أقدمت أنقرة منذ أواخر نوفمبر 2020 على اتخاذ سلسلة من الخطوات في محاولة منها لتهدئة التوتر مع الاتحاد الأوروبي قبل قمة الاتحاد المقرر لها العاشر من ديسمبر 2020، والتي ستناقش فرض عقوبات صارمة لردع التحركات التركية شرق المتوسط، حيث سحبت في 30 نوفمبر 2020 سفينة المسح الزلزالي “عروج ريش” من المياه المتنازع عليها مع اليونان وقبرص، كما أعلنت استعدادها لاتخاذ إجراءات بناء الثقة والدخول في مفاوضات مع اليونان.
غير أن سلوك أنقرة لم يفلح في تسكين أوجاع المخاوف الأوروبية، وتجلى ذلك في اتجاه دول الاتحاد مؤخرًا إلى تصعيد الضغوط على تركيا، حيث صوَت أعضاء البرلمان الأوروبي، في 26 نوفمبر، على مشروع قرار إدانة تركيا بالأغلبية المطلقة، كما دعا البرلمان قادة الاتحاد إلى السرعة في فرض عقوبات على تركيا دون تأخير في القمة المقبلة، للجم تحركاتها في المتوسط وصراعات الإقليم. في هذا السياق، تمثل القمة الأوروبية المقبلة محطة فارقة في مسار العلاقة بين تركيا والاتحاد، وهو ما يطرح السؤال عن الخيارات المحتملة لأوروبا في التعامل مع تجاوزات أنقرة، كما يجد هذا التساؤل أهمية إضافية في ظل مواقف مغايرة لقادة الاتحاد، وآخرها إعلان رئيس المجلس الأوروبي “شارل ميشال”، في 4 ديسمبر 2020، أن دول الاتحاد الأوروبي مستعدة لفرض عقوبات على تركيا بسبب استمرار “أفعالها الأحادية وخطابها المعادي”، عن رفع سقف التوتر مع أنقرة، وأن الاتحاد سيصطف إلى جانب قبرص واليونان.
ملفات شائكة:
برغم سعي أنقرة إلى تهدئة التوتر مع دول الاتحاد قبيل القمة المقرر لها 10 ديسمبر 2020، إلا أن ثمة معوقات تقف حجر عثرة أمام ذلك، وهو ما يمكن بيانه على النحو التالي:
التنقيب غير القانوني: لا ينفصل التوتر بين أنقرة والاتحاد الأوروبي عن الاكتشافات النفطية في سواحل شرق المتوسط وبحر إيجه، والتوجهات المستقبلية المتعلقة بتعزيز البحث عن مصادر للطاقة لتأمين احتياجات تركيا التي تعاني افتقارًا شديدًا في مصادر الطاقة. فقد عززت الاكتشافات المنافسة المتزايدة بين تركيا ودول أوروبية، وبخاصة اليونان وقبرص. ولذلك عملت تركيا على إعادة صياغة توجهاتها الاستراتيجية في هذه المناطق، من خلال تفعيل ما يُعرف باستراتيجية “الوطن الأزرق”، ويشير هذا المصطلح الذي صكه الخبير العسكري التركي “كيم جوردينيز” في عام 2006 إلى المناطق البحرية التي يجب أن تقع تحت السيادة التركية، وشملت “المناطق الاقتصادية التركية” في بحار إيجه والمتوسط والأسود. أي مسافة 200 ميل بحري في مختلف الاتجاهات. كما أن التحركات التركية التي استندت إلى عسكرة المشهد شرق المتوسط، والطعن على الاتفاقيات القانونية الموقعة بين دول الحوض، إضافة إلى توقيعه اتفاقًا مع حكومة “السراج” في نوفمبر 2019 لتعيين الحدود البحرية، أثارت قلق دول الاتحاد.
صراعات الإقليم: تعتمد تركيا على بعض الأدوات غير المشروعة حيال عدد من القضايا الإقليمية التي تهم أوروبا، منها تعقيد حل أزمة الجزيرة القبرصية، والانخراط السلبي في الأزمة الليبية من خلال الدفع بمقاتلين مرتزقة لدعم حكومة الوفاق في الغرب الليبي، وظهر ذلك في توقيف الفرقاطة الألمانية “هامبورغ” التي تعمل ضمن عملية “إيريني الأوروبية” في 22 نوفمبر 2020، سفينة الشحن “إم في روزلين إيه” التي ترفع العلم التركي في البحر المتوسط، لمحاولة تفتيشها بعد تشككها في قيامها بنقل أسلحة إلى ليبيا. كما يعارض الاتحاد السلوك التركي في شمال سوريا، حيث رفضت دول الاتحاد عملية نبع السلام التي أطلقتها تركيا في 9 أكتوبر 2020 ضد قوات سوريا الديمقراطية.
