مثلت انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة اختبارا حقيقيا للديمقراطية الأمريكية. لقد انتهت الانتخابات، وأصبح لدينا فائز، ولم تشهد الولايات المتحدة أعمال عنف أو شغب على النطاق الواسع الذي حذر منه الكثيرون؛ ومع هذا فإن القليلين فقط هم من يعتقدون أن الديمقراطية الأمريكية قد اجتازت مرحلة الخطر.
لقد أصبحت الإثارة سمة مميزة للسياسة الأمريكية، فتواتر المفاجآت أصبح متلاحقا. لقد فاز جورج بوش الابن بالانتخابات في عام 2000 بعد نزاع يتعلق بإحصاء الأصوات، ووصل الأمر إلى المحكمة العليا، التي حسمت الأمر لصالح جورج بوش على أسس فنية. بعد ذلك بثماني سنوات صنع الأمريكيون تاريخا جديدا عندما انتخبوا أول رئيس من أصول أفريقية، وبقدر ما كان هذا دليلا على قدرة الديمقراطية على تجديد نفسها، ودمج الأقليات، والتحرك باتجاه حلول تقدمية، بقدر ما أثار رد فعل غاضب من جانب اليمين الذي شعر أن بلاده يجري سرقتها منه على يد اليسار والأقليات. أثمرت انتفاضة اليمين وصول دونالد ترامب للرئاسة ضد كل التوقعات، وبالتعارض مع تفضيلات مؤسسة الحزب الجمهوري الذي ترشح عنه. كان ترامب رئيسا مثيرا للجدل، فمنح السياسة الأمريكية المزيد من الإثارة، بسبب قراراته المفاجئة، وطريقته الفريدة في صنع القرار، وأساليبه غير المعتادة في التعبير عن نفسه. إلا أن الرئيس ترامب لم يستطع الفوز بفترة رئاسة ثانية، في انتخابات شديدة الإثارة، مليئة باتهامات التزوير، والتهديد بالعنف، والدعاوى القضائية؛ مما منح السياسة الأمريكية مذاقا حريفا، اعتدنا عليه في سياسات دول العالم الثالث، أكثر مما عهدناه على السياسة في النظم الديمقراطية.
لفترة طويلة تم النظر إلى الانتخابات باعتبارها آلية تؤدي إلى تسييد الاعتدال وتهميش التطرف. فلكي يفوز الحزب بالانتخابات لا يكفيه الفوز بأصوات مؤيديه المخلصين، ولكن عليه أيضا أن يكسب تأييد الأصوات التي تقف على التخوم؛ وعليه مواصلة التمدد ناحية الوسط، حتى يفوز بالناخبين الوسطيين، وعندها فقط يمكنه الفوز بالانتخابات، لكن فقط عبر الاعتدال، وإعادة صياغة مواقفه الإيديولوجية بطريقة مقبولة لأهل الوسط من الناخبين. المشكلة هي أن هذه الآلية لم تعد تعمل لا في الولايات المتحدة ولا في غيرها من النظم الديمقراطية، وأنه بدلا من اتجاه الأحزاب نحو الاعتدال بعيدا عن منطلقاتها الإيديولوجية الأصلية، فإننا نراها تصبح أكثر دوجمائية وتصلبا، وأكثر حرصا على إرضاء ناخبيها المخلصين، وأقل اهتماما بالفوز بالناخبين الوسطيين، الذين يصبح عليهم أن ينحازوا يمينا أو يسارا، بغض النظر عن مستوى رضاهم عن الخطاب والرسالة الإيديولوجية للحزب الذي يصوتون له؛ وقد أضفى الصدام الإيديولوجي الصاخب مزيدا من الإثارة على الانتخابات الأمريكية.
