تُعد مشكلة تآكل الطبقة المتوسطة من بين أعقد التحديات التي تواجه الدول النامية والدول المتقدمة على حد سواء، والتي امتد نطاقها إلى الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها وإلى الغالبية العظمى من دول الاتحاد الأوروبي، إذ كانت تلك القضية من بين أهم ما تم التطرق إليه في إطار اجتماعات المنتدى الاقتصادي العالمي الذي انعقدت في إطاره ندوة شاركت فيها “كريستين لاجارد” المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي آنذاك، ووزير الاقتصاد الإيطالي “كارلو بادوان”، والاقتصادي الأمريكي “لاري سامرز”، فضلًا عن مجموعة من الاقتصاديين بوكالة بلومبرج. ووضح من خلال المناقشات أن مشكلة تآكل الطبقة المتوسطة تتصل اتصالًا مباشرًا بقضية عدم المساواة (Inequality) التي ترجع إلى عدم عدالة توزيع الثروة، واتساع الفجوة في مستويات الدخل، وتباطؤ معدلات النمو، وارتفاع مستويات البطالة بين الشباب، وعدم كفاية شبكات الحماية الاجتماعية، حيث ذكرت “لاجارد” أن تركز “الثروة” في يد نسبة ضئيلة من السكان في العديد من الدول المتقدمة يخلق حالة من عدم المساواة التي يتعين معالجتها من خلال تطبيق السياسات التي من شأنها أن تساعد على تحقيق العدالة الاقتصادية. ومن جانبه، أكد وزير الاقتصاد الإيطالي أن الاتحاد الأوروبي يبدو وكأنه لا يملك الوسائل الكافية لمواجهة هذا التحدي الذي في حالة استمراره فإنه سيؤثر سلبًا في توازنات القوى السياسية الداخلية في العديد من الدول الأوروبية. في حين أكد “سامرز” أنه لا يمكن اختزال أسباب تآكل الطبقة المتوسطة في الولايات المتحدة الأمريكية أو في غيرها من اقتصاديات الدول المتقدمة في مجرد التداعيات الناجمة عن العولمة، إذ ترجع الأسباب الرئيسية لتلك المشكلة إلى تعثر السياسات الاقتصادية المطبقة في تحقيق التجانس الداخلي، خاصة وأن معالجة ما وصفه بـ”الانقسام الاجتماعي” يجب أن يستأثر بأهمية قصوى من قبل الدوائر السياسية والاقتصادية في مختلف الدول المتقدمة والنامية.
ومنذ عدة سنوات بدأت العديد من المنظمات والتجمعات ومراكز الأبحاث الاقتصادية المرموقة في وضع قضية عدم المساواة ومشكلة تآكل الطبقة المتوسطة (Middle-Class Crisis) على قائمة أولوياتها، وذلك في إطار التحرك نحو محاولة التوصل إلى حلول متكاملة لمعالجتها بعد أن بدا واضحًا أن تعثر بعض السياسات الاقتصادية في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي، وفي تعزيز الديمقراطية الليبرالية؛ قد وصل إلى حدود دفعت ببعض الدوائر المتخصصة إلى الدعوة لإعادة النظر في الرأسمالية المطبقة بما يضمن تحقيق العدالة الاجتماعية في ظل تصاعد القلق من تزايد “تركز الثروة” في نسبة ضئيلة من السكان التي أصبحت -في بضع حالات- تشكل “الصفوة” التي لا تدرك خطورة التحديات التي تواجه الغالبية العظمى من المجتمع، وهو الأمر الذي تناوله بقدر من التفصيل “جوزيف ستيجليتز” الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد في كتاباته التي أكد فيها ضرورة اتخاذ كل ما من شأنه أن يساعد في تحقيق العدالة الاقتصادية بما في ذلك احتواء التداعيات السلبية للعولمة التي تعرقل تحقيق التجانس الاجتماعي الذي أصبح يواجه تحديات غير مسبوقة في العديد من الدول المتقدمة، خاصة وأن هناك عيوبًا في تطبيقات النظم الرأسمالية القائمة بعد أن ثبت أنها لا تعمل من أجل تحقيق الطموحات الإنسانية المشروعة للغالبية العظمى من مكونات المجتمعات، وأن هناك حاجة ملحة لتعديل السياسات المطبقة.
واتصالًا بذلك، أوضح أحدث التقارير الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أن فجوة الثروة ومعدلات عدم المساواة تشهد تزايدًا مطردًا، وهي التي تؤدي إلى فرض مجموعة من الضغوط على الطبقات المتوسطة في الغالبية العظمى من الدول، الأمر الذي يتطلب العمل على مواجهة الموقف بالسرعة والجدية الواجبة، فنسبة البطالة بين الشباب في دول الاتحاد الأوروبي تتراوح بين ٤٠٪ في اليونان، و٣١٪ في إسبانيا، و٣٠٪ في إيطاليا، و٢٠٪ في فرنسا، و٥٪ في ألمانيا. كما أن نسبة المديونية مقابل الناتج المحلي الإجمالي تتراوح بين ١٨٠٪ بالنسبة لليونان، و١٣٠٪ بالنسبة لإيطاليا، و١٠٠ ٪ بالنسبة لفرنسا، و٩٠٪ لبريطانيا. يضاف إلى ذلك أن نسبة الفقر بالنسبة لإجمالي عدد السكان تتراوح -وفقًا لوكالة بلومبرج- بين ١٧,٨٪ في الولايات المتحدة الأمريكية، و١٥,٧٪ في اليابان، و١٢,٤٪ في كندا، و١١٪ في بريطانيا، و١٠٪ في ألمانيا.
