تتواصل الانهيارات المتتالية في قيمة الليرة التركية، فبعد أن ظلت بعض الدوائر الاقتصادية التركية تروج لأن تآكل قيمة العملة التركية ما هو إلا ظاهرة مؤقتة سرعان ما سيتم معالجتها بالشكل والأسلوب الذي يضمن استعادة الثقة في الاقتصاد التركي؛ فقد ثبت أن ذلك لم يكن سليمًا أو دقيقًا، إذ سجل سعر صرف الدولار اليوم ٨,٢ ليرات، كما سجلت قيمة اليورو ٩,٧ ليرات وسط تكهنات بأن العملة التركية، التي هي ضمن “أسوأ العملات أداءً” عالميًّا، ستدخل حتمًا في مرحلة “السقوط الحر” free fall. وقد فاجأ البنك المركزي التركي الدوائر الاقتصادية العالمية أمس بإعلانه أنه لن يتجه إلى رفع أسعار الفائدة والذي كان من الممكن أن يُسهم -على أقل تقدير- في وقف تدهور قيمة العملة التركية في ظل تآكل مطرد في قيمة الاحتياطيات التركية من العملات الأجنبية، وتراجع في ثقة المستثمرين في تقديرات وكالات التصنيف الائتماني لسلامة أداء الاقتصاد التركي في ظل عدم إدراك النظام التركي بمكوناته السياسية والاقتصادية لخطورة أوضاعه، والتردد في اتخاذ القرارات اللازمة لمعالجة الموقف.
وبالإضافة إلى الموقف الذي يصعب تفسيره الذي يتخذه البنك المركزي التركي الذي يحول عمليًّا دون القيام بـ”الهبوط السهل” soft landing المطلوب؛ تسهم مجموعة من العوامل المباشرة وغير المباشرة في التدهور المتواصل الذي يشهده الاقتصاد التركي، والتي لا يمكن اختزالها في مجرد تداعيات فيروس “كوفيد ١٩” أو تراجع عائد قطاع السياحة بقدر اتصالها بالفشل في إدارة العلاقات الخارجية، والذي يرجع إلى الممارسات التركية في منطقة شرق المتوسط، والتي تؤدي إلى توتر العلاقات التركية مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يتزامن مع توتر آخر في العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية نتيجة إقدام تركيا على اختبار نظام الدفاع الجوي الروسي S 400. يضاف إلى ذلك تداعيات تدخلاتها في النزاع الدائر بين أرمينيا وأذربيجان، وتواجد قوات عسكرية تركية في ليبيا، فضلًا عن الممارسات العسكرية التركية في كل من العراق وسوريا، وحالة العزلة الإقليمية، وتوتر علاقاتها مع القوى الرئيسية في الشرق الأوسط.
ومهما يُقال عن مظاهر التدهور المتواصل الذي يشهده الأداء الاقتصادي التركي، فهي بالقطع لا تقتصر على مجرد تآكل قيمة العملة التركية، بل تمتد إلى مختلف المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، والتي تشمل: معدلات البطالة، ومستويات الأسعار، ومعدل النمو، وحالة ميزان المدفوعات، وقيمة المديونية الخارجية ونسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي، وقيمة التدفقات الاستثمارية الخارجية التي تُعد من بين مرتكزات احتساب التنافسية الاقتصادية للدول، فالاقتصاد التركي يعاني من مجموعة من الاختلالات الهيكلية تتمثل في:
١- ضخامة العجز في الميزان الجاري والذي يعد من بين الأضخم على مستوى العالم، وهو الأمر الذي يتزامن مع ضعف معدلات الادخار، ومع انخفاض ملحوظ في تدفقات FDIالاستثمار الأجنبي المباشر منذ محاولة الانقلاب الأخيرة.
٢- محدودية احتياطيات النقد الأجنبي والتي لا تعادل سوى ٨ ٪ من الناتج المحلي الإجمالي (GDP).
٣- ارتفاع إجمالي المديونية الخارجية للبلاد لتصل إلى ٤٥٥ بليون دولار، منها ١٨٠ بليون دولار ديون تجارية ولكن بضمانات حكومية يصعب تصور إمكانية الشركات التركية الوفاء بالالتزامات الناجمة عنها في الآجال الزمنية المحددة.
٤- تدهور التقييم الدولي لكفاءة أداء الاقتصاد التركي من قبل كافة وكالات التصنيف الائتماني، سواء “فيتش” (Fitch)، أو “موديز (Moody’s)”، أو “ستاندارد آند بورز” (Standard & Poor’s).
ويُعتبر تردي الأوضاع الاقتصادية التركية من أخطر التحديات التي تواجه “أردوغان”. وعلى الرغم من تفضيل عدد من القوى الدولية عدمَ اللجوء إلى خيار “تغيير السلطة” مع “أردوغان”، على غرار الأساليب التي اتُّبعت فيما يصفونه بـ”الربيع بالعربي” أيضًا، تحسبًا لردود أفعاله؛ إلا أنها في الوقت تراهن على عامل تدهور الأوضاع الداخلية التركية بشكل متواصل حتى يحدث التغيير من الداخل دون تدخلات خارجية.