في مشهد أمريكي شديد الاستقطاب والتجاذبات، اتجه المواطنون الأمريكيون إلى مراكز الاقتراع خلال يوم 3 نوفمبر ٢٠٢٠ لاختيار الرئيس لأربع سنوات قادمة. وبنظرة تحليلية للمشهد الانتخابي الحالي يتضح أنه يحمل -بقدر كبير- ملامح متمايزة عن أغلب –إن لم يكن كل- الانتخابات الماضية، ما جعلها –وفقًا لأغلب التحليلات- انتخابات استثنائية بامتياز، الأمر الذي يُثير تساؤلات بشأن فحوى هذه الملامح المتمايزة وتأثيراتها على مسار الانتخابات.
التصويت المبكر وترجيح الكفة الديمقراطية:
نظرًا لاتساع نطاق ووتيرة انتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، تعالت الدعوات بشأن اختيار طرق تصويت أكثر مرونة تراعي قواعد التباعد الاجتماعي، ما ساعد على التوسع في التصويت المبكر والتصويت البريدي من أجل تقليل التزاحم على مراكز الاقتراع أثناء التصويت الفعلي في 3 نوفمبر. بدأ التصويت المبكر في عدد من الولايات منذ شهر سبتمبر ٢٠٢٠، وشهد مشاركة غير مسبوقة، متجاوزة أعداد المصوتين في الاقتراع المبكر لانتخابات الرئاسة 2016 الذي وصل إلى 58 مليونًا، إذ إنه من بين 240 مليون أمريكي لهم حق التصويت هذا العام، أدلى ما يقرب من 100 مليون، إما بشكل شخصي أو عبر البريد.
وفي هذا السياق، أجرت 30 ولاية على الأقل تعديلات لتسهيل عملية الإدلاء بأصوات الغائبين وجعلها أكثر سهولة. تضمن ذلك، على سبيل المثال، تخفيف الشروط الصارمة للمواطنين الراغبين في الحصول على عذر لإجراء تصويت بريدي، أو الاعتداد بعذر التخوف من فيروس كورونا كسبب للتصويت البريدي؛ كما وضعت بعض الولايات صناديق الاقتراع المسقطة ballot drop boxes، بحيث لا يضطر الأشخاص للذهاب إلى مركز اقتراع مزدحم؛ في حين قامت ولايات أخرى، مثل كاليفورنيا وكولورادو، بإرسال أوراق الاقتراع البريدي بشكل استباقي لجميع الناخبين المؤهلين، في ممارسة تُعرف باسم “التصويت العام عبر البريد”؛ فضلًا عن قيام بعض الولايات بتقديم موعد بدء التصويت الشخصي، إذ قامت ولاية تكساس بتقديم موعد البدء ستة أيام، من 19 إلى 13 أكتوبر ٢٠٢٠.
وبشكل عام، اتجه التصويت المبكر للتزايد بشكل مطرد مع كل عام انتخابي، إذ يمثل عدد الأشخاص الذين صوتوا في وقت مبكر في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 أكثر من خمسة أضعاف عدد الذين صوّتوا في وقت مبكر في عام 1992. ولكن يمكن إرجاع أسباب التزايد الكبير في المشاركة في التصويت المبكر إلى تزايد حجم المشكلات التي تواجه الساحة الأمريكية وتداخلها، بداية من جائحة كورونا وتصدر الولايات المتحدة في أعداد الإصابات والوفيات، وكذا التداعيات الاقتصادية الضخمة للجائحة التي كشفت عن أزمة عنصرية متجذرة من حيث إمكانات العرقيات المختلفة وأوضاعهم المعيشية والصحية، إضافة إلى حادثة “فلويد” وما تبعها من احتجاجات مناهضة للعنصرية، وأخيرًا حالة الاستقطاب الشديدة التي تغلف العملية الانتخابية والتي تخفزها حملات كلا المرشحين. ويمكن إبراز ملامح عملية التصويت المبكر على النحو التالي:
تزايد إقبال الديمقراطيين مقارنة بالجمهوريين: وفق بعض التقديرات أدلى حوالي 52% من الديمقراطيين في التصويت المبكر مقابل ما يقرب من 26% من الجمهوريين، و21% من قبل أشخاص ليس لديهم انتماء حزبي، ويرتبط ذلك بما قاله “مايكل ماكدونالد” الأستاذ بجامعة فلوريدا، بأن ولاية كاليفورنيا –التي تميل بشكل واضح للديمقراطيين- جاءت كأكبر ولاية في التصويت المبكر بعدد يقترب من 12 مليون صوت.
