تتسع هوة الخلاف بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، ليزداد الحلم التركي بالانضمام إلى الكيان الأوروبي صعوبة. وفي هذا الإطار، نشر موقع “معهد السياسة الاستراتيجية الأسترالي” ((ASPI مقالًا بعنوان “تتصاعد التوترات مع تباعد تركيا عن الغرب”، وذلك في الثامن والعشرين من أكتوبر 2020، للكاتب “محمد أيوب” (أستاذ العلاقات الدولية بجامعة ميشيغان). وقد جادل الكاتب في مقاله بأن تركيا تبتعد ببطء وبثبات عن الغرب. ولعل الخلاف الأخير بين الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” ونظيره الفرنسي “إيمانويل ماكرون” هو أحدث مثال على اتساع الفجوة بين الجانبين.
تأجج الخلاف
تعقيبًا على حادث قطع رأس مدرس فرنسي على يد مسلم متشدد جراء نشره رسومًا كاريكاتورية تسيء إلى النبي “محمد” (ص)، أعلن “ماكرون” أن الإسلام في أزمة في جميع أنحاء العالم، وأكد رغبته في إصلاح الإسلام في فرنسا لكي يتوافق مع القيم الفرنسية، ومن ثم مواجهته للانفصالية الإسلامية. ولم تَلْقَ التصريحات الفرنسية قبول الرئيس التركي الذي أعلن عن حاجة “ماكرون” إلى العلاج على المستوى العقلي، وهو ما ترتّب عليه سحب فرنسا سفيرها لدى أنقرة ردًّا على بيان “أردوغان”. وتأتي التجاذبات التركية-الفرنسية الأخيرة ضمن سلسلة من المؤشرات على تدهور العلاقات التركية-الأوروبية.
يُمكن تلخيص الموقف التركي الساعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي في جملة واحدة متداولة لدى عددٍ من الأتراك، هي: “إذا كنا جيدين بما يكفي للموت من أجل أوروبا، فلماذا لا يمكننا العيش في أوروبا؟”. كما تنزعج تركيا من اعتقاد أوروبا التاريخي بأهميتها للدفاع عن نفسها ضد التوسع السوفيتي، ومع ذلك فقد رُفضت عضويتها في الاتحاد الأوروبي على مدار العقود الأربعة الماضية. ولعل أكثر ما يزعج الأتراك هو أن العديد من الدول الشيوعية السابقة قد انضمت إلى الاتحاد الأوروبي على الرغم من أن مؤهلاتها الديمقراطية ليست أفضل بكثير من المؤهلات التركية.
يلخص الأتراك السبب الرئيسي لاستبعادهم من الاتحاد الأوروبي في كلمة واحدة هي “الإسلام”. كما برزت التصريحات التي أدلى بها عددٌ من القادة الأوروبيين البارزين على مر السنين (مثل الرئيسين الفرنسيين السابقين “فاليري جيسكار ديستان” و”نيكولا ساركوزي”) والتي تؤكد على الطبيعة المسيحية لأوروبا كسبب لتبرير رفض عضوية تركيا.
إن دعم الاتحاد الأوروبي لليونان وقبرص في نزاعهما الحالي مع تركيا حول استكشاف موارد الطاقة والحدود البحرية في شرق المتوسط، وتهديده بفرض عقوبات اقتصادية على تركيا بشأن هذه القضية؛ قد أقنع الكثير من الأتراك بأن التقارب الديني هو الذي فرض الموقف الأوروبي. وتنظر تركيا أيضًا إلى دخول الحكومة اليونانية القبرصية إلى الاتحاد الأوروبي في عام 2004، بينما تم تعليق انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي من المنظور نفسه، لا سيما أنه بموجب قواعد الاتحاد الأوروبي تتمتع قبرص بحق النقض (الفيتو) بشأن القضايا المتعلقة بانضمام تركيا.
دعمت الولايات المتحدة في الماضي عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي، ولكن لا يخفى اتساع الهوة بين الحليفين خلال السنوات القليلة الماضية، لا سيما بشأن سوريا والدعم الأمريكي لوحدات حماية الشعب الكردية المصنفة بالإرهابية لدى تركيا. كما أدت محاولة أنقرة لتبني سياسة خارجية مستقلة في الشرق الأوسط (والتي يطلق عليها “العثمانية الجديدة” في أغلب الدوائر الغربية) إلى تضارب المصالح بين تركيا والولايات المتحدة.
