لا أدري ماذا سوف يكون عليه حال الانتخابات الأمريكية عند نشر هذا المقال. في كافة التجارب التي عرفتها، فإن الأخبار والتعليقات والتحليلات في هذا التاريخ بعد انتهاء الانتخابات سوف تكون كلها حول الرئيس الجديد. وكما هي العادة، فإن شخصا سوف ينبهنا إلى أنه على الرئيس الأمريكي أن يعين ما يقرب من ٣ آلاف، وقيل أيضا ٥ آلاف موظف فيدرالي، بعضهم لابد من موافقة الكونجرس عليه، والبعض الآخر لا يستحقون هذا الشرط. الحالة تكون هي انسحاب وشحوب رئيس ذاهب إلى التاريخ يكتب له مذكراته، ويستعد لإلقاء محاضرات تكون مكافآتها تكفيه ليكون غنيا إلى الأبد. الرئيس الجديد نجم المرحلة، وزوجته تصبح فجأة من الشخصيات ذات الأهمية في هذا العصر. ولأسبوع على الأقل سوف ينصب الاهتمام الكامل للأمة الأمريكية، وإعلامها بالطبع، على يوم التنصيب، وحلف القسم على إنجيل يمسك به رئيس المحكمة الدستورية العليا. أيا من هذا كله ليس موجودا الآن، فقد فاز جو بايدن بمنصب الرئيس، ولكن منافسه دونالد ترامب لم يقم بالمكالمة الهاتفية الواجبة التي يهنئ بها الفائز ويتمنى له التوفيق، ولا دعا حلفاءه والقريبين منه في احتفال باهت يشكر فيه الجميع، مهنئا مرة أخرى للرئيس المنتخب، ومعلنا للجميع تصميمه على استمرار مسيرة الأفكار التي عبر عنها. لم يحدث أي من ذلك، وبديلا عنه فإن ترامب لا يزال على الموجة الرئاسية، فهو يطلق تغريداته بالسرعة المعروفة وفى التوقيتات المعلومة، وخشية نسيان أحد أنه لا يزال رئيسا، فإنه قام بإعفاء وزير الدفاع «مارك إسبار» من منصبه، لأنه تقاعس من قبل عن تنفيذ ما طلبه الرئيس بإنزال الجنود الأمريكيين لقمع المتظاهرين.
ما يشغل الصورة الأمريكية كلها عملية قضائية ممتدة يرفع الادعاء فيها محامون مدربون على التعامل مع الانتخابات، والبحث فيها عن ثغرات قانونية وعملية نتجت عن تعمد في رأيهم، أو أنها أخطاء بشرية كما هي العادة.
التقليد الأمريكي في هذا الشأن هو أنه طالما أن الفائز قد فاز بهامش يفوق أرقاما ما هو مختلف عليه، فإن المحاجاة في الأمر تصبح إضاعة لوقت ثمين. وعلى هذا الأساس، فإن إعلان فوز بايدن استند إلى هذه القاعدة بمجرد إعلان نتائج بنسلفانيا بعد فرز ٩٩٪ من الأصوات، ومعرفة العدد المتبقي الذي عليه تساؤلات، وكان للرئيس «المنتخب» ما يكفي من الفائض، وتلقى التهاني من رؤساء الدول. ولكن القانون في هذه الحالات ليس متطابقا مع التقاليد التي تسري فقط عندما يكون هناك توافق قومي على التقليد، وإنما توجد قاعدة أنه من حق كل مرشح أن يقدم دفوعا بفساد أصوات والمطالبة بإعادة تقديرها بين الصحة والبطلان، أو بوجود تزوير أو فساد فى العملية. استنادا إلى ذلك دفع ترامب بالمحامين إلى الولايات التي تفوق فيها خصمه لإقامة الدعاوى على كل الحالات المشكوك فيه، وسواء كانت تؤثر في نتيجة الانتخابات أم لا؛ وفى نفس الوقت يقوم الرئيس بإطلاق تغريداته بأنه أولا كسب الانتخابات؛ وثانيا أن هناك محاولة لسرقتها؛ وثالثا أن تزوير الانتخابات جزء هام من ثقافة الحزب الديمقراطي، كما ذكر ذلك منذ حملته الانتخابية عام ٢٠١٦ والتي رغم كل التزوير المزعوم فاز فيها.
