منذ العام 2011 وبعد شهور قليلة من الاحتجاجات الشعبية في سوريا، تحديداً مع بدء تسلح هذا الحراك وإعلانه خوض معركة مفتوحة ضد النظام، بدأ «حزب الله» اللبناني يدخل بالتدريج على خط هذه الأزمة، في البداية اقتصر الأمر على إنفاذه لمجموعة من مستشاريه، الذين قدموا خدمات دراسة أوضاع التدهور الميداني لأجهزة الأمن السوري، ثم أتبع ذلك بالدفع بمجموعات من قوات النخبة الخارجية (الوحدة 910)، التي تمركزت في جنوب سوريا وبدأت في تنفيذ عمليات نوعية وصفت حينها بالقمع والاستخدام المفرط للقوة المسلحة ضد مكونات عديدة كانت تتشكل على نحو متسارع ضد النظام السوري.
قراءة الحزب لمسرح الأحداث دفعته إلى العمل على إعادة صياغة أبناء الطائفة الشيعية داخل سوريا، وذهب إلى الانخراط في عمليات تشييع واسعة بين سكان مناطق التماس الحدودي، للتغلب على ضعف نسبة أبناء الطائفة بالنسبة لمجمل الشعب السوري السني.
تلك الخطوات التأسيسية لوجود «حزب الله» في سوريا، اتسمت بارتباطها بتسارع الأحداث وصياغتها لعديد من ردات الفعل إزاءها، اعتبر أخطرها وأعمقها أثراً ما جاء لاحقاً وتمثل في إعادة التشكيل الديموغرافي للسكان على خلفية مذهبية، فقد احتاج الحزب لأحزمة سكانية وحواضن بشرية تستقبل قواته العسكرية التي بدأت تتدفق داخل سوريا، مثلما جرى في «بصرى الشام» شرق درعا و«الفوعة» و«كفريا» شمال أدلب و«الزهراء» شمال حلب، وغيرها من المناطق التي بدأت تمثل نقاط الارتكاز الأولى للحزب التي استلزم لإنفاذها التورط في عمليات “التطهير المذهبي”.
لكن يظل تاريخ الخامس والعشرين من مايو 2013، يحمل النقلة الفارقة لفاعلية الحزب في نسيج المعضلة السورية برمتها، وقت أن أعلن أمينه العام «حسن نصر الله» المشاركة الرسمية لصالح النظام في معركة استرداد مدينة «القصير» الاستراتيجية.
ومنذ هذا التاريخ المبكر لم يكن الروس قد وصلوا بعد، وبدأ التوغل والتدفق العسكري يأخذ الحزب لطبيعة الحرب الكاملة في مسارح عمليات متنوعة ومتفرقة، بغرض التصدي للإشكاليات العميقة التي تعرض لها النظام، بالتدفق الواسع للتنظيمات والكيانات المسلحة التي أدارت تركيا العديد منها من الخلف، حيث لم تكن قد دخلت هي الأخرى بشكل مباشر بعد.
لم تلبث المعضلة السورية أن تحولت إلى صراع إقليمي حاد، وتهيأ المشهد سريعاً لنموذج متكامل من حروب الوكالة، لعب فيها «حزب الله» لصالح أطراف أخرى كثيراً، لكنه في غمرة ما خاضه لم يغفل مصالحه المباشرة التي حرص على تأسيسها مبكراً.
فقد ظل يقوم بحشد قواته وكثير من الموالين له وبعض من وحدات الجيش السوري في محيط العاصمة «دمشق» من أجل تأمين الحماية لها، حين مرت بفصول كانت مهددة فيها على نحو بالغ، الحزب أدرك مبكراً أن سقوط العاصمة وانهيار النظام يمثل ضربة قاتلة لوجوده داخل محركات الأحداث.