ومع التقدّم العلمي والتكنولوجي الهائل الذي تُجسدّه الثورة الصناعية الرابعة، والتوسع في استخدامات الذكاء الاصطناعي؛ بدأت العديد من الدوائر السياسية والاقتصادية ذات الثقل، في إطار تناولها للآثار الإيجابية لتلك التطورات، في الإشارة إلى إمكانية إسهامها في إحداث نقلة نوعية في جودة الحياة، وفي اختراقات لعلاج الأمراض المستعصية، إلا أنّها -في الوقت ذاته- حذّرت من الانعكاسات السلبية المحتملة لتلك التطورات، والتي يدخل في إطارها تعزيز تركز الثروة، وتوسيع نطاق عدم المساواة، وزيادة الانقسام الاجتماعي، والإسراع من وتيرة تآكل الطبقة المتوسطة، فضلًا عن تأثيراتها على معدلات البطالة وعلى التغيرات التي ستلحق بطبيعة الوظائف بعد أن تزايدت احتمالات أن تحل الحاسبات الآلية فائقة التطور والروبوتات محل الإنسان في العديد من المجالات، وهي أمور تتطلب نظرة علمية جديدة للتنمية البشرية ولكيفية تطوير التعليم والتدريب، فما كان مقبولًا في الماضي لم يعد كافيًا في عالم الْيَوْم والغد، لذا فالاهتمام يجب أن يركز على تنمية المهارات التي تؤهل للالتحاق بسوق العمل الذي ستتغير هياكله ومدخلاته بالاعتماد على المعارف والتخصصات فائقة التطور التي قد لا توفرها نظم التعليم التقليدية حتى تلك المطبّقة في العديد من الدول المتقدمة، خاصةً في المجالات التي أصبحت تستأثر بأهمية ومكانة متطورة وأهمية متزايدة في إطار تطوير ثقل الدول وتعزيز تنافسيتها وتدعيم إنتاجية مجتمعاتها.
لذا، يخطئ من يتصور أن العديد من المشكلات الاقتصادية التي تواجه مجتمعاتنا ليس لها وجود في الدول المتقدمة، إذ لا يعد ذلك سليمًا أو دقيقًا، فتآكل الطبقة المتوسطة وعدم عدالة توزيع الثروة والدخل تعد مشكلة عالمية رغم أن تداعياتها تبدو أكثر وضوحًا وعمقًا في الدول النامية مقارنة بالدول المتقدمه، فالانقسام الاجتماعي يُعتبر من بين أخطر ما تُحذر منه العديد من الدوائر السياسية والاقتصادية، خاصه وأن اتساع نطاقه له تداعياته الخطيرة على الأمن والاستقرار في العديد من الدول. وتُعد أزمة “السترات الصفراء” في فرنسا، وتزايد ثقل التيارات اليمينية والشعبوية في أوروبا وتداعياته المحتملة على الديمقراطية الليبرالية؛ من بين أبرز نتائجه، وهو ما يتزامن مع ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب، ودخول العديد من اقتصاديات الدول المتقدمة في مراحل من التباطؤ والركود.
والمتابع للتطورات التي تشهدها العلاقات الدولية على تنوع مجالاتها عليه أن يلاحظ أن العالم يمر بمرحلة انتقالية هائلة، سواء نتيجة لتحدي الكورونا أو لغيرها من العوامل، فبالإضافة إلى الصعوبات الهائلة التي تواجه الدول النامية والتي من بينها أن ثلثي من يعانون من الجوع على مستوى العالم يعيشون في عدد محدود من الدول (منها: بنجلاديش، والكونغو، وإثيوبيا، والهند، وإندونيسيا، وباكستان)؛ تشهد بعض الدول المتقدمة تراجعًا في مكانة الأحزاب السياسية التقليدية، وتآكلًا في الديمقراطية الليبرالية، فضلًا عن تحديات اقتصادية وبيئية كبيرة تدفع العديد من الدوائر إلى المطالبة بإعادة النظر في العولمة وفي السياسات الرأسمالية وتطبيقاتها القائمة بما يسمح بالتركيز على تحقيق العدالة الاجتماعية، ومعالجة عدم المساواة في الثروة والدخل والحد من الفقر ومعالجة البطالة والعمل على تحقيق التنمية البشرية. فكافة الدول سواء نامية أو متقدمة في حاجة إلى نظم وسياسات اقتصادية أكثر عدلًا وإنصافًا تحقق مصالح كافة طبقات المجتمع دون استثناء، الأمر الذي يبشر بسياسات اقتصادية جديدة وبأولويات مغايرة عند توجيه الاستثمارات الداخلية والخارجية، وبتركز أكبر على توفير الاحتياجات الإنسانية الأساسية.