أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في 16 نوفمبر 2020، توجيهات لتوقيع اتفاقية مع السودان لبناء قاعدة عسكرية روسية على البحر الأحمر. وهو الأمر الذي أثار العديد من التساؤلات حول طبيعة ومهام هذه القاعدة المقترح إقامتها في السودان، ودلالات الإعلان عن هذه القاعدة في هذا التوقيت، ودوافع روسيا لإقامتها، والتداعيات المحتملة، ومستقبل الوجود الروسي في منطقة البحر الأحمر.
أولاً: طبيعة ومهام القاعدة العسكرية الروسية في السودان
يمكن الإشارة إلى طبيعة و أهم مهام القاعدة العسكرية الروسية في السودان من خلال النقاط التالية:
1ـ نصت مسودة الاتفاقية التي نشرها الكرملين الروسي على إقامة قاعدة لوجستية في السودان، على أن يتم إقامتها بالقرب من الميناء التجاري السوداني الرئيسي – في بورتسودان – حيث تتمركز العديد من زوارق البحرية السودانية، ولمدة 25 عاماً، قابلة للتجديد، وبموافقة متبادلة. وستكون القاعدة قادرة على إرساء أربع سفن حربية “بما في ذلك السفن التي تعمل بالطاقة النووية”. ولن تدفع روسيا أي إيجار للسلطات السودانية، لكنها وافقت على شحن بعض الإمدادات العسكرية والأسلحة إلى السودان بدون مقابل بموجب اتفاق إضافي منفصل. وستنظم موسكو وتدفع تكاليف أعمال البناء لإنشاء القاعدة، بما في ذلك أماكن المعيشة والمستودعات ومرافق الصيانة البحرية والأرصفة.
2ـ ستوفر روسيا دفاعات مضادة للطائرات لتغطية كل من قاعدتها والقوات البحرية السودانية القريبة من بورتسودان. ولم تذكر مسودة الاتفاقية أي قاعدة جوية روسية في السودان، لكن يبدو أنها ستسمح للطائرات الروسية باستخدام المجال الجوي السوداني. وهناك مطار دولي كبير يقع جنوب بورتسودان، وقد يُسمح لموسكو بالاستفادة منه. ويمكن زيادة عدد العسكريين الروس في السودان إلى أكثر من 300 عسكري، بحسب مسودة الاتفاقية.
3ـ تمنح الاتفاقية روسيا حق استيراد الأسلحة والمعدات العسكرية اللازمة لتشغيل قاعدتها عبر المطارات والموانئ السودانية، دون أن تتمكن السلطات المحلية من السيطرة على الشحنات. وفي المقابل، ستقدم موسكو “المساعدة ” للبحرية السودانية في مهام البحث والإنقاذ أو “مكافحة التخريب”، والاستفادة من حماية أنظمة الدفاع الروسية المثبتة لحماية القاعدة.
ثانياً: دلالات التوقيت
تتمثل أبرز دلالات الاعلان عن مشروع اتفاقية بناء القاعدة العسكرية في هذا التوقيت فيما يلي:
1ـ عملت موسكو على تعزيز علاقاتها مع الخرطوم بعد الإطاحة بالبشير في إبريل 2019، فوقعت حكومة البلدين في مايو 2019، اتفاقيتين عسكريتين جديدتين،إحداهما تهدف إلى تبادل الخبرات في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والآخر لتعزيز التعاون في المجال البحري. وفي نوفمبر 2020، أعطت الرئاسة الروسية الضوء الأخضر لبناء قاعدة بحرية في بورتسودان. وأبدت موسكو اهتماماً أكبر لم تتوقعه السلطات السودانية في الوقت الذي بدأت فيه إدارة ترامب تعرب عن استعدادها لرفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
2ـ وجاء الاعلان عن مشروع الاتفاقية بعد أسابيع فقط من إعلان الإدارة الأمريكية عزمها حذف السودان من قائمة الدول الداعمة للإرهاب. بيد أن أن إدارة ترامب مارست ضغوطاً على الخرطوم من أجل التطبيع مع إسرائيل كشرط لرفع العقوبات. لذلك يشير بعض المراقبين إلى أن الاعلان من جانب الروس في ذلك التوقيت هدف إلى إرسال رسالة مفادها أن موسكو مستعدة للعمل مع الخرطوم عندما لا ترغب الدول الأخرى.
