يعتبر التقدم التكنولوجي من المحركات الأساسية للنمو الاقتصادي، فمع افتراض عدم التغير في رأس المال وفي حجم العمالة، يؤدي التقدم التكنولوجي -عبر إيجاد معارف جديدة، أو ابتكار تقنية جديدة، أو صنع منتج جديد، أو تحسين منتج حالي- إلى زيادة القدرة على الإنتاج (زيادة الإنتاجية) باستخدام الحجم نفسه من رأس المال والعمالة، أي باستخدام الحجم نفسه من المدخلات. ولكن يؤثر التغير التكنولوجي على سوق العمل عبر إلغائه للوظائف في مجالات وإنشائه وظائف في مجالات أخرى، مما يؤدي إلى التأثير الثاني للتغير التكنولوجي، وهو تغيير المهارات المطلوبة من قبل أصحاب الأعمال.
أولًا: أثر التغير التكنولوجي على العمالة
وفقًا لسلسلة الأوراق التحليلية رقم (1) بعنوان “التغيرات التكنولوجية والعمل في المستقبل: التكنولوجيا لمصلحة الجميع” المقدمة من منظمة العمل الدولية في 2016 ضمن المبادرة المئوية حول مستقبل العمل، فإن التغيرات التكنولوجية تؤدي في البداية إلى زيادة الكفاءة من خلال توفير اليد العاملة -وبالتالي فقدان الوظائف- ثم تؤدي إلى خلق وظائف جديدة. ولكن عادة ما تكون وتيرة فقدان الوظائف أسرع من تلك المتعلقة بإيجاد وظائف لأولئك الذين فقدوا وظائفهم.
وفي الواقع هناك وجهتا نظر بشأن تأثير التغير التكنولوجي على العمالة. فمن ناحية، تحاول الشركات تبني التكنولوجيا المتعلقة بالأتمتة والتي تزيد من كفاءة الأعمال، وتقلل التكلفة الإنتاجية من خلال تقليل اليد العاملة. ومن ناحية أخرى، يرى العديد من الاقتصاديين أنه على الرغم من التأثير الأولي لانخفاض العمالة؛ إلا أن هذا الانخفاض في التكلفة يسمح لأصحاب الأعمال بتوسيع أعمالهم، مما سيوفر فرص عمل جديدة. كما أن توسع مجال التكنولوجيا بحد ذاته يوفر فرص عمل في هذا المجال، ولكن بمهارات مختلفة عن تلك التي لدى الموظفين الحاليين، وخصوصًا أولئك الذين فقدوا وظائفهم. إضافةً إلى ذلك، يساهم التطور التكنولوجي في زيادة القدرة على ابتكار منتجات جديدة مثلما ساهم الإنترنت في خلق أسلوب جديد للأعمال التجارية. علاوة على ذلك، أدى التطور التكنولوجي إلى انخفاض ساعات العمل، وهذا من شأنه أن يزيد ساعات الترفيه، مما سيؤدي إلى توسع قطاعات مثل السياحة والثقافة والترفيه والقطاع الرياضي.
جدير بالذكر أن التطور التكنولوجي أدى إلى انخفاض الفارق في العمالة بين النساء والرجال مع تراجع معدل العمالة إلى السكان بالنسبة إلى الرجال وزيادته بالنسبة إلى السيدات في بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي “OECD Countries” -والتي تعد هي الدول التي تتمتع بتكنولوجيا عالية وأيضًا سرعة تغير عالية في التكنولوجيا المتواجدة- بسبب تحول الاقتصاد من الصناعات التي يسيطر عليها الرجال إلى قطاع الخدمات. كما أنه وفقًا لتقرير “التكنولوجيا من أجل التنمية المستدامة: استحداث فرص العمل اللائق وتمكين الشباب في البلدان العربية” المقدم من اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في يونيو 2018، فإن التطور التكنولوجي سيساهم في زيادة التوظيف بين الشباب، حيث إن الشباب يعد الفئة الأكثر مرونة للتغيرات في المهن والمهارات المطلوبة في سوق العمل.
ثانيًا: أثر التغير التكنولوجي على العمالة في المستقبل
وفي محاولة لمعرفة أثر التغير التكنولوجي على العمالة في المستقبل، قام المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره لمستقبل الوظائف في أكتوبر 2020 (الطبعة الثالثة) الذي يتم تقديمه كل عامين بعرض تنبؤات تطور سوق العمل في الفترة من 2020 وحتى 2025. ويعتمد التقرير على مسح من قبل 291 شركة عالمية من 15 مجموعة صناعية و26 دولة من البلدان المتقدمة والناشئة الذين يمثلون 80% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و7.7 ملايين موظف حول العالم. إضافة إلى ذلك، فإن 65% من المستجيبين يتكونون من شركات متعددة الجنسيات و35% من شركات محلية كبيرة (من حيث الإيرادات أو الحجم). وتتكون ردود المستجيبين من الرؤساء التنفيذيين (12%)، وكبار المديرين التنفيذيين (59%)، والمدراء التنفيذيين من المستوى المتوسط (25%)، والمستشارين (3%).
