تُجري القوات المسلحة المصرية في الفترة الحالية (نوفمبر 2020) العديدَ من الأنشطة العسكرية المكثفة على مسارح مختلفة في نطاق الدائرة الإقليمية، جنوبًا مع السودان، حيث أجرت تدريبًا عسكريًا مشتركًا مع القوات الجوية السودانية، وتدريبًا بحريًا مع بريطانيا T-1 في النطاق الشمالي، كما أجرت تدريبات عابرة في المتوسط مع فرنسا والبحرين، كما تستضيف تدريب “سيف العرب” بالمشاركة مع 5 دول إقليمية في قاعدة “محمد نجيب العسكرية” ومناطق التدريبات الجوية والبحرية بالمنطقة الشمالية العسكرية، علاوة على التدريب المصري-الروسي المشترك (جسر الصداقة – 3) في “نوفوروسيسك” المطلة على البحر الأسود. وتعكس هذه المناورات منظورًا جديدًا للسياسات العسكرية المصرية، إذ تؤسس لمرحلة جديدة ذات طابع استراتيجي متقدم، كما تعكس اتجاهًا لإعادة تعريف التصور التقليدي لدوائر الأمن القومي المصري إلى ما يعرف بالمجال الحيوي، كمساحة جيوسياسية أوسع للدفاع عن المصالح الاستراتيجية المصرية التي تتجاوز حدود الدوائر التقليدية. كما يعزز المصالح المشتركة مع القوى العالمية والإقليمية.
الانخراط المحسوب
الملاحظة الرئيسية -في هذا السياق- هي أن الجيش المصري على مدى السنوات الأخيرة قد قام بأكبر عدد من الأنشطة العسكرية في المنطقة، في حين أنه أقل الجيوش انخراطًا عسكريًا خارج حدوده، وأرسى بذلك معادلة استراتيجية مفادها القدرة على التأثير من خلال الاحتفاظ بأعلى مستوى من قدرات الردع الممكن دون الانخراط العسكري في إقليم مشتعل يتصدر قائمة الإقليم التي تشهد أعلى مستوى من الصراعات وأعقدها في العالم. في المقابل، اتجهت أغلب القوى الإقليمية لعسكرة سياساتها الخارجية. وهو ما يعكس العديد من الدلالات من أهمها “الدور الرشيد” للمؤسسة العسكرية المصرية في الاشتباك مع قضايا الأمن الإقليمي، كمبدأ تضمنه خطاب الرئيس “عبدالفتاح السيسي” القائد الأعلى للقوات المسلحة في المنطقة الغربية (20 – يونيو 2020) والذي يعكس بدوره أيضًا أحد محددات العقيدة العسكرية المصرية الراسخة.
وهناك دلالة أخرى تتعلق بالحسابات الكمية؛ حيث تعد كثافة هذه التمرينات وتزامن أغلبها مؤشرًا آخر على القدرات العسكرية المصرية الشاملة، حيث تتضمن مشاركة متنوعة على مستوى الأسلحة المختلفة البرية والجوية والبحرية. ومن المعروف أن برامج التدريب والمناورات في الغالب يتم الإعداد لها سلفًا في إطار الخطة الاستراتيجية السنوية للقوات المسلحة، وأيضًا بالتنسيق مع الأطراف المشاركة حتى يتسنى لها الاستعداد للمشاركة في برامج تلك التدريبات. لكن الأهم من ذلك هو الحسابات النوعية وفق أكثر من مؤشر، منها على سبيل المثال:
- تعدد مسارح التدريبات العسكرية: في النطاق الشمالي بالبحر المتوسط حيث تجري العديد من التدريبات العسكرية في قاعدة “محمد نجيب العسكرية”، وفي مسارح خارجية تشهد تمرينات هي الأولى من نوعها، في السودان حيث أجريت مناورة نسور النيل – 1، وأيضًا في نطاق البحر الأسود، وهو ما يعكس منظورًا جديدًا لطبيعة وأهداف هذه التدريبات، ففضلًا عن تعزيز الشراكات مع القوى المشاركة، وتوحيد المفاهيم العسكرية، وصقل المهارات لإدارة المهام المشتركة بالدقة المطلوبة وفي التوقيتات المحددة، ومع تعدد التمارين البحرية؛ هناك مؤشر يعكس اختلاف طبيعة وبرامج تلك التدريبات باختلاف مسارح العمليات، فالتدريب المصري–البريطاني في المتوسط يختلف عن نظيره في البحر الأسود، رغم أن كلًّا منهما يجري في مسارح عمليات بحرية. والعبور من مسرح إلى آخر كما في التمرينات المصرية الروسية، حيث أبحرت التشكيلات من مسرح عمليات البحر المتوسط، وعبرت مضيق الدردنيل والبوسفور استعدادًا لتنفيذ التدريب المشترك مع البحرية الروسية.