ثالثاً: الدوافع الروسية
تتمثل أبرز دوافع روسيا لإقامة قاعدة عسكرية في السودان، فيما يلي:
1ـ الحصول على موطىء قدم على ساحل البحر الاحمر والقرن الأفريقي، فبعد أن رفضت جيبوتي الطلب الروسي، لجأت موسكو إلى السودان لإعادة تأكيد وجودها في المنطقة (منذ إغلاق القاعدة السوفيتية في الصومال عام 1977)، وقد حاولت روسيا في وقت سابق إقامة القاعدة في اليمن لكن حالة عدم الاستقرار السياسي التي أعقبت الإطاحة بالرئيس اليمني علي عبد الله صالح في عام 2012 أدت إلى تعثر هذه الخطة فأعادت روسيا توجيه تركيزها على بناء قاعدة في منطقة القرن الأفريقي. وفي عام 2014، انخرطت روسيا في مفاوضات لبناء القاعدة في جيبوتي، لكنها رفضت طلب موسكو استجابة للضغط الأمريكي. وفي سبتمبر2018، أجرى وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف محادثات مع المسؤولين الإريتريين حول إقامة مركز لوجستي على ساحل البحر الأحمر. ومع ذلك، لم يتم إحراز أي تقدم ملحوظ في هذا المشروع. ثم عرض السودان على روسيا في عهد البشير، استضافة القاعدة.
2ـ التمدد الاقليمي، حيث يمثل مشروع بناء قاعدة عسكرية لروسيا في البحر الأحمر بالفعل امتداداً إقليمياً لأول قاعدة روسية في الخارج تقع في طرطوس بسوريا، حيث تنفق موسكو ما يقرب من 46 مليون دولار سنوياً لتوسيع مرافقها هناك. وتنظر موسكو إلى البحر الأحمر كمسرح مستقبلي لإبراز قوتها البحرية. لاسيما أن السودان يتمتع بموقع استراتيجي على البحر الأحمر.
3ـ حماية المصالح الروسية ومكافحة القرصنة في البحر الأحمر والمحيط الهندي، فبرغم أن روسيا اعتمدت خلال العقد الماضي على الولايات المتحدة والصين لتأمين البحر الأحمر من القرصنة، إلا أن موسكو يمكنها استخدام القاعدة في السودان للعب دور نشط في مكافحة القرصنة. حيث تشير البحرية الروسية إلى القرصنة في المحيط الهندي، إلى جانب خليج غينيا والمحيط الهادئ، على أنها تهديد أمني خطير، ففي أكتوبر 2008، نشرت روسيا فرقاطة في خليج عدن تحسباً لقيام القراصنة الصوماليين بتهديد المواطنين الروس.
4ـ دوافع اقتصادية، حيث تعزز القاعدة البحرية الروسية من حماية طريق التجارة عبر قناة السويس التي تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر. ونظراً لأن روسيا تتعاون مع المملكة العربية السعودية من أجل المحافظة على استقرار أسعار النفط العالمية، فسوف يساعدها الوجود الروسي في المنطقة على منع المتمردين الحوثيين في اليمن أو حركة الشباب من تعطيل المرور اليومي لـحوالي 4.7 مليون برميل من النفط عبر باب المندب، بالإضافة إلى حماية الاستثمارات الروسية في السودان. ناهيك عن أن روسيا توفر أكثر من 80% من أسلحة السودان منذ عام 2003، كما نشرت مجموعة فاغنر في السودان منذ عام 2018 وتم تكليفها بحراسة مناجم الذهب السودانية التي تديرها M-Invest (المرتبطة بشركة واغنر Wagner.