في حين أن مصادر التوتر في العلاقات الأمريكية-التركية هي مصادر استراتيجية وليست دينية أو ثقافية كما هو الحال مع أوروبا، فقد أدى التحالف الوثيق بين الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى إلى اندماج التصورات التركية حول تدهور العلاقات التركية-الأمريكية مع التوترات بين تركيا والقوى الأوروبية، وتضخيم الرواية القائلة بأن “القوى المسيحية الغربية لن تسمح أبدًا لتركيا بالظهور كمركز قوي مستقل بسبب هويتها الإسلامية، وبالتالي تعميق شعورها بالغربة عن الغرب”.
خلاصات تحليلية
بجانب العامل الديني الذي يُعد أحد أسباب تعميق التباعد بين تركيا والغرب، تشير التحليلات المختلفة إلى وجود جملة من العقبات التي تقوض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي؛ ففي تقريرها الأخير بشأن تركيا، رأت المفوضية الأوروبية أن النظام التركي “لم يعالج بشكل موثوق مخاوف الاتحاد الأوروبي الجادة بشأن استمرار التطورات السلبية في سيادة القانون، والحقوق الأساسية، والسلطة القضائية”، وقد أرجعت المفوضية أيضًا سبب استمرار تلك التطورات إلى “الإفراط” في مركزية السلطة الرئاسية، وهي الأمور التي تضافرت لتدفع بالمفاوضات بين الجانبين التركي والأوروبي إلى طريق مسدود. كما اتهمت المفوضية الأوروبية أنقرة بارتكاب أعمال غير مشروعة، والإدلاء بتصريحات استفزازية في شرق المتوسط، لا سيما تجاه قبرص نتيجة الصراع على الغاز. كما أن سياسة تركيا الخارجية “تتصادم بشكل متزايد مع أولويات الاتحاد الأوروبي”، مما يعني أن السياسات التركية سواء الداخلية منها أو الخارجية -والتي يجب عليها أن تتوافق مع قيم وسياسات الاتحاد- لا تزال بعيدة المنال.
ترى أوروبا أن النظام التركي نظام سلطوي أيديولوجي، يستند إلى خطاب القومية والمظلومية من أفعال الغرب، بما يُهدد الاستقرار الاجتماعي داخل الدول الأوروبية، لا سيما تلك التي تضم جاليات كبرى من الأتراك لكونها الجاليات التي يستغلها الرئيس التركي لمصلحة نظامه بالأساس، وذلك عبر استخدامه ما يُسمى بـ”الاتحادات التركية الإسلامية”. فعلى سبيل المثال، يشرف “الاتحاد التركي الإسلامي للشئون الدينية في ألمانيا” (ديتيب) على 860 مسجدًا منتشرًا في 16 ولاية ألمانية، ويضم 200 ألف عضو. وبحسب أجهزة الاستخبارات الألمانية، يستخدم النظام التركي “ديتيب” للتأثير على المسلمين، وهو ما حدا بوزارة الداخلية في ولاية بافاريا الألمانية إلى التلميح باحتمال وضع المنظمة تحت مراقبة هيئة حماية الدستور (جهاز الاستخبارات الداخلي)، لا سيما بعد مشاركة ممثلين عن جماعة الإخوان المسلمين في ندوة للمنظمة، وما أُثير أيضًا عن تجسس الأئمة المنضوين تحت المنظمة لصالح حكومة “أردوغان”.
كما تبرز منظمة “الاتحاد الإسلامي التركي في النمسا” (أتيب)، باعتبارها أداة تكميلية أخرى لصالح ترسيخ نفوذ النظام التركي في أوروبا. فبحسب صحيفة “كورير” النمساوية، تمارس “أتيب” دورًا كبيرًا في ترسيخ الثقافة ونمط الحياة التركي في مجتمعات المهاجرين الأتراك. وبحسب الصحيفة ذاتها في عام 2018، أثارت محاكاة أحد الأطفال لإحدى المعارك العثمانية في الحرب العالمية الأولى بأحد المساجد التابعة لـ”أتيب” أزمة كبرى مع الحكومة النمساوية التي اتهمت الاتحاد -بدورها- بانتهاك حقوق الأطفال، وخلق مجتمع موازٍ في البلاد. وأخيرًا، وبحسب صحيفة “أوسترايش” النمساوية، أصدر البرلمان النمساوي في عام 2019 توصية لحكومته بحظر جمعية “أتيب”، بسبب أنشطتها المتطرفة والمزعزعة للاستقرار.