- الانخراط المتعدد والمجال الحيوي: هناك عائد استراتيجي يتمثل في التعامل مع أنماط مختلفة من التهديدات والمخاطر المحتملة، وأغلبها تهديدات ومخاطر غير تقليدية في ظل حالة الفوضى الأمنية التي يشهدها الإقليم. ففي واقع الأمر، لم تعد التهديدات والمخاطر تقتصر على دول الجوار المباشرة أو دول الجوار الإقليمي، بل تجاوزت ذلك إلى جوار الجوار، وربما أبعد. فعلى سبيل المثال، تصدر الحرب الجارية في اليمن تهديدات إلى بحر العرب والبحر الأحمر، وبالتبعية هي منطقة اتصال أيضًا مع القرن الإفريقي، وهي مناطق حيوية بالنسبة للمصالح المصرية، ومصالح شركائها وحلفائها. كذلك فإن معظم هذه المسارح قيد الترتيبات الأمنية، لا سيما مسرح شرق المتوسط في ضوء الاكتشافات الهائلة للغاز، والتي تقدم منظورًا جديدًا للمصالح الاقتصادية في أعالي البحار، بالإضافة إلى تنامي التهديدات التي ظهرت في الفترة الأخيرة في شرق المتوسط في إطار المواقف التركية التي تسعى إلى فرض مواقف وسلوكيات غير مشروعة تتصدى لها القوى الأوروبية. ومنها العملية “إيريني” التي تشارك فيها فرنسا بقوة، وتجري فرنسا بشكل دوري تمرينات عسكرية عابرة مع الجانب المصري (أجرى الجانبان تمرينًا عابرًا في 3 نوفمبر وآخر في 17 نوفمبر).
- تدريبات عسكرية متقدمة: بالنظر لطبيعة وأهداف برامج التدريب يمكن القول إن الأنشطة العسكرية المصرية الحالية تشكل قفزة نوعية في مجال التدريبات المشتركة، للتعامل مع تهديدات ومخاطر غير تقليدية وطارئة، وعلى مسافات بعيدة، فالتدريب المصري-البريطاني تضمن عمليات مكافحة التهديدات البحرية والأمن البحري، وشهد تنفيذ تشكيلات الإبحار المختلفة وتنفيذ تدريب متميز لتبادل وسائط الإبرار البحري، كما اشتمل التدريب أيضًا على تنفيذ تدريب لحماية السفن التي تحمل شحنات هامة وتأمينها مع التدريب على عمليات الاعتراض البحري طبقًا للمواثيق والقوانين الدولية، وتنفيذ تدريب للدفاع الجوي لمواجهة التهديدات الجوية وتأمين الوحدات البحرية في نطاق عملها. فيما يتضمن التدريب الروسي بحسب إدارة المعلومات لأسطول البحر الأسود ممارسة جميع أنواع الحماية والدفاع للسفن، مع تنفيذ إطلاق النار على الأهداف السطحية والجوية، كما تشمل تدريبات لإعادة الإمداد في البحر، وتفتيش السفن المشبوهة، وتقديم المساعدة لسفينة تعرضت للغرق ومحاولات الإنقاذ.
- سوابق جديدة: يمكن القول إن التمرينات الرئيسية هي النسخة الأولى من نوعها، حيث تتم للمرة الأولى (T- 1 مع الجانب البريطاني، جسر الصداقة مع روسيا في نسختها البحرية الأولى، والتدريب الجوي الأول مع السودان في قاعدة مروي، ومناورة سيف العرب – 1 في قاعدة محمد نجيب)، وبالتالي تشكل قيمة مضافة للقدرات والخبرات المصرية وتعزيز العلاقات المشتركة مع الأطراف التي تجري معها تلك المناورات، حتى وإن كانت العلاقات مع هذه الدول تاريخية، مثل روسيا والسودان، لكن تطويرها في هذا الاتجاه يعكس مدى قوة هذه العلاقات وتقييم الأطراف لضرورة التعاون المشترك للتعامل مع المخاطر والتهديدات المحتملة.