لكن الخطط الاستراتيجية لـ«حزب الله» لم تقتصر على النجاح في الاستحواذ على جانب مهم من صناعة القرار السوري، فهناك عديد من المهام على الأرض ظلت تمثل الجانب الأكبر من الأهمية بالنسبة للحزب، منها إنشاء حزام أمنى على طول الشريط الحدودي بين سوريا ومناطق سيطرة الحزب في لبنان، ليكون بمثابة ممر إمداد آمن وبديل عن مناطق البقاع وجبل لبنان.
التوسع في السيطرة على هذا المحور؛ ليتبعه توفير الحماية لطرق الإمداد البري التي تصل ما بين إيران وسواحل المتوسط، عبر مرورها في كل من العراق وسوريا.
وفى النهاية يتمكن الحزب من خلال السيطرة وتأمين تلك المحاور من تحويل الجنوب السوري إلى قاعدة عمليات متقدمة ضد إسرائيل في حال نشوب أي تصعيد بينها وبين إيران، أو كجبهة بديلة للحزب في حال الاشتباك بينه وبين إسرائيل تحقق له مرونة أكبر من الجنوب اللبناني، الواقع تحت رقابة قوات «اليونيفيل» وداخل حزام تعقيدات الداخل اللبناني.
اليوم وبعد مرور قرابة عقد كامل من هذا التدخل صار الأمر يمثل معضلة حقيقية مركبة، ليس على مستوى الصعيد الأمني فحسب، بل يمتد لآفاق التوصل إلى تسوية سياسية للمأساة السورية.
فالحزب يوجد على الأرض السورية فيما يتجاوز (110 مواقع)، تتوزع على (9 محافظات) في نواحي الجغرافيا الأربع، منها ما هو ممتد في الشمال والجنوب، فيما يضم الوسط السوري وجوداً ملحوظاً، في حين يحتل الحزب أيضاً في المشرق بعضاً من المواقع.
لكل موقع داخل هذه الخريطة الذكية للانتشار مهام وطبيعة خاصة، لكنها تتناغم وتتكامل جميعها داخل خريطة التغلغل الاستراتيجية التي صارت تشكل عبئاً فادحاً على المستقبل المنظور.
فوجود «حزب الله» بمحافظة حلب على سبيل المثال له شكل شبه مستقل في جزء منه وفى آخر بالمشاركة مع ميليشيات موالية لإيران، وفى بعض المناطق يتشارك بصورة صريحة مع وحدات من قوات الجيش السوري. يأتي هذا على هيئة «غرف دعم» تقدم خبرات لوجستية واستخباراتية للمجموعات العاملة في هذا النطاق الجغرافي، ولديها شبه قواعد عسكرية تقوم فيها بتجميع عناصر تلك المجموعات المتنوعة، كي تلعب أدوار التنسيق والتوزيع الخططى فيما بينها.
كما بدأ الحزب من العام 2016 في إنشاء ثكنة عسكرية كبيرة بعد تمكنه من تحرير بلدتي «نبل» و«الزهراء»، ليستخدمها في عمليات تجنيد وتأهيل مقاتلين محليين لإدماجهم في صفوف المكونات القتالية. وهو بهذه الطريقة يعزز من المستهدف الإيراني والسوري العام في نزع المنطقة من حزام السيطرة التركية التي كانت تضع حلب في بدايات الأزمة، باعتبارها المرتكز الأهم والمحوري للوجود التركي على الأراضي السورية.
هذا نموذج واحد من عشرات غيره، لكل منها مخططاته التكتيكية والتي تتلاقى استراتيجياً مع بعضها البعض لتكمل المستهدف العام، والذي يبدو حتى اللحظة رغم كل ما مر من أحداث الاقتتال متعدد الأطراف، لم يزعزع تلك القبضة الإيرانية عن العنق السوري. لذلك يبدو التفكير أو السعي لحلول شاملة ربما بعيد المنال، بالنظر إلى حجم هذا التغلغل وتأثيره ومداه، الذي بدا في كثير من محطاته وقد سكن للأبد تحت جلد الدولة التي يسأل شعبها يومياً سؤالاً وجودياً وحيداً عن كيف ومتى تعود؟.