تكشف بعض المؤشرات الأخيرة بشأن الملف التركي -ربما كان آخرها توقيع الولايات المتحدة وأوروبا عقوبات اقتصادية وعسكرية على أنقرة- أن تركيا مُقبلة خلال الفترة القادمة على دفع تكلفة سياسية واقتصادية باهظة على الصعيد العالمي، ما لم تتراجع عن بعض سياساتها المرفوضة إقليميًا ودوليًا، واستطاعت امتصاص هذه الضغوط أو الالتفاف عليها عبر تفاهمات معينة.
ومما لا شك فيه أن دخول تركيا إلى هذا المربع الحرج، الموصوم بالتوتر والتصادم المتزامن مع أقطاب دولية وإقليمية في آن واحد؛ إنما هو وضع استراتيجي صعب بالفعل، حيث لم يسبق لتركيا خلال تاريخها الحديث أن دخلته، أو حتى اقتربت منه، وهي الدولة التي داومت على تأدية أدوار وظيفية في المنطقة اتساقًا مع السياسة الأمريكية والسياسات الأوروبية بشكل عام. بل إنها كانت في بعض الأوقات بمثابة مخلب القط لبعض مشاريع تغيير الشرق الأوسط الطامحة لدمج إسرائيل في المنطقة عبر البوابة التركية. لذا يمكن القول إن الحالة التركية الراهنة تبدو استثناءً وقتيًا، ومرضًا عارضًا، قد يزول بزوال مسبباته، والتي يقف على رأسها طبيعة النظام السياسي الحاكم في تركيا الآن، بتوجهاته الأيديولوجية المعروفة، والذي ارتد بتركيا من خلالها نحو مسارات وسياسات عفى عليها الزمن، ستقود حتمًا لارتدادات مقابلة، قد لا تتحملها الدولة التركية داخليًا وخارجيًا.
لا شك أن محور الخلاف التركي مع بعض القوى العظمى ومع القوى الإقليمية الكبرى في الإقليم، وعلى رأسها مصر والسعودية، هو مسألة الاندفاع التركي غير المبرر للانخراط العسكري خارج حدودها، في عدة أزمات تشكل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي العربي، كما حدث في سوريا والعراق وليبيا ومنطقة الخليج والصومال وغيرها، لذلك صدرت تحذيرات عديدة من بعض الدوائر الدولية ومن بينها فرنسا وإسرائيل بضرورة إيقاف مثل هذه السياسات العدائية، التي تزداد شراهةً يومًا بعد آخر، على نحو يُخشى معه أن تخرج تركيا عن السيطرة، كما حدث في حالات سابقة في تاريخ العلاقات الدولية، ربما أشهرها الحالة النازية في النصف الأول من القرن الفائت. ويبدو من سياقات الأحداث والمواقف الدولية القوية ضد تركيا، أن القوى الكبرى في العالم وعت جيدًا الدرس النازي ولن تكرره مرة أخرى. فماذا عن موقف الداخل التركي المتفاعل والمترقب لكل هذه التحركات؟
موقف الداخل التركي من الانخراط العسكري خارج الحدود
١. موقف الشارع التركي:
الشارع التركي متأثر بالآلة الإعلامية للحزب الحاكم، وهو مراقب لمجمل هذه التحركات، لكن من الواضح أن موقفه ليس على نفس المستوى من التأييد أو الدعم في حالات التدخل المختلفة التي قامت بها تركيا. ففي الحالة السورية والعراقية مثلًا هناك تأييد من الشارع التركي لدور القوات المسلحة التركية خارج الحدود وللمهام التي يقوم بها، نتيجة تأثر المواطن التركي مباشرة بما يجري في سوريا والعراق، خاصة مع تزايد أعداد اللاجئين من هذه الدول داخل تركيا، وما يشكلونه من عبء على الاقتصاد التركي، ويُستثنى من هذا التأييد المجموعات الكردية والعلوية، التي تعتبر هذا التدخل يستهدف أشقاءهم في سوريا والعراق. بينما ثمة حالة من التردد وعدم اليقين من مسألة التدخل العسكري التركي في الأزمة الخليجية مثلًا في 2017، وفي التدخل التركي في ليبيا وشرق المتوسط كذلك، فحتى الآن لم يجنِ المواطن التركي أي مكاسب واقعية، بل بالعكس وجد نفسه أمام سيف العقوبات الأمريكية والأوروبية، وأمام مقاطعة للمنتجات التركية من جانب بعض الدول العربية، كما تضرر القطاع الخاص التركي من الموقف التركي المنحاز لقطر، حيث خرجت رؤوس أموال تركية كثيرة من السعودية والإمارات، وتوقفت بعض المشاريع المشتركة، كما توقفت الاستثمارات الخليجية لهذه البلدان في تركيا، سواء الاستثمار المباشر، أو الاستثمارات غير المباشرة، مثل السياحة وشراء العقارات وغيرها.