تزايد مشاركة الشباب: خلال السباق الرئاسي في عام 2016، شارك أقل من نصف الشباب بين سن 18 و29 في الانتخابات الرئاسية. تتجه بعض التحليلات إلى التأكيد على تزايد مشاركة الشباب في عملية التصويت المبكر مقارنة بأغلب الانتخابات الماضية، ومن المتوقع أن تصل نسبة تصويت الشباب في الانتخابات الحالية إلى 63%، وفق استطلاع رأي أجرته جامعة “هارفارد”. وتعتبر بعض التحليلات أن أصوات الشباب ستتجه في معظمها إلى “بايدن”.
مشاركة ذوي الأصول الإفريقية: أدرك الديمقراطيون أن تراجع تأثير هذه الكتلة تسبب في هزيمة “هيلاري كلينتون” في انتخابات 2016، لذلك عملوا على تكثيف حشدهم لهذه الكتلة. ووفقًا لتحليل شركة البيانات TargetSmart، أدلى أكثر من ستة أضعاف عدد الناخبين السود بأصواتهم المبكرة بحلول 18 أكتوبر، مقارنة بانتخابات 2016، كما أظهرت بعض البيانات أن الناخبين السود خرجوا بأعداد كبيرة في ولايات رئيسية (مثل: جورجيا، ونورث كارولينا)، إذ إن 40% من بطاقات الاقتراع المرسلة بالبريد جاءت من هذه الكتلة مقارنة بانتخابات 2016 التي وصلت إلى 16%.
عملية التصويت بين التشكيك والعنف:
شهدت مراكز الاقتراع في الانتخابات الأمريكية في عدد من الولايات استعدادات مكثفة لانطلاق عملية التصويت في الانتخابات، والتي شهدت تزايدًا واضحًا في تصويت الجمهوريين مقارنة بعملية التصويت المبكر، بطريقة ساهمت في اتزان نسبي لكفة “ترامب”، الأمر الذي تعتبره بعض التحليلات مرتبطًا بالطبيعة المحافظة والسلوك التصويتي للجمهوريين الذين لا يميلون إلى التصويت المبكر ولا التصويت عبر البريد. وفي إطار هذا المشهد، غلفت عملية التصويت الفعلي ملامح قد تكون مختلفة –إلى حد ما– عن ملامح عملية التصويت المبكر، ويمكن توضيحها على النحو التالي:
تزايد أعمال العنف: تعالت التكنهات بشأن وقوع أعمال عنف، لا سيما بعدما أعلنت حركة QAnon، وجماعة The Oath Keepers المتطرفة اليمينية المتطرفة، أنهما قد تلجآن إلى العنف حال خسارة “ترامب” للانتخابات. علاوة على ذلك، أفادت صحيفة USA Today عبر موقعها الإلكتروني بخروج متظاهرين أمام البيت الأبيض وفي مدن أخرى طوال ليلة الانتخابات وصباح يوم الأربعاء، إذ سار العشرات في شوارع لوس أنجلوس، وتواجد 200 شخص أو أكثر في تظاهرة بنورث كارولينا، وبورتلاند، أوريجون. كما شهدت ولاية مينيسوتا أكثر من عشرة اعتقالات.