ورقة اللاجئين: زادت مساحة التوتر بين تركيا والاتحاد، مع إصرار الأولى على توظيف أزمة اللاجئين كورقة ضاغطة على أعصاب الاتحاد لتمرير المصالح التركية، وبخاصة ملف انضمامها للاتحاد الأوروبي، وهو ما بدا جليًا في تلميح أكثر من مسئول تركي إلى إمكانية التراجع عن تنفيذ الاتفاق الذي تم إبرامه مع الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين في مارس 2016 في حالة إذا لم يحدث تقدم في عملية الانضمام، ناهيك عن فتح الحدود مع اليونان، والسماح للاجئين غير الشرعيين بعبور بحر إيجه للوصول إلى اليونان.
تكريس السلطوية: عارض الاتحاد تحول تركيا إلى جهة النظام الرئاسي بعد تعديلات دستورية أُجريت في أبريل 2017، إذ ترى دول الاتحاد أن اعتماد “أردوغان” النظام الرئاسي أدى إلى إحداث هزة في أسس النظام السياسي التركي، أفضت بدورها إلى تقويض التوازنات بين مكوناته ومؤسساته. على صعيد ذي شأن، تعارض دول الاتحاد التضييق على الحريات في الداخل التركي، وظهر ذلك في توبيخ الاتحاد أنقرة على خلفية توقيف الناشط الحقوقي ورجل الأعمال التركي “عثمان كافالا” ورئيس حزب الشعوب الديمقراطي “صلاح ديمرطاش”.
السيناريوهات المحتملة
ثمة مسارات محتملة لمستقبل التوتر الحادث في العلاقة بين أنقرة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يمكن بيانه كالتالي:
تهدئة التوتر: رغم تصاعد حدة التوتر بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي، وبخاصة فرنسا واليونان، خلال الفترة الماضية، بسبب التباين في التعامل مع بعض الملفات الخلافية، وبخاصة شرق المتوسط؛ إلا أن ذلك لا ينفي أن ثمة اعتبارات عديدة ربما تدفع الطرفين إلى محاولة ضبط حدود هذا التوتر، في الصدارة منها مخاوف تركيا من تصعيد محتمل في العلاقة مع إدارة الرئيس الأمريكي المنتخب “جو بايدن” الذي وصف “أردوغان” بالمستبد. كما يبدي “أردوغان” مرونة لافتة في الوقت الحالي وقبيل القمة الأوروبية، إذ دعا في 22 نوفمبر 2020 دول الاتحاد، عشية حضوره المؤتمر الإقليمي السابع لحزب العدالة والتنمية الحاكم، إلى الوفاء بالوعود المقدمة لتركيا، من أجل تأسيس تعاون أوثق ومثمر، لافتًا إلى أن بلاده “مكانها في أوروبا وليس في مكان آخر، وأنها تعمل على تأسيس مستقبلها مع أوروبا”. وراء ما سبق، تعي تركيا أهمية العلاقة الاقتصادية مع الاتحاد، وحاجتها الماسة إلى تجديد اتفاقية التحديث الجمركي التي تسمح لمنتجاتها بدخول الأسواق الأوروبية من دون رسوم جمركية، وهي حاجة تبدو ماسة في ظل تراجع الاقتصاد التركي الذي زادته جائحة كورونا انغماسًا في همه الداخلي.
في مقابل ذلك، لا يزال الاتحاد يرى أهمية للعلاقة مع تركيا، وألا تصل إلى حد القطيعة برغم الملفات الشائكة بين الطرفين. حيث تمثل تركيا ورقة مهمة في التعامل مع الارتدادات السلبية لصراعات الإقليم، وبخاصة مسألة اللاجئين. كما يبدي كل من الاتحاد الأوروبي وأنقرة اهتمامًا خاصًا بالحرب ضد التنظيمات الإرهابية، ولا سيما تنظيم “داعش”، بعد تبنيه عمليات إرهابية داخل الدول الأوروبية.
إقرار عقوبات رمزية: مع إعلان تركيا في 30 نوفمبر 2020 عن عودة سفينتها البحثية “عروج ريش” إلى ميناء أنطاليا بعد قيامها بعمليات تنقيب قبالة مناطق متنازع عليها مع اليونان، فثمة احتمالات بأن يتوجه الاتحاد الأوروبي في قمته المقبلة نحو فرض عقوبات على أنقرة، قد تشمل وقف الحكومات الأوروبية صادرات السلاح الجديدة إلى تركيا، وحظر السفر، ومصادرة أصول أفراد وكيانات على صلة بعمليات التنقيب شرق المتوسط، إضافة إلى معاقبة البنوك التركية التي تساهم في تقديم تمويلات لأنشطة التنقيب التركية، وكذلك وقف تجديد اتفاقية التحديث الجمركي، والتي تمنح أنقرة ميزات تنافسية، وتجميد صادرات قطع الغيار العسكرية التي تمثل أولوية مهمة للصناعات الدفاعية التركية.