٢. موقف المؤسسات (الدولة العميقة):
بالنظر لنجاح حزب العدالة والتنمية في تجريف المؤسسات التركية من الكوادر المعارضة لسياساته، وكان آخرها الضربات المتتالية للجيش وأجهزة الأمن والاستخبارات، خاصةً عقب المحاولة الانقلابية في 2016، فإن من الصعوبة بمكان أن توجد مواقف معارضة قوية وظاهرة لبعض سياسات الحكم الحالي، ومع ذلك ظهرت تباينات إزاء موقف المؤسسات التركية من مسألة الدور العسكري الخارجي، عبرت عنها بعض الأصوات الصحفية القريبة من هذه المؤسسات في بعض المقالات في الإعلام التركي، كما ظهرت في بعض المؤتمرات والندوات التي عُقدت داخل وخارج تركيا وحضرها شخصيات عسكرية تركية أو شخصيات محسوبة على هذه المؤسسات، وملخص هذا الجدل هو وجود تأييد شبه كامل داخل هذه المؤسسات لعملية الانخراط العسكري خارج الحدود في كل من سوريا والعراق، حيث تنظر هذه المؤسسات لسوريا والعراق على أنها الحديقة الخلفية لتركيا، وتقع بشكل مباشر ضمن دائرة الأمن القومي التركي، بينما لا يوجد نفس هذا المستوى من الإجماع بشأن مسألة التدخل العسكري التركي في الأزمة الخليجية، فهناك أصوات من داخل هذه المؤسسات تتحدث عن مدى المكاسب التي حققتها تركيا من هذه الخطوة، في مقابل استعداء دول خليجية أخرى لها وزنها الاقتصادي والسياسي في المنطقة خاصة السعودية والإمارات، ويشككون في مدى اتساق التحركات التركية في الخليج منذ 2017 وحتى الآن مع مصالح تركيا العليا، ويلمحون للبعد الأيديولوجي المرتبط بمسألة مشروع دعم الإسلاميين في المنطقة العربية، علاوة على ما سببته القاعدة التركية في قطر من قلق للولايات المتحدة ودول أخرى في المنطقة.
أما بالنسبة للتدخل العسكري التركي في ليبيا وشرق المتوسط، فمن الواضح أن الدولة العميقة في تركيا خاصة الدوائر الاقتصادية والمالية تدعم هذه السياسة، لاعتبارات اقتصادية بالأساس، فبعد الاتفاقية التي وقّعتها تركيا مع حكومة “السرّاج” بشأن ترسيم الحدود البحرية، اعتبرت هذه المؤسسات أن ليبيا وشرق المتوسط جزء من الأمن القومي لتركيا، فبدونها لن تتمكن من الدخول المشفوع بحجج شرعية لشرق المتوسط، حيث موطن الغاز ومكامن الطاقة التي يمكن أن تحول تركيا لدولة مصدرة للطاقة بدلًا من كونها دولة مستوردة لها، أما على مستوى دوائر الاستخبارات وأجهزة الأمن القومي فهناك تشجيع كبير للتحرك التركي العسكري في ليبيا وشرق المتوسط اتساقًا مع عقيدة “الوطن الأزرق” الذي تروج له بعض الأصوات داخل هذه المؤسسات، ومضمونه ضرورة خروج تركيا من قيودها الجغرافية التي فرضت عليها من القوى الكبرى في تسويات سيفر ولوزان، عبر فضاءات بحرية باتجاه البحر الأسود شمالًا والبحر الأبيض المتوسط جنوبًا، والمؤسسة العسكرية التركية تنفذ هذه الرؤية الجديدة، دون اعتراض من جانبها، مع بعض التحفظات على تكتيكات الحركة. فالمؤسسة العسكرية التركية تدرك جيدًا خطورة الموقف في ليبيا، ومدى اختلافه عن تجربتها الحالية في سوريا والعراق، بالنظر للبعد الجغرافي، وصعوبات الدعم اللوجستي وغيرها، ودومًا ما تحذر من ربط هذا التدخل بتحالفات سياسية أيديولوجية، وتدلل على ذلك بفشل تجربة تأسيس وجود عسكري لتركيا في السودان، بعد نجاح الثورة السودانية في 2019 في الإطاحة بالإخوان المسلمين من الحكم. كذلك هناك قلق داخل المؤسسة العسكرية التركية من فرص استمرار الوجود العسكري التركي في الصومال، والمعتمد أيضًا على التحالف مع أطراف داخلية قريبة من الإسلاميين، قد تتغير في أي وقت، في دولة هشة سياسيًّا وأمنيًّا.
٣. موقف الأحزاب المعارضة:
تعتبر قضية التدخل العسكري خارج الحدود إحدى القضايا المهمة التي ترفعها الأحزاب المعارضة في وجه التحالف الحاكم، ومع ذلك يلاحظ أن مواقف هذه الأحزاب متذبذبة، ففي حالة سوريا خفتت أصواتها لاعتبارات كثيرة ومعروفة، وحتى لا تخسر الشارع التركي المتحمس للتدخل في سوريا والعراق، بينما تتعالى أصوات هذه الأحزاب في مسألة التدخل العسكري الأخرى، ولا تزال هذه الأحزاب على موقفها الرافض للتدخل التركي في ليبيا حتى الآن، على أساس أنه تدخل يفتقر للعمق والتاريخ والخبرة والمصلحة القومية، وأنه مؤسس على دعم تنظيم الإخوان. أيضًا هناك أصوات كثيرة من داخل هذه الأحزاب تطالب الحكومة التركية بمراجعة موقفها الاستراتيجي في الخليج، وتصحيح الأخطاء التي ارتُكبت هناك، ويطالبون بإعادة النظر في جدوى التحالف الاستراتيجي مع قطر، في مقابل معاداة السعودية والإمارات، ودومًا ما تثير هذه الأحزاب خاصة حزب الشعب الجمهوري هذه المسألة في البرلمان التركي.
خلاصة الموقف الداخلي في تركيا من قضية الانخراط العسكري خارج الحدود تشير إلى أن هذه القضية ستظل محل جدل، وشد وجذب، خاصة على مستوى المؤسسات التركية العميقة والأحزاب المعارضة، والقاسم المشترك بينها هو التخوف والتشكك من أن تكون سياسة الانخراط العسكري خارج الحدود مُؤسسة على اعتبارات أيديولوجية بحتة، وليس