لا تقتصر مساحات بسط النفوذ على الاتحادات التركية الإسلامية، ولكن يمتد الأمر أيضًا إلى أنشطة تجسسية يمارسها النظام التركي إزاء العديد من الدول الأوروبية. فبحسب وثائق نُشرت في مايو 2020 على موقع “نورديك مونيتور” الاستقصائي، يمارس جهاز الاستخبارات التركي أنشطة مراقبة غير قانونية، وجمع معلومات ورصد للتجسس على منتقدي حكومة الرئيس “أردوغان” في ألمانيا، والمملكة المتحدة، وبلجيكا، وإيطاليا، وهولندا، واليونان، والنرويج، ورومانيا. وفي سبتمبر 2020، كشفت السلطات النمساوية عن تمكّنها من الإيقاع بجاسوس تركي، كان سجينًا من قبل لدى السلطات التركية، وكان شرط الإفراج عنه هو العمل كجاسوس على الرعايا الأتراك المقيمين في النمسا.
وارتباطًا بمسألة بسط النفوذ، تدور التحليلات أيضًا حول اعتبار العامل الديمغرافي سببًا للرفض الأوروبي، حيث يبلغ عدد سكان تركيا نحو 82 مليون نسمة. وعليه، تخشى الدول الأوروبية من أن تؤدي العضوية التركية إلى ارتفاع ثقلها في عملية التصويت، ومنحها نسبًا تمثيلية تقارب تلك الممنوحة لألمانيا وفرنسا. وبالنظر إلى حجم الخلافات القائمة حاليًّا، فقد يؤدي هذا الثقل إلى عرقلة اتخاذ القرار الأوروبي، بل وسيمنح هذا الثقل المزيد من الصلاحيات للجانب التركي فيما يتعلق بتحديد أولويات السياسات الأوروبية الداخلية والخارجية والدفاعية.
لا يرتبط الأمر فقط بالعملية التصويتية، بل تخشى الدول الأوروبية لا سيما ذات الكثافة السكانية المنخفضة من احتمال تغلغل الأتراك داخل حدود دولهم، وبالتالي تغيير التركيبة الديمغرافية في البلاد بما يخدم في النهاية المصالح التركية. وفي ضوء ما تقدم، تفضل ألمانيا والنمسا منح تركيا صفة شريك مميز في الاتحاد بدلًا من منحها العضوية الكاملة، من ناحية أخرى، وعلى صعيد سياساتها الخارجية، تمثل تركيا عاملًا مزعزعًا للاستقرار نظرًا لانخراطها العسكري المباشر في العديد من الأزمات الإقليمية، الأمر الذي أدى في وقت سابق إلى خلق موجات من الهجرة غير الشرعية نحو البلدان الأوروبية، وهو الأمر الذي كان -ولا يزال- سببًا للخلاف بين الأوروبيين أنفسهم. كما يرتبط بأمر الانخراط التركي في الصراعات الإقليمية علاقاتها الوطيدة مع الجانب الروسي، وهو ما يمثل عقبة أخرى أمام العلاقات الأوروبية-التركية، نظرًا لما يحمله الأمر من احتمال اختراق روسي للأمن والقرار الأوروبي.
وتتزايد الهوة الأوروبية-التركية اتساعًا مع تمديد الاتحاد الأوروبي العقوبات المفروضة ضد تركيا لمدة عام بسبب نشاطها غير القانوني في شرق المتوسط، على أن يتخذ الاتحاد الأوروبي قرارًا بشأن مستقبل العلاقات مع تركيا في الشهر المقبل، ففي ختام قمة بروكسل في منتصف أكتوبر الماضي، انتقد رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشال” استئناف تركيا التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وذكر أن الاتحاد الأوروبي ينوي تقييم الوضع في ديسمبر المقبل.