استبعاد التوافق على خيار العقوبات: يتطلب فرض عقوبات على تركيا إجماع كافة الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، غير أن دولًا في الاتحاد لا تزال تدعو إلى تبني النهج البراجماتي في التعامل مع تركيا، وبخاصة ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا، وهي الدول التي عرقلت في قمم سابقة فرض عقوبات على تركيا على أمل التوصل إلى اتفاق “لتطوير علاقة بناءة فعليًا مع تركيا”. في المقابل كشف وزير خارجية الاتحاد الأوروبي “جوزيب بوريل”، في 4 ديسمبر، خلال مشاركته في اجتماع بمدينة روما الإيطالية، أن “نظام العقوبات، هو مسألة تعود إلى الدول الأعضاء”. وأضاف: “لا يمكنني أن أستبق نتيجة نقاش القمة المقبلة، أنا لا أقوم سوى بتحضيره واقتراح بدائل”.
تصاعد حالة التوتر: ثمة العديد من المؤشرات التي تكشف عن احتمال تصاعد حدة التوتر بين تركيا والاتحاد، أولها التصريحات والتصريحات المضادة بين “أردوغان” و”ماكرون”، بعد مطالبة الثاني للأول في 4 ديسمبر بالاحترام، وإعلان الأول في 3 ديسمبر عن أمله في أن تتخلص فرنسا من الثاني باعتباره بات عبئًا عليها. وجاءت هذه التصريحات ردًّا على قرار غير ملزم أصدره مجلس الشيوخ الفرنسي، في 25 نوفمبر 2020، يحث الحكومة على الاعتراف باستقلال إقليم ناغورنو كاراباخ. وثانيها تصريحات نائب رئيس المجلس الأوروبي “مارغريتيس شيناس”، في 5 ديسمبر، والذي أشار خلالها إلى أن الاتحاد الأوروبي يستعد ليس فقط لفرض عقوبات قصيرة الأجل، ولكن أيضًا عقوبات متوسطة وطويلة الأجل ضد تركيا خلال القمة المقبلة. ويرتبط ثالثها بإصرار تركيا على عمليات التنقيب غير القانونية شرق المتوسط. كما دخل المناخ مرحلة الشحن بين الطرفين عشية زيارة “أردوغان” لقبرص الشمالية في منتصف الشهر الماضي، ودعوته إلى حل القضية القبرصية على أساس دولتين.
إضافةً إلى ما سبق، اتجهت كيانات أوروبية لتقليص استثماراتها في تركيا، وكان آخرها في 4 ديسمبر، بإعلان “هربرت ديس”، الرئيس التنفيذي لشركة فولكس فاجن الألمانية العملاقة للسيارات، أن الشركة تخلت عن خططها لافتتاح مصنع جديد في تركيا لأسباب سياسية، مشيرًا إلى أن المساهمين لديهم مخاوف بشأن المناخ السياسي في البلاد.
الأرجح أن هذا السيناريو يبدو الأقرب في المرحلة المقبلة، لعدة اعتبارات، منها: تصاعد مخاوف الاتحاد من أن يسفر استمرار التباين في مواقف دول الاتحاد عن حدوث انقسام داخل الكيان الأوروبي، كما باتت قبرص واليونان تحظى بدعم كبير من دول الاتحاد، وبخاصة الدول التي كانت تسعى إلى تعزيز لغة الحوار مع تركيا بدلًا من النهج الصدامي بعدما سئمت مناورات تركيا. في المقابل، فإن فرض عقوبات على تركيا لا ينفصل عن توجهات سلبية محتملة للإدارة الأمريكية المنتخبة تجاه تركيا.في النهاية، يبقى القول إن ثمة مؤشرات كاشفة عن عمق التوتر بين تركيا والاتحاد الأوروبي بفعل تنامي القضايا الخلافية، وهو الأمر الذي قد يدفع القمة الأوروبية المقرر لها 10 ديسمبر نحو تبنِّي سياسة أكثر تشددًا حيال تركيا، خاصة أن استمرار انقسام المواقف الأوروبية حيال التعامل مع أنقرة قد يؤثر على تماسك الاتحاد، ويحفز بعض أعضائه على المغادرة طالما لا يجد حماية الشركاء.