رابعاً: تداعيات محتملة
يمكن إجمال أبرز التداعيات المحتملة لإقامة قاعدة روسية في السودان فيما يلي:
1ـ تصاعد التنافس الدولي في المنطقة، فمن المحتمل أن تنظر الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي،لاسيما فرنسا، إلى الوجود الروسي في السودان على أنه تهديداً لمصالحها. وقد أشار القائد السابق لأسطول البحر الأسود الروسي فلاديمير كومويدوف من أن القاعدة البحرية تهدف إلى تحدي هيمنة الولايات المتحدة على المحيط الهندي. كما أن الاعلان عن مشروع اقامة القاعدة يتزامن مع اقتراب انتهاء مهام القوة البحرية التابعة للإتحاد الأوروبي (EU NAVFOR) التي تقوم بمكافحة القرصنة في البحر الاحمر، مع نهاية ديسمبر الحالي، وقد تحل السفن الحربية الروسية المتمركزة في السودان محل القوات الأوروبية لمكافحة القرصنة.
2ـ تصاعد حدة التنافس الروسي- التركي في المنطقة، حيث تمثل القاعدة الروسية تحدياً طويل الأمد لمصالح تركيا في السودان، لاسيما تطلعات تركيا إلى بناء قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن. لذلك من المحتمل أن تنظر تركيا للقاعدة الروسية في السودان على أنها تهديداً لمصالحها، لاسيما أن استثمارات أنقرة بلغت حوالي 650 مليون دولار في جزيرة سواكن.
3ـ تعزيز فرص التعاون المصري- الروسي في منطقة البحر الأحمر، وذلك في ضوء العلاقات الاستراتيجية المصرية – الروسية المتنامية، وكذلك العلاقات العربية- الروسية، فمن المتوقع أن يساعد بناء قاعدة عسكرية في المنطقة إلى تعزيز العلاقات بين الجانبين، وخاصة بعد أن تم في يناير 2020، اجتماع ممثلين من جيبوتي ومصر وإريتريا والمملكة العربية السعودية والصومال والسودان والأردن واليمن في الرياض لتدشين المجلس الجديد للدول العربية والأفريقية المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن. والذي يهدف إلى حماية أمن البحر الأحمر.
خامساً: سيناريوهات الوجود العسكري الروسي في البحر الأحمر
هناك عدد من السيناريوهات المحتملة للوجود العسكري الروسي في البحر الأحمر، وتتمثل فيما يلي:
السيناريو الأول، التمدد الروسي في المنطقة، فلدى روسيا تطلعات ومحاولات لبناء قاعدة عسكرية في السودان وأيضاً في اريتريا وجنوب اليمن وصوماليلاند، وهي مستعدة لتقديم الحوافز السياسية والمساعدات العسكرية لاتمام مثل هذه الصفقات، وتمر المنطقة بحالة من عدم الاستقرار السياسي، وتبدو إدارة بايدن التي ستتولى السلطة في يناير المقبل غير متحمسة للانخراط بشكل مباشر في صراعات المنطقة، أو حتى الانخراط الواسع في عمليات مكافحة الارهاب، وقد صرح بايدن بضرورة إنهاء حروب الولايات المتحدة الأبدية، لاسيما حاجة اريتريا لدور ودعم روسي في حال استمرت هجمات جبهة التيجراي على العاصمة أسمرا، بينما تتطلع السودان إلى الدعم الروسي لإعادة بناء المؤسسة العسكرية وحاجتها للخبرة الروسية في تدريب وتسليح الجيش السوداني، وأيضاً دور أمني نشط في مكافحة الإرهاب في المنطقة، ومن ثم ربما تملك روسيا العديد من الفرص المغرية لدول المنطقة، التي ربما لاتكون إدارة بايدن مستعدة للوفاء بها في الوقت الراهن نتيجة انشغالها بالتحديات الداخلية، لاسيما التوترات العرقية، وتحديات مواجهة وباء كورونا وتداعياته الاقتصادية، بالاضافة إلى حماية مصالحها في منطقة الشرق الأوسط وشرق أسيا.
السناريو الثاني، التمدد الروسي المحدود في المنطقة، فبرغم فرص التعاون العسكري والأمني التي تعرضها موسكو على الخرطوم ودول المنطقة مثل اريتريا، لكن ثمة العديد من التحديات التي لاتزال تعوق اتمام مثل هذه الصفقة بين روسيا والسودان، وهو أنه برغم عدم تحمس إدارة بايدن للإنخراط في صراعات المنطقة، ولكن لايزال لديها الكثير من أوراق الضغط، لاسيما الاستمرار في العمل وفق توجهات إدارة ترامب فيما يخص رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، واحتمال ممارسة الضغوط عليها لمنع إتمام الصفقة الروسية، ولذلك من المتوقع أن تستمر واشنطن في ممارسة الضغوط على كل من السودان واريتريا لتعطيل الخطة الروسية لبناء قواعد عسكرية في الدولتين وتعزيز الوجود الروسي في المنطقة.
