امام جريمة ذبح الاستاذ الفرنسي الذي نشر رسوما مسيئة للنبي محمد (ص)، وامام غضب المجتمع الفرنسي من وحشية هذه الجريمة، لم يجد الرئيس الفرنسي، الذي يمثل اعلى قيادة سياسية في البلد، من رد سوا مواجهة تطرف شخص او حتى مجموعة من الأشخاص الراديكاليين، بتطرف أكبر، تقوده هذه المرة دولة ترفع شعار “حرية.. مساواة.. اخاء”.
بعد الحادثة، ألقى ماكرون خطابا قال فيه أن الضحية “قتل لأنه درس حرية التعبير لطلابه”. وأضاف في حفل التأبين: “لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض”. والبعض الذي يتحدث عنه الرئيس الفرنسي ليسوا سوا مليار ونصف مسلم حول العالم، منهم ثمانية مليون في فرنسا. وقد اختار الرئيس الفرنسي؛ بدل طريق الحكمة وامتصاص الغضب والتمييز بين سلوك قلة من المتطرفين وبين روح الاسلام الذي يدعو، مثله مثل باقي الأديان، الى التسامح والتعايش واحترام المقدسات؛ ان يؤجج الوضع أكثر وان يستفز بتصريحاته جميع المسلمين، ويمنح فرصة لأعدائه السياسيين وللجماعات المتطرفة للاصطياد في الماء العكر، مما ينذر بالأسوأ في الأيام القادمة.
“التطرف الإسلامي”، كما يطلق عليه الغرب، لا يختلف كثيرا عن “التطرف اليميني” الذي يدعو للإساءة الى معتقدات الناس واستفزاز مشاعرهم، فكلاهما يقود للتفرقة والكراهية وخلق العداوات، ويكرس لثقافة العنف والعنف المضاد. وإذا بات التعصب تجاه المسلمين هو الحائط القصير الذي يتيح فرصة تسليط مزيد من الأضواء على السياسيين في الغرب والمزايدة فيما بينهم لكسب بعض النقاط في المعترك الانتخابي، ولو على حساب استقرار وسلم مجتمعاتهم، فهذا تحديدا ما تستغله الجماعات المتطرفة من اجل تحريض المزيد من الشباب ودفعهم الى الرد بقوة، باسم نصرة الدين ونصرة سيدنا محمد (ص)، وان كان هذا عار عن الصواب، فمكانة الرسول عليه الصلاة والسلام أرفع وأجل وأسمى من أن يمسها بشر لا بكاريكاتير ولا بأي إساءة مهما بلغ حجمها.
ومع ذلك، فالإساءة لاي دين او لمقدساته هو امر مرفوض اخلاقيا، والرد على الإساءة باستخدام العنف هو ايضا امر غير مقبول. أما تصريحات ماكرون بهذا الخصوص، والتي تأتي بعد أيام من الخطاب الذي ألقاه حول الإسلام في فرنسا، والذي قال فيه إن “الإسلام الراديكالي يشكل خطرا على فرنسا لأنه يطبق قوانينه الخاصة فوق كل القوانين الأخرى” و”يؤدي في كثير من الأحيان إلى خلق مجتمع مضاد”، وأن الإسلام “دين يمر بأزمة في جميع أنحاء العالم اليوم، ونحن لا نرى هذا في بلدنا فقط”، فلم تكن موفقة. كان بالأحرى ان يسعى كرئيس دولة الى احتواء الازمة وقطع الطريق امام الإسلام السياسي والجماعات المتطرفة من استغلال الوضع، بدلا من تأجيجه وخلق مزيد من الاستقطاب والتحريض الذي يؤدي حتما إلى التطرف والاسلاموفوبيا والعنف في الاتجاهين.
ومع التأكيد على ضرورة احتواء هذه الازمة قبل ان تتحول الى اعمال عنف متبادلة لن يدفع ثمنها سوا الجالية المسلمة المقيمة في أوروبا، يجب الإقرار، أيضا، بأن توظيف الإسلام لدواعي سياسية بات امرا مقلقا في فرنسا. منذ انتخاب ماكرون في 2017، وهو يسعى الى تصدير مشاكله وأزماته الداخلية (ازمة قانون الشغل، السترات الصفراء، كسب أصوات أنصار اليمين المتطرف)، من خلال فتح معركة خاسرة ضد الإسلام. ويتبع ماكرون في سياسته استراتيجية: “عندما تواجه مشكلة لا يمكنك حلها، وسع نطاقها”، كما أشار الى ذلك جون بولتون؛ مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق في إدارة ترامب، في كتابه “الغرفة التي شهدت الأحداث”.
أيا ما كانت دوافع ماكرون في الهجوم على الإسلام او الإسلام الراديكالي (كما يشير إليه في بعض المواضع) او في الرغبة في اختراع “اسلام فرنسي” على مقاس العلمانية التي تؤمن بها فرنسا، فكل ذلك يعكس ازمة علاقة الغرب والإسلام. تلك العلاقة التي طالما تغذت بتاريخ طويل من الصراع، بالرغم من تقاسم الانتماء الروحي والجغرافي للطرفين والتشارك والاحتكاك الطويل بينهما، والتي لن تنتهي الا باعتراف كل واحد بالأخر وبخصوصيته وحقه في الاختلاف. وذلك لن يتأتى الا باحترام الغرب لمقدسات المسلمين ونجاحه في ادماج المكون المسلم داخل المجتمع الغربي، وأيضا بتحرر الإسلام نفسه من المؤثرات السياسية التي طالما وظفها الإسلام السياسي.
العالم بكل مشاكله وتعقيداته اليوم في غنى عن أي صراعات إضافية. بل كل ما يحتاجه الجميع هو تعميم مبدأ حوار الثقافات والتفاعل الايجابي بين الشعوب والتسامح بين الأديان من أجل بناء انساني قيمي مشترك. ربما يبدو هذا حلما بعيد المنال، لكن لا بد من إعادة فتح هذا الملف ومعالجته ليس فقط من منظور رؤية الغرب للإسلام، ولكن أيضا من منظور رؤيتنا نحن ايضا “للأخر/ الغرب”. في هذا الإطار تبدو مهمة العلماء والمثقفين من الجانبين حاسمة وضرورية من أجل إزالة حالة الالتباس وتنقية الأجواء وتحكيم العقل وتفكيك الأحكام المسبقة والصور المشوهة التي تحملها المجتمعات عن بعضها البعض والعمل على بناء جسور التواصل مع الإنسانية بدلا من الاستثمار في هدمها.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن جريدة الأهرام، الخميس ٢٩ أكتوبر ٢٠٢٠