كما كشفت تقارير أخرى عن وقوع أعمال شغب فردية بين الناخبين المؤيدين لكلا المرشحين تم تفريقها من قبل الشرطة. وفي بورتلاند، شوهد البعض يحمل السلاح علانية، وكان الحرس الوطني على أهبة الاستعداد. علاوة على ذلك، يسعى منظمو حركة ShutDownDC لشن معركة طويلة الأمد “لتعطيل العمل ببعض المؤسسات التي يرونها متواطئة مع ترامب”. إضافة إلى دعوة منظمي مسيرة المرأة Women’s March إلى تنظيم مظاهرات في جميع أنحاء البلاد عشية الانتخابات، حسبما أفاد موقع Vox. وارتباطًا بذلك، اعتقلت الشرطة الأمريكية عشرات الأشخاص في كلٍّ من بورتلاند ونيويورك، بينما استدعت حاكمة ولاية أوريجون “كيت براون” الحرس الوطني للولاية لمواجهة “أعمال عنف واسعة النطاق”.
تضخم التشكيك في العملية الانتخابية: يمكن القول إن حملة التشكيك في العملية الانتخابية بدأت مبكرًا مع تأكيد “ترامب” مرارًا أن التصويت بالبريد سيفتح الباب أمام احتمالات أوسع للتزوير. وبما أن الجمهوريين يفضلون الذهاب إلى مراكز الاقتراع فإن أصواتهم سيتم فرزها أولًا بطريقة تُرجّح كفة “ترامب”، لذا اتجه “ترامب” إلى إعلان فوزه مع قرب الانتهاء من فرز أصوات مراكز الاقتراع للتشكيك في نتيجة فرز الأصوات المرسلة بالبريد، والتي تميل إلى حد كبير إلى المرشح الديمقراطي، كما أكد على ضرورة الذهاب إلى المحكمة العليا، كما ندد “ترامب” بظهور “بطاقات اقتراع مفاجئة” في الولايات التي كان يتصدر فيها على حساب “بايدن”.
أعلنت حملة “ترامب”، في 4 نوفمبر، أنها قدمت التماسًا قضائيًّا طلبت فيه إعادة فرز الأصوات في ولاية ويسكونسن، كما طالبت بوقف الفرز في ولايتي ميشيجان وبنسلفانيا. إذ أفاد مدير الحملة “بيل ستيبيين” بوقوع مخالفات في (عدة مناطق) من ويسكونسن، من شأنها إثارة شكوك جدية بشأن صحة النتائج”. وفيما يتعلق بويسكونسن، قال إنه لم يتسنَّ لفرق الحملة مراقبة عمليات الفرز في “عدد” من المناطق. وفي المقابل، ووفقًا لموقع قناة الحرة، ندد مراقبو منظمة الأمن والتعاون في أوروبا بـ”مزاعم لا أساس لها” يُطلقها “ترامب” بشأن العملية الانتخابية، معتبرة أن تصريحات “ترامب” في هذا الشأن تقوض ثقة الرأي العام بالعملية الانتخابية.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ خرجت تظاهرات مشككة في عملية التصويت، حيث تجمع حشد من أنصار “ترامب” خارج مركز انتخابي في ولاية أريزونا، مساء الأربعاء، بعد انتشار مزاعم بشأن تجاهل احتساب الأصوات التي تختار “ترامب”. كما تداول بعضُ رواد مواقع التواصل الاجتماعي في الولايات المتحدة ورقة اقتراع عبر البريد لشخص يُدعى “ويليام برادلي” في مدينة ديترويت بولاية ميتشجان، توفي عام 1984، ما يعزز الشكوك حول وجود أخطاء في عملية التصويت البريدي.
