في الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الفساد، الذي يصادف يوم 9 ديسمبر، لا يزال هذا الأخير يشكل أبرز مشكلات العالم، خاصة العالم العربي، الذي تهدد استقراره وأمن شعوبه. ويمكن تلخيص فور الفساد في غياب الشفافية والنزاهة، وانتشار المحسوبية، وتقليل فرص الحصول على الخدمات الاجتماعية، وتحويل موارد الدولة بعيدا عن الاستثمار الحقيقي في البنيات الأساسية والمؤسسات والخدمات الاجتماعية، مما يضيع فرصة الإصلاح ويعرقل الجهود الرامية إلى تحقيق التنمية المستدامة.
وإذا كان الفساد في أحد معانيه يعني “سوء استخدام المنصب العام من أجل التربح الخاص”، فبعض القائمين على المناصب العامة يقومون باستغلالها في التربح والكسب بطرق غير شرعية. وإذا كان الفساد ظاهرة عالمية قديمة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية واخلاقية وقيمية، فضلا عن كونه ظاهرة عابرة للحدود، فهو لا يفرق بين الدول المتقدمة او الغنية والفقيرة، وان كان يختلف من حيث طبيعته ومدى تغلغله داخل المجتمع.
تعود أسباب انتشار الفساد في بعض الدول العربية إلى الاختلالات السياسية والحروب الأهلية والطائفية، الأمر الذي يفاقم من الصراعات في المنطقة، ويؤدي الى تمدد مظاهر الفساد وانتشارها. وللأسف فأن الآثار المدمرة لتفشي هذه الظاهرة تطال كل مقومات الحياة. نجد اموالا تهدر وثروات تنهب، وطاقات تستنزف في غير محلها. ونرى عراقيل في أداء المسؤوليات وإنجاز الوظائف والخدمات، وانحلال متزايد في المبادئ والقيم، مما ينعكس سلبا على النسيج الاجتماعي والمؤسسي للدول، ويؤخرها عن ركب التنمية والديمقراطية وحقوق الانسان.
ويعتبر ارتفاع مؤشر الفساد في أي مجتمع دلالة على تدني الرقابة الحكومية، وضعف تنفيذ القانون، وغياب التشريعات الرادعة. وقد ينشط الفساد نتيجة انتشار ثقافة الفساد بين افراد المجتمع، حيث تصبح الرشوة “عادة”، ونهب المال العام “حق”، وحيث يسود مبدأ الشخصنة بما يؤدي إلى استغلال الوظيفة العامة وموارد الدولة من أجل تحقيق مصالح فردية على حساب مصالح الشعب، وكل ذلك يلغي مبدأ العدالة، وتكافؤ الفرص، والجدارة، والكفاءة، والنزاهة والتوزيع العادل للثروة.
والفساد بلا شك يقوض الديمقراطية والحكم الرشيد وحكم القانون، ويؤدي إلى انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، ويعمق خطابات المظلومية بين المواطنين، ويعمق أيضا الفوارق الصارخة بين الطبقات، مما يجعل المجتمع منقسم الى اثنين، فئة تستفيد من كل خيرات البلاد، وفئة ثانية محرومة من كل شيء وتعاني ويلات الفقر والعيش غير الكريم. وهذا التقسيم غير العادل يسمح بازدهار الجريمة، ويغذي التطرف الذي يمكن ان يتحول الى عنف مما يشكل تهديدا حقيقيا لأمن وسلامة الإنسان في كل مكان.
يجب الاعتراف اننا لن نحقق أي تطور او تقدم يذكر دون القضاء على الفساد اولا. ولن يتم القضاء على الفساد دون تضافر الجهود لإعادة العدل بمختلف صوره الى المجتمع، وإنهاء الظلم وأشكال الاستغلال عن طريق ربط المسؤولية بالمحاسبة، وتحديث التشريعات، وتطبيق القانون، وتغليظ العقوبات لردع كل من تسول له نفسه ممارسة أي شكل أو مظهر من مظاهر الفساد في الدولة والمجتمع. والقضاء على الفساد لن يتم، أيضا، بدون قانون قوي، ونظام قضائي مستقل وفعال، ومجتمع مدني فعال يقوم بدوره في رفع وعي المواطنين وتعزيز مطالبهم بمكافحة الفساد، والعمل على إنشاء مبادرات مراقبة تكشف عن وجود الفساد، والتقليل من خسارة الأموال، والتحسين من جودة الخدمات العامة التي تقدمها الدولة، وتمكينهم من مساءلة الحكومات، مما يساعد في بناء الثقة المتبادلة بين المواطنين والحكومة.
القضاء على الفساد، يمر، أيضا، عبر تعزيز الشفافية في اعداد الموازنة لضمان استخدام الموارد لخدمة المصلحة العامة. فكلما توفرت للمواطن آليات فحص أنشطة الحكومة ومناقشة مزايا السياسات العامة المختلفة، كلما تم قطع الطريق امام المفسدين. وكلما انخرطت الدول في إصلاحات هيكلية وسجلت مستويات جهل منخفضة وحرية صحافة مرتفعة، كلما انخفض لديها مؤشر الفساد وارتفع في المقابل الشعور بالمواطنة والمشاركة الفعالة في بناء وطن.
القضاء على جائحة الفساد لن يكون عملية سهلة، لكنها لن تكون مستحيلة طالما هناك ايمان بضرورة حماية حقوق تنتهك، واسترداد ثروات طائلة تنهب، ومواجهة فئات معينة تريد ان تزداد ثراء، بينما أبناء الشعب لا يجدون ما يسد رمق جوعهم او يحفظ كرامتهم الإنسانية. وتجدر الاشارة في هذا الخصوص الى ان الجمعية العامة للأمم المتحدة بصدد تنظيم جلسة خاصة في يونيو القادم في نيويورك، يصدر عنها اعلان سياسي سيعطى قوة دفع اضافية للجهود الدولية لمكافحة الفساد، وللمزيد من التنفيذ الفعال لاتفاقية الامم المتحدة لمكافحة الفساد التي تمثل اهم اداة سياسية ومرجعية للتعاون الدولي في هذا المجال. كما يترقب الجميع استضافة مصر في ديسمبر من العام القادم لمؤتمر الدول الاطراف التاسع لهذه الاتفاقية، والذي سيشكل فرصة مواتية لدولنا العربية لإبراز جهودها واستراتيجياتها الوطنية لمكافحة الفساد، والتي تعكس وجود ارادة سياسية متنامية لتحقيق النقلة النوعية التي يستحقها عالمنا العربي.