في الظروف العادية، فإن السياسة الديمقراطية رتيبة لا تخلو من ملل، حيث كل شيء يجري وفقا لقوانين مكتوبة وأعراف مستقرة، فالمواعيد معروفة سلفا، والمرشحين معروفين قبل الانتخابات بوقت طويل، واستطلاعات الرأي تتنبأ بنتيجة الانتخابات قبل حدوثها. وأغلب الدوائر أو الولايات تصوت بطريقة معروفة سلفا، ولولا بعض الدوائر والولايات القليلة المتأرجحة لانتفت الحاجة لإجراء الانتخابات. هذا الملل هو أعظم ما في الديمقراطية، فهو ينزع من السياسة جوانبها الأكثر خطورة، والتي قد تنتهي بالمتنافسين وقد احتكموا إلى العنف وسياسات الشارع، بدلا من سياسات المؤسسات المحكومة بالقانون. الإثارة المتزايدة التي أصبحت مميزة للانتخابات الأمريكية هي علامة على التوعك، وعلى أن النظام الديمقراطي في الولايات المتحدة يتعرض لضغوط واختبار كبير.
الاتهامات التي وجهها الرئيس ترامب لنزاهة الانتخابات شديدة الخطورة، ولن ينتهي أثرها ببدء عملية نقل السلطة سلميا. ففي استطلاع الرأي أجرته مجلة بوليتيكو، قال 70% من الجمهوريين أن الانتخابات لم تكن نزيهة، في حين قال 90% من الديمقراطيين بأنها كانت نزيهة. تشير هذه النتائج إلى أن هناك نسبة تقترب من نصف الناخبين ترى أن الانتخابات لم تكن نزيهة، وأن الثقة في العملية الانتخابية ليست كاملة، وهذا أمر شديد الخطورة في نظام قائم على سلامة الإجراءات بغض النظر عن نتيجتها. فعندما يتشكك هذا العدد الكبير من الناس في أنه يتم اتباع الإجراءات بطريقة عادلة، فإن النظام كله يصبح في أزمة شرعية، ويصبح من الممكن تحدي سلطة الرئيس المنتخب، التي تصبح سلطة غير شرعية في نظر المتشككين في نزاهة العملية الانتخابية.
مفهوم الشرعية الإجرائية، المستقلة عن النتيجة، هو مفهوم شديد التجريد يصعب إدراكه بالنسبة للكثيرين. فحتى في الولايات المتحدة صاحبة الديمقراطية التي تجاوز عمرها مائتي عام فإن الثقة في نزاهة الإجراءات والعملية الانتخابية ليست أمرا مستقلا بذاته، ومنفصل عن نتيجة الانتخابات، فالناخبين في الولايات المتحدة، مثلما هو الحال في أماكن كثيرة من العالم، يربطون بين نزاهة الانتخابات، والنتيجة التي تسفر عنها هذه الانتخابات. فقد ارتفعت نسبة أنصار الحزب الديمقراطي الذين يرون أن الانتخابات نزيهة من 50 إلى 90%، قبل وبعد الانتخابات؛ في مقابل انخفاضها من 65 إلى 30% بين الجمهوريين. فأغلب الجمهوريين كانوا يرون الانتخابات الرئاسية نزيهة عندما كانت فرصة مرشحهم المفضل في الفوز كبيرة، وهو الوضع الذي تغير تماما بعد خسارة الرئيس ترامب، وهو بالضبط عكس ما حدث مع الناخبين الديمقراطيين.
عندما ينقسم المجتمع، ويصبح لخسارة الانتخابات أثرا نفسيا يشبه خسارة الحرب؛ وعندما تضعف الثقة في المؤسسات والإجراءات، عندها يصبح النظام الديمقراطي في خطر. لقد اجتاز النظام السياسي الأمريكي أزمات شديدة الخطورة في الماضي، بما في ذلك أزمة الحرب الأهلية، التي تطلب تجاوز أزمتها إلحاق هزيمة عسكرية ساحقة بالخصم، في ظل الصعود السريع والازدهار الرائع للاقتصاد الأمريكي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي شروط لم تعد قابلة للتكرار، فكيف سيتغلب الأمريكيون على الأزمة هذه المرة؟
ــــــــــــ
نقلا عن جريدة الأهرام، الخميس ٣ ديسمبر ٢٠٢٠.