تعاظم حدة الاستقطاب: بشكل عام، يمكن اعتبار أن حالة الاستقطاب الجارية بدأت مع مستهل العام الجاري، واتسعت مع تزايد وتيرة فيروس كورونا، وازدادت مع تزايد التداعيات الاقتصادية للجائحة والتي عكست التفاوتات العنصرية بين مجتمعات البيض من جانب والسود والملونين من جانب آخر، وتأكدت مع حادثة مقتل “جورج فلويد” والاحتجاجات التي تبعتها، واحتدمت مع تسارع وتيرة السباق الرئاسي، وبلغت أشدها مع بداية التصويت الفعلي في 3 نوفمبر الجاري.
عطفًا على ما سبق، دشن الديمقراطيون حملة على مواقع التواصل الاجتماعي، تطالب باحتساب “كل صوت” بعد إعلان “ترامب” فوزه في الانتخابات، ومطالبته بوقف فرز الأصوات، لا سيما الأصوات التي تم إرسالها عبر البريد. وقال السيناتور الديمقراطي عن ولاية ديلاوير “كريس كونز” إن “الرئاسة ليست ملكًا لـــ”ترامب”، ولكنها ملك الشعب الأمريكي، لا تزال دولتنا ديمقراطية وسيتم احتساب كل بطاقة اقتراع، وسيسمع كل صوت”. وفي المقابل، تظاهر أنصار “ترامب” في ديترويت بولاية ميشيجان للمطالبة بوقف احتساب الأصوات في هذه الولاية الأساسية في السباق إلى البيت الأبيض.
وقبل ساعات من إعلان نتائج الانتخابات، ظهرت قنوات على موقع “يوتيوب” تبث نتائج مزيفة، وحظيت بمتابعة عشرات الآلاف من المشاهدين، ثم اتجه الموقع لحذف هذه القنوات. لذا، عملت بعض مواقع التواصل الاجتماعي الأخرى على التقليل من حدة الاستقطاب التي تتم عبرها، إذ قام موقع “تويتر” بوضع إشارات تنويهية على تغريدات لمسئولين ديمقراطيين في خضم الانتخابات، في مقدمتها تغريدة نشرها المسئول في الحزب الديمقراطي بولاية ويسكنسن “بين ويكلر” اعتبرها تحوي معلومات “متنازعًا عليها” أو “مضللة”. وكان تويتر قد وضع، الأربعاء، إشارة “مضللة” على تغريدة لـــــ”ترامب” يشكك فيها بعملية فرز الأصوات في الانتخابات الرئاسية في عدة ولايات رئيسية.
ختامًا، مع احتدام السباق الرئاسي، وتأزم المشهد الانتخابي، وتقارب نسب التصويت بين كلا المرشحين؛ يتضح أن إعلان نتيجة المرشح الفائز لن تكون بالعملية اليسيرة، إذ يبدو أن التنازع بشأن العملية الانتخابية وفي قلبها عمليتا التصويت والفرز، قد يعرقل العملية الانتخابية الجارية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه قبل موعد الانتخابات رُفعت إلى المحكمة العليا عدة شكاوى بشأن التصويت عبر البريد، ولم تقم المحكمة العليا بالبت فيها، لكن يبدو أنه في حال تقارب نتائج المرشحين، ستقوم المحكمة بالبت فيما إذا كان ينبغي احتساب البطاقات التي ترد بين يومي الأربعاء والجمعة من عدمه.
وفي هذا الإطار، وعلى الرغم من أهمية التصويت الشعبي، تجدر الإشارة إلى أن القول الفصل بشأن المرشح الفائز سيكون بيد “المجمع الانتخابي” الذي ساعد “ترامب” في 2016 على تجاوز تراجعه في التصويت الشعبي، ودفعه باتجاه البيت الأبيض. إلا أنه في حال تعذر حصول أي من المرشحين على 270 صوتًا من مندوبي “المجمع الانتخابي” فسيصبح قرار اختيار الرئيس ونائبه في يد الكونجرس، عبر قيام مجلس النواب باختيار الرئيس، وقيام مجلس الشيوخ باختيار نائب الرئيس، وحال تعذر هذا الاحتمال فسوف تتجه الولايات المتحدة إلى انتخابات جديدة.