المشهد هكذا فيه الكثير من العبث والعجب؛ ورغم أنه يبدو مفاجئا فإن المراجعة تقول إن ما يحدث تم الحديث عنه صراحة من قبل، وهى أن الرئيس عندما كان يقول دائما عن تزوير الانتخابات في الولايات المتحدة كعبة وقبلة العالم الديمقراطي، فإنه كان يحضر لهذه اللحظة مهما كان قد فاز بالانتخابات من قبل، بل إنه في هذه الانتخابات أيضا فاز في عدد كبير من الولايات، وأكثر من ذلك فإنه حصل على أكثر من ٧١ مليون صوت، بزيادة قدرها أكثر من ٨ ملايين صوت عما حصل عليه في الانتخابات الماضية. معضلة ترامب ربما أن منافسه جو بايدن الذي فشل من قبل مرتين في الحصول على ترشيح حزبه الديمقراطي فلم يعبر حتى المراحل التمهيدية، لكنه هذه المرة حصل على أكثر من ٧٦ مليون صوت وبفارق خمسة ملايين من الأصوات عن ترامب. المسألة هكذا كما يبدو عليه الحال عندما يحصل طالب مصري في الثانوية العامة على نسبة ٩٥٪ من الدرجات وهي نسبة تضعه فى أى مكان فى عداد العباقرة، لكنه مع ذلك يفشل في دخول كلية الطب، لأن منافسيه حققوا ما هو أكثر. ورغم أن ترامب لا يعرف شيئا عن نظام التعليم المصري، فإنه يمر بمثل هذه الحالة الفريدة وهو مصمم على إفساد الفرح الديمقراطي الأمريكي الذي حدثت فيه أعلى نسبة للمشاركة التصويتية في الانتخابات في التاريخ.
المفترض نظريا على الأقل أنه في ١٤ ديسمبر المقبل سوف ينعقد المجمع الانتخابي الممثل للولايات الأمريكية الخمسين التي ترسل شهادة الانتخابات التي جرت فيها تحديد الفائز والأصوات التي حصل عليها وكذلك منافسه. إذا لم يحدث ذلك نتيجة مهارة المحامين في التعامل مع النظام القضائي، فسوف تكون هناك أزمة قانونية ودستورية كبيرة في الولايات المتحدة. حتى هذا الموعد، فإن بايدن يبدو مصمما على المضي قدما في التصرف ليس باعتباره الرئيس المنتخب، وإنما الرئيس الذي فاز في الانتخابات، مستغلا خبرته في تكوين لجنة مكافحة كورونا ولجان مشابهة، واختيار فريق العمل الذي سوف يعمل معه. ترامب من البيت الأبيض سوف يمضي في طريقه كرئيس للدولة يطلق تغريداته ويعفى من يشاء ويعين من يرغب فيه. والأرجح أن الاتصالات الدولية للطرفين سوف تتقلص حتى يعرف العالم من الذي يحكم الولايات المتحدة. مصير الدولة الأمريكية كلها سيتوقف على ما تفعله السيدة «إيميلي ميرفى» العاملة في مكتب الخدمات العامة في البيت الأبيض، ووظيفتها هو القيام بمهمة تسمى «التحقق» وهذه هي أقرب كلمة عربية للمسمى باللغة الإنجليزية وهو Ascertainment، وهي تعنى التحقق من أن الرئيس بايدن قد نجح في الانتخابات الأمريكية بشهادة معترف بها ومختومة بختم النسر الأمريكي.
هل تصل الولايات المتحدة لهذه الحالة من الشلل الكامل فى تحديد من هو رئيس الدولة؟ ما لم يكن هناك حل ساعة قراءة هذا المقال، فإن معنى ذلك أن الحزب الجمهورى الذى قبل فكرة المراجعة القانونية للتصويت، لكنه لم يعلن ترامب فائزا، قد فشل فى الضغط على الرئيس لكى يعود إلى التقاليد المرعية أو حتى فى التوسط من أجل صفقة يخرج بها بالعفو الشامل عن اتهامات مقبلة. إذا لم يحدث ذلك فإن ترامب يكون فى طريقه إلى إنضاج مواجهة لم تعرفها الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الأهلية. عزيزى القارئ إذا وصلت عند هذه المرحلة من القراءة ولم تكن قد سمعت عن السيدة «إيميلى ميرفى» فمعنى ذلك أن الأزمة لا تزال مستمرة، وسوف يكون هناك مقال آخر عنها فى الأسبوع المقبل. أرجوك لا تشعر بالضجر!
ــــــــــــــــ
نقلا عن جريدة المصري اليوم، الثلاثاء ١٧ نوفمبر ٢٠٢٠.