سادسا: أبرز التحديات
لاتزال روسيا تواجه العديد من التحديات لتعزيز وجودها ونفوذها العسكري في المنطقة، فبالإضافة إلى تحدي النفوذ الأمريكي في المنطقة، تواجه روسيا أيضاً تحدي النفوذ الفرنسي، وعلى سبيل المثال، أعلنت روسيا في ديسمبر 2019 توسيع التعاون العسكري والبحري مع أثيوبيا، رداً على توقيع فرنسا اتفاقية تعاون عسكري مع أثيوبيا في مارس 2019. وفي المقابل، تجد روسيا في الوجود العسكري الصيني فرصة لتعزيز التعاون مع الصين في مواجهة الوجود الفرنسي والأمريكي في المنطقة. ومن ناحية أخرى تعمل روسيا على تعزيز وجودها العسكري في البحر الأحمر عبر تعزيز علاقاتها مع المجلس الانتقالي الجنوبي في اليمن، والذي عملت روسيا منذ مارس 2019 على اقامة روابط وثيقة معه بهدف الحصول على موطىء قدم لها في عدن. وبالتالي، يبدو أن روسيا تعمل على تكثيف تحركاتها لتعزيز علاقاتها مع دول المنطقة لبناء قواعد عسكرية، لاسيما في السودان واريتريا وصوماليلاند وجنوب اليمن. ومن ثم، سوف يعتمد تمددها العسكري في المنطقة على قدرتها على حشد مواردها وبناء شبكة تحالفات في المنطقة بشكل يساعدها على حماية مصالحها الأمنية ومصالحها حلفائها وشركائها مثل مصر وأثيوبيا أيضاً، وهو ما يفرض على روسيا دور نشط لإيجاد حل لأزمة سد النهضة. وبالتالي فإن مستقبل الوجود/الدور/النفوذ الروسي في المنطقة سوف يتاثر بقدرتها على حشد مواردها وقدراتها العسكرية والدبلوماسية لتقديم حلول لصراعات المنطقة وفرص للتعاون الأمني والعسكري.
خلاصة القول إن مستقبل اتمام الصفقة الروسية وبناء القاعدة العسكرية في السودان يظل رهناً بقدرة روسيا على حشد مواردها لتعزيز التعاون الأمني والعسكري مع السودان، وأيضاً خيارات الحكومة السودانية وتقديراتها للفرص التي يمكن أن تقدمها موسكو، والتفاهمات السياسية في الداخل السوداني حول اتمام الصفقة، بالإضافة إلى توجهات إدارة بايدن إزاء علاقاتها مع السودان ودول المنطقة، والحوافز أو الضغوط التي يمكن أن تقدمها أو تمارسها لتعطيل الصفقة. وقدرة المفاوض السوداني على استغلال وضعية التنافس الروسي- الأمريكي لتعظيم مكاسبه السياسية. وبالطبع سيكون لتوجهات إدارة بايدن حيال العديد من الملفات السياسية والأمنية في المنطقة تأثير هام في مستقبل العلاقات الروسية مع دول المنطقة، حيث استفادت روسيا من سياسة إدارة ترامب التي لم تكن متحمسة بشكل كاف للتعامل مع مشكلات القارة والمنطقة.
على أية حال، سيمثل الوجود العسكري الروسي في المنطقة فرصة استراتيجية تصب في صالح تعزيز المصالح المصرية والعربية، إذ يمكن توظيف هذا الوجود في اطار علاقة الصداقة المصرية الروسية للعمل على تطويق النفوذ التركي في المنطقة من ناحية، وتمكين روسيا من أن تلعب دور موازن للدور الأمريكي من ناحية أخرى، لاسيما فيما يتعلق بملف تسوية أزمة سد النهضة، وملف مكافحة الارهاب، وهو ما يتطلب من صانع القرار المصري والعربي التعامل مع هذه المتغيرات الجديدة بما يعزز المصالح المصرية والعربية على حد سواء.