أو عائلات من القطاع الخاص الكوري الجنوبي، وقد شجعت الحكومة هذه المجموعات على الاستثمار بكثافة في البحث والتطوير مع حمايتها من المنافسة. ومع زيادة كثافة عمليات البحث والتطوير التي ركزت على المعرفة التطبيقية، والصناعة، اتجهت الكيانات الاقتصادية الكبرى (مثل: LG، وLotte، وHyundai، وSK، وSamsung) نحو الصناعات الثقيلة، بما في ذلك البتروكيماويات وتصنيع السيارات وبناء السفن، وكذلك الإلكترونيات الاستهلاكية التي أصبحت تمثل 41% من مبيعات الـ500 شركة الأولى في كوريا، وحوالي 82% من صادرات البلاد، فمنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، تحول اهتمام الحكومة إلى صناعات التكنولوجيا الفائقة، مثل تصميم وتصنيع أشباه الموصلات والهواتف الذكية.
طريق الريادة في الابتكار
ما تحقق في كوريا الجنوبية هو إنجاز كبير بكل المقاييس، فالدولة التي كانت حتى النصف الأول من القرن العشرين مستعمرة يابانية، يقوم اقتصادها على الزراعة، ثم تحولت إلى واحدة من ساحات الحرب الباردة، أرهقتها الصراعات السياسية؛ أصبحت في عام 2020 تأتي في المرتبة الثانية، تالية لألمانيا، في مؤشر بلومبرج للابتكار. وفي مؤشر الابتكار العالمي المنفصل لعام 2020، الذي نشرته جامعة كورنيل وإنسياد والمنظمة العالمية للملكية الفكرية، احتلت كوريا الجنوبية المرتبة 10، وجاءت ألمانيا في المركز التاسع من بين 131 دولة. ويسلط كلا المؤشرين الضوء على الأداء المتميز لكوريا الجنوبية في كثافة البحث والتطوير، وهو مؤشر يعتمد على الاستثمار في البحث والتطوير من قبل الحكومة والصناعة، وعدد الباحثين العاملين في كلا القطاعين وفيما بينهما. فعلى سبيل المثال، حصلت كوريا الجنوبية على أكبر حصة من الباحثين الذين انتقلوا من الصناعة إلى الأوساط الأكاديمية في الفترة 2017 – 2019 من بين 71 دولة.
أما فيما يتعلق بالنشر العلمي، فقد احتلت كوريا الجنوبية المركز 13 في عدد الأبحاث العلمية المنشورة لعام 2019، بعدد أبحاث بلغ 89544 بحثًا منشورًا، وفقًا لمؤشر “Scimago Journal & Country Rank”، بينما على مؤشر مجلة “نايتشر” للنشر العلمي عالي القيمة “Nature Index” وخاصة في مجالات العلوم والهندسة والتكنولوجيا والكيمياء والعلوم البيئية، احتلت كوريا الجنوبية المركز التاسع لعام 2020، كما سجلت كوريا الجنوبية 8601 طلبًا لحقوق براءات الاختراع، بينما جاءت الصين في المركز الثاني بـ5863 طلبًا، تلتها اليابان بـ5264 طلبًا، لعام 2019.
وتتمتع كوريا الجنوبية بسمعة طيبة كرائدة عالمية في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT)، حيث تصنف ضمن المراكز الثلاثة الأولى في مؤشر تنمية تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العالمي (IDI) للاتحاد الدولي للاتصالات، وليس من الصعب معرفة السبب في ذلك، فكوريا الجنوبية هي موطن لشركات الإلكترونيات وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات الرائدة عالميًّا مثل: سامسونج Samsung، وإل جي LG، وإس كي SK، وكي تي KT.