وفقًا للتقرير، فإن الحوسبة السحابية (حوالي 90% من إجمالي المستجيبين) والبيانات الضخمة (حوالي 87%) والتجارة الإلكترونية (حوالي 84%) والتشفير (حوالي 83%) كانت أكثر الأساليب التكنولوجية التي أكدت الشركات سعيها لتبنيها في 2025 من خلال سياساتها الحالية، ولكن يعكس الاهتمام بالتشفير أوجه الضعف في الرقمنة. إضافة إلى ذلك، كانت هناك زيادة كبيرة في الشركات التي تتوقع الاعتماد على الروبوتات والذكاء الاصطناعي، حيث ارتفعت نسبة الشركات التي تتوقع تبني هذا النوع من التكنولوجيا في 2025 بـ10% عن 2018 لتصل إلى حوالي 63% من حوالي 53%.
أما بالنسبة للقوى العاملة، فإن 43.2% من المستجيبين يعتقدون أن التكامل التكنولوجي أو الأتمتة ستؤدي إلى تقليل القوى العاملة الحالية، بينما 34.5% يعتقدون أنها تساهم في توسع القوى العاملة الحالية. كما أنه بحلول عام 2025، يتوقع أصحاب الأعمال أن تنخفض الأدوار الزائدة عن الحاجة بنسبة 6.4% من 15.4% من القوة العاملة إلى 9%، وأن تنمو المهن الناشئة بـ13.5% من 7.8% من إجمالي العاملين في الشركات. بناء على هذه النسب، يتوقع المنتدى الاقتصادي العالمي في تقريره أن يؤدي التغير التكنولوجي واستبدال اليد العاملة بالآلات إلى فقدان 85 مليون وظيفة بحلول عام 2025، بينما يتوقع أن يؤدي هذا التغير التكنولوجي إلى إنشاء 97 مليون وظيفة أكثر تكيفًا مع الوضع الجديد.
ومن أهم المهن الناشئة التي يزداد الطلب عليها من قبل أصحاب الأعمال في جميع المجاميع الصناعية، تأتي مهن مثل محللي وعلماء البيانات، ومتخصصي الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، ومهندسي الروبوتات، ومطوري البرامج والتطبيقات، ومتخصصي التحول الرقمي؛ مع ظهور وظائف مثل أخصائي أتمتة العمليات ومحلل أمن المعلومات. وعلى صعيد آخر، سينخفض الطلب على وظائف أخرى مثل كتبة إدخال البيانات، والسكرتير الإداري والتنفيذي، وكتبة المحاسبة ومسك الدفاتر والرواتب، والمحاسبين والمراجعين، وعمال التجميع وعمال المصانع. يعكس هذا التغير في الطلب على الوظائف زيادة أهمية أدوار تحليل البيانات والذكاء الاصطناعي (الاقتصاد الأخضر)، وأيضًا في المهن المتعلقة بقطاع الرعاية مثل التسويق والمبيعات. ويؤدي هذا التغيير في أهمية المهن إلى تغير في المهارات المطلوبة. فبحلول عام 2025، من المتوقع أن تكون أهم المهارات مهارات ناعمة مثل: التفكير التحليلي والابتكار، والقدرة على التعلم النشط، والقدرة على حل المشكلات، والتفكير النقدي والتحليلي، والإبداع والأصالة. في حين أن في 2019 كانت أهم المهارات في الغالب مهارات صعبة مثل: برمجة بايثون والخوارزميات.
جدير بالذكر أن أحد أهم العوائق المتصورة أمام تبني التقنيات الجديدة من قبل الشركات كانت الفجوة في المهارات في سوق العمل المحلي (بإجمالي 55.4% من المستجيبين)، وعدم القدرة على جذب المواهب المتخصصة (46.7%)، والفجوة في المهارات بين قادة الشركات (41.4%). يدل هذا على أن الفجوة في المهارات في سوق العمل وبين القادة تتأثر وتؤثر في التغيرات التكنولوجية. تؤدي هذه الفجوة في عدم القدرة على التطوير التكنولوجي بسبب قلة الخبرة والمهارة ويؤدي التطوير التكنولوجي إلى زيادة هذه الفجوة بسبب اختلاف المهارات المطلوبة.
بشكل عام، تتقلص فترات تأخر تبني التكنولوجيا مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى التغير السريع في المهن المطلوبة وبالتالي المهارات المطلوبة، مما يؤدي إلى فقد الوظائف على المدى القصير ولكن زيادة خلق فرص العمل على المدى الطويل. ولكن حتى وإن كانت فرص العمل الناتجة أكبر من فرص العمل المفقودة، فإن ذلك لا يعني قدرة كل من فقد وظيفته على إيجاد وظيفة أخرى، وهذا بسبب عدم قدرة الجميع على اكتساب المهارات المطلوبة. ولكن هناك أيضًا رابحون من التغيرات التكنولوجية وهم أصحاب المهارات العالية (المهارات الصعبة حاليًا والمهارات الناعمة في المستقبل). ويمكن أن تساهم الدولة في تقليل الفجوة بين المهارات المطلوبة من قبل أصحاب الأعمال والمهارات المكتسبة من قبل العمال من خلال توفير تأمينات بطالة أقوى لفترة مؤقتة حتى تتيح للأشخاص داخل القوى العاملة الفرصة لتنمية مهاراتهم حسب احتياجات السوق. وأيضًا من خلال زيادة الإنفاق العام على التعليم أو توفير منح تعليمية وفرص للتدريب للأشخاص خلال فترة حياتهم العملية.