لست متأكدا ما إذا كانت نتيجة الانتخابات الرئاسية الأمريكية ستكون معلنة ونهائية في الوقت الذي يصل فيه هذا المقال لأيدي القراء، ولكن الشيء المؤكد هو أن الديمقراطية الأمريكية في أزمة، وأن الانتخابات التي جرت قبل يومين قد عمقت الأزمة، من ناحية، وكشفت عن أبعاد جديدة لها، من ناحية أخرى. فهذه هي المرة الأولى التي نرى فيها كل هذا الخلاف حول المسائل الإجرائية والتنظيمية المتعلقة بالانتخابات؛ ونسمع فيها تهديدات برفض نتيجة الانتخابات إذا لم تكن على هوى المرشح؛ ونرى فيها كل هذا العدد الكبير من المحال التجارية يغطي نوافذه الزجاجية بألواح خشبية خوفا من الاضطرابات التي قد تعقب الانتخابات. فإذا لم يكن هذا تدهورا في جودة الديمقراطية الأمريكية، فماذا يكون إذا؟
لا أحتاج أن أكون متحيزا ضد كبار السن حتى أشعر بالاندهاش والصدمة إزاء أعمار المرشحين المتنافسين في الانتخابات الأمريكية. فالمرشح الديمقراطي جو بايدن في الثامنة والسبعين؛ أما الرئيس ترامب ففي الرابعة والسبعين. إذا أضفنا إلى القائمة السيناتور بيرني ساندرز ذي التسعة وسبعين عاما، المرشح القوي الذي كاد يفوز بترشيح الحزب الديمقراطي قبل صعود أسهم جو بايدن، فإن شيخوخة السياسيين المتصدرين للمشهد السياسي لابد وأن تلفت النظر، وأن تطرح سؤالا عن الشباب في السياسة الأمريكية.
تاريخيا سهل النظام الديمقراطي عملية تجديد النخب، بسبب ما يتيحه من فتح القنوات السياسية، وتقييد قدرة النخب على استخدام سلطاتها ونفوذها لعرقلة صعود الشباب والنخب الجديدة. فتح شرايين النخب السياسية لاستيعاب قادمين جدد، يقلل من احتمالات انعزال النخبة، ويمنع تحولها إلى أرستقراطية سلطة، مقطوعة الصلة بما يجري في المجتمع. تزيد أهمية تجديد النخب السياسية في زمن التغيرات الثقافية والأخلاقية السريعة، المدفوعة بتغيرات تكنولوجية تحدث بسرعة تقطع الأنفاس، حتى أصبح من الصعب على جيل الآباء فهم ما يجري في رؤوس الأبناء، فزادت الحاجة لتجسير الفجوة بين الأجيال، ولإفساح المجال لتبوأ الشباب مواقع قيادية.
يوحي النظر في أعمار المتنافسين على مقعد الرئيس الأمريكي بأن شيئا من هذا لا يحدث في الولايات المتحدة، وأن الديمقراطية الأمريكية أصابها عطب يعوق تجديد النخبة السياسية في مستواها الرئاسي، وهذا أمر له صلة بالانقسام والاستقطاب العميق الذي أصاب المجتمع الأمريكي، والذي يظهر بالأساس في أوساط الأجيال الشابة، التي هجرت المواقع الوسطية المعتدلة التي شغلها آباؤهم، وتحركوا بعيدا في اتجاه اليسار واليمين. فالشبان الديمقراطيون، المتعلمين أبناء المدن، يتبنون أفكارا راديكالية حول توزيع الثروة، وحقوق المهاجرين والأقليات، والحريات الشخصية، وكراهية السلطة ورأس المال والشرطة، ومناصرة الحرية الفردية والعدالة الاجتماعية وحقوق المهاجرين والملونين والسكان الأصليين، ويتعاملون بروح نقدية حادة مع تاريخ بلادهم، وهو ما انعكس في حملة إزالة التماثيل والنصب التذكارية لقادة تاريخيين، ساهموا في بناء الولايات المتحدة، لأنهم كانوا من ملاك العبيد، أو لأن أفكارهم كان فيها تحيزا عرقيا بمعايير زماننا هذا، وإن كانت مقبولة وشائعة في وقتهم. على الجانب الآخر، نجد أن الشبان الجمهوريين، خاصة الريفيين والأقل تعليما، تحركوا إلى مواقف أكثر يمينية من آبائهم، فوجدناهم في طوائف إنجيلية متشددة، متمسكين بالتقاليد الاجتماعية والعقيدة الدينية، وبهوية وطنية يتداخل في تكوينها الثقافة والعرق، ورفض العولمة والهجرة، التي تهدد بتحويل العرق الأبيض إلى أقلية في أمريكا، ونجدهم وقد بنوا لأنفسهم فقاعات خاصة، يتشككون داخلها فيه فيما تنشره وسائل الإعلام الموصومة بموالاة الديمقراطيين، ويتداولون نظريات عن مؤامرات يحيكها أشرار غامضون يسعون للسيطرة على العالم، ويشعرون بالتهديد الاقتصادي والثقافي بسبب تدفق المهاجرين.