كوريا الجنوبية في المؤشرات الدولية 2019/2020
الارتقاء بسياسات البحث والتطوير
ركزت الحكومة الكورية على السياسات العلمية والتكنولوجيا التي تهتم بتقديم واستيعاب وتطبيق التكنولوجيا، وتحول اهتمام الدولة في الثمانينيات إلى مشروعات الأبحاث والتنمية القومية، وذلك بهدف الارتقاء بمستوى الدولة في النواحي العلمية والتكنولوجية، وركزت الحكومة منذ أوائل التسعينيات على ثلاثة محاور هي: تقوية وتطوير البحوث في مجال العلوم الأساسية، وضمان التوزيع والتطبيق الفعّال لأبحاث التنمية، وأخيرًا توسيع نطاق التعاون الدولي في هذا المجال. وأدت هذه الجهود إلى زيادة قدرة كوريا التنافسية في مجال العلم والتكنولوجيا، وحجزت مكانًا لها في الصفوف الأولى للدول الكبرى والمتقدمة علميًا، فظهرت مؤسسة (Institute for Basic Science) ” IBS”، وهي مؤسسة تمولها الحكومة على غرار جمعية “Max Planck” في ألمانيا، و”Riken” في اليابان، والتي تتمثل مهمتها في إجراء أبحاث جماعية واسعة النطاق وطويلة الأجل من أجل التوصل لاكتشافات تخدم الإنسانية والمجتمع. وقد تأسست IBS في عام 2011، وتمر حاليًّا بمراحل نمو وبناء، سيبلغ ذروته في عام 2021، حيث من المقرر افتتاح أكبر مؤسسة حكومية ” RAON ” تعمل في مجال الفيزياء النووية، ضمن مركز العلوم الأساسية ” IBS”، وهو منشأة كبيرة مبنية حول معجل الأيونات الثقيلة الذي سيسمح بإنتاج ودراسة النظائر النادرة الجديدة.
يتكون مركز العلوم الأساسية من أكثر من 30 مركزًا بحثيًا منتشرة في جميع أنحاء كوريا الجنوبية، تقوم بأبحاث في الكيمياء والرياضيات والفيزياء وعلوم الأرض، وتضم ما يقرب من 1800 باحث وطالب، موزعين على 68 مجموعة بحثية، 30٪ من الباحثين من خارج كوريا الجنوبية، بالإضافة إلى دخوله في شراكات مع أكثر من 42 مؤسسة بحثية في 16 دولة لإجراء أبحاث مشتركة، وتسهيل التبادل وتنظيم المؤتمرات والندوات الأكاديمية المشتركة. وقد تم إدراج مركز العلوم الأساسية في قائمة Nature Index 2016 Rising Stars، حيث احتل المرتبة 11، بعد جامعة أكسفورد مباشرة وقبل جامعة استانفورد في قائمة المؤسسات المائة التي تحسنت بين عامي 2012 إلى 2015.
وأخيرًا، يجب التذكير بأن تقدم كوريا العلمي يستند إلى قاعدة وبنية تحتية قوية في نظام تعليم شديد التطور، يجري فيه تدريس العلوم والرياضيات في المراحل الأولى للتعليم، ولكن ليس بالطرق التقليدية، وإنما باستخدام الأجهزة الذكية، وقامت المدارس بدمج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في جميع مستويات التعليم، واحتلت كوريا الجنوبية رابع أفضل نظام تعليمي عالمي حسب “منظّمة التعاون والتّنمية الاقتصاديّة”، كل ذلك بهدف تكوين مواطن متعلم متمكن من علوم وتكنولوجيا القرن الحادي والعشرين، والاعتماد عليه في بناء اقتصاد قوي ومجتمع الرفاهية.
المصادر:
1- Nature Index,Top 100 institutions, available at: https://www.natureindex.com/supplements/nature-index-2016-rising-stars/tables/institutions
2- the UNESCO Institute for Statistics (UIS). R&D Spendingbycountry, available at:
http://uis.unesco.org/apps/visualisations/research-and-development-spending/
3- World Population Review. GDP Ranked by Country 2020, available at: https://worldpopulationreview.com/countries/countries-by-gdp
4- Soumitra Dutta, Bruno Lanvin, and Sacha Wunsch-Vincent. Global Iinnovation Index 2020, available at: https://www.globalinnovationindex.org/userfiles/file/reportpdf/GII_2020_Full_body_R_58.pdf