مقاربة الاستراتيجية العسكرية المصرية
وترسم خلاصة هذه الدلالات مقاربة الاستراتيجية المصرية وحساباتها متعددة الأبعاد في ضوء الأنشطة العسكرية المختلفة، ومنها على سبيل المثال:
- الانخراط المحسوب: تعتمد مصر بشكل عام استراتيجية الردع القابلة للتطوير في مواجهة التهديدات والمخاطر في ضوء حسابات أمنها القومي، ووفق عقيدتها العسكرية غير القابلة للتغير. فمصر لم تغامر بالانخراط العسكري في الصراعات الإقليمية المفتوحة، على عكس القوى الإقليمية التي تعتمد استراتيجية “عسكرة السياسة الخارجية”، وهي استراتيجية مكلفة بحسابات التكلفة والعائد. ويعكس هذا البعد أيضًا اتساقًا بين الخطاب السياسي الهادف إلى الاستقرار الإقليمي ووقف التدخلات الخارجية في الصراعات والنزاعات، والاستراتيجية العسكرية التي تتجنب الانخراط المباشر في تلك الصراعات. ولا ينفي هذا السياق أيضًا القدرة على الاشتباك مع تداعيات هذه الصراعات لتقويض انعكاساتها على المجال المصري. ففي الأخير، هناك حد فاصل بين الدفاع والهجوم، يتطلب أحيانًا تطوير الموقف الدفاعي إلى هجومي. ولكن حتى الآن تلبي فاعلية الردع الأهداف الاستراتيجية المطلوبة، وهو ما يمكن تلمّسه من التجربة المصرية تجاه الأزمة الليبية، فمجرد الإنذار المصري دون أي تحرك عسكري أعاد ضبط الأوضاع على الساحة هناك.
- إعادة حسابات القوى المناوئة: كأحد الأهداف المباشرة لاستراتيجية الردع، فمن جانب آخر، تحمل الأنشطة العسكرية الكثيفة والمتعددة رسائل متعددة تجاه القوى المناوئة، فهذه المناورات والتدريبات تُطلق ضوءًا أحمر في مواجهة القوى المعادية في الاتجاهات المختلفة تجعلها تعيد حساباتها تجاه مصر. وهو سياق مفهوم من خريطة مسارح العمليات ونمط الآليات والتشكيلات المشاركة في التدريبات، مع الوضع في الاعتبار كما سلفت الإشارة أن التدريبات التي تجري في المرحلة الحالية هي الأولى من نوعها، وبالتالي هناك مدرك مصري لخريطة تطور وتنامي المخاطر والتهديدات في محيط المجال الحيوي تتطلب الاستعداد لها بشكل استباقي، وهي أحد وظائف المناورات العسكرية الكثيفة، فهي ليست مجرد أرقام أو استعراضات عسكرية.
- القيمة المضافة للثقل الإقليمي والدولي: بالحسابات العسكرية تعكس التصنيفات الدولية المختلفة مدى تقدم القوات المسلحة المصرية، وهي حسابات خاصة بالميزان العسكري وفقًا لما تحوزه الدولة من إمكانيات عسكرية ولوجستية، لكن هذه الحسابات لا تعكس بمفردها الثقل والوزن النوعي للدولة، فهناك بعد آخر يتعلق بالقدرة على توظيف هذه الأدوات بشكل جيد. فهناك توظيف يضع الأداة العسكرية كقيمة مضافة للأداة الدبلوماسية في نسج علاقات متميزة بين الدول، والعكس صحيح، حيث يشكل توظيفها السلبي ارتدادات على الدبلوماسية، بل يمكن القول إنها تعكس أعلى درجات التميز في العلاقات مع الأطراف الإقليمية والدولية الهامة، بالنظر إلى عدد الدول الإقليمية التي تشارك مصر الأنشطة العسكرية الجارية.
باختصار، يمكن القول إن الأنشطة العسكرية المصرية الجارية هي أحد تجليات السياسة المصرية بشكل عام، جانب منها يعكس أهمية الاستثمار في المؤسسة العسكرية من تحديث في الإمكانيات وتطوير في الكفاءة في ظل الظروف الإقليمية والدولية الراهنة وما تشهده من تحديات هائلة ومتصاعدة تتطلب تخطيطًا استراتيجيًا متقدمًا، وبالتبعية تشكل ضمانة أساسية للحفاظ مقدرات الدولة ومصالحها الحيوية.