وفيما ينظرالجمهوريون الراديكاليون للديمقراطيين باعتبارهم اشتراكيين وشيوعيين؛ فإن الأخيرين بدورهم يعتبرون الجمهوريين عنصريين فاشيين، وبالقطع فإن التفاهم والتعايش والمصالحة والحلول الوسط تستحيل بين الفريقين. وفي مثل هذه الظروف تظهر الحاجة للسياسيين من الجيل الأقدم لتقديم تمثيل مقبول، قادر على التواصل مع الوسطيين المعتدلين، الذين يشعرون بالاغتراب بشكل متزايد وسط استقطابات السياسة الأمريكية، وهي الحاجة التي أفرزت صعود المرشح الديمقراطي جو بايدن للفوز بترشيح الحزب الديمقراطي.
لقد تسبب الاستقطاب المتزايد في تدهور الديمقراطية الأمريكية، وإلحاق الضرر بمكونات عدة ميزتها لعقود، وكان الإعلام الأمريكي من بين ضحايا هذا الاستقطاب. فقد تخلت وسائل إعلام أمريكية كبرى عن الموضوعية التي اشتهرت بها، وتحولت إلى لاعب سياسي منحاز. لقد تابعت الانتخابات الأمريكية عن قرب منذ عام 1992 عندما فاز بيل كلينتون بالرئاسة لأول مرة، وكانت متابعة تغطية وسائل الإعلام الأمريكية للانتخابات طوال الوقت خبرة تعليمية ملهمة، إلا هذه المرة التي أصبحت فيها قراءة الصحف الأمريكية عملية مملة، أشبه بقراءة منشورات الدعاية الانتخابية. الأكثر خطورة هو خروج منظرين يدافعون عن الإعلام المنحاز، وعن الإعلامي الذي هو للنشط السياسي أقرب، ولم تعد مثل هذه الحجج تأتينا فقط من مجتمعات نامية، أو من نظم تسيطر فيها الدولة على الإعلام، فهناك في أمريكا من اختار بإرادته أن يعبر المسافة الفاصلة بين المهنية والموضوعية من ناحية، والانحياز والالتزام السياسي من ناحية أخرى.
استطلاعات الرأي هي ضحية أخرى من ضحايا الاستقطاب السياسي في أمريكا. لقد طور الأمريكيون استطلاعات الرأي العام، وعلموا العالم كله كيفية استخدامها في دراسة العلوم الاجتماعية وبحوث السياسة والتسويق. وفي ظل الاستقطاب الراهن وجدنا مراكز استطلاع رأي أمريكية تخون الانضباط المنهجي، وتغرق في مستنقع التسييس، فبينما تنبأت الاستطلاعات الصادرة عن مراكز معينة بفوز المرشح الديمقراطي طوال الوقت، كانت الصورة مختلفة في الاستطلاعات الصادرة عن مراكز أخرى.
الخلاصة هي أن الديمقراطية الأمريكية في أزمة وتحتاج لحركة تصحيح وإصلاح، فهل سنشهد شيئا من هذا، أم أن التدهور واصل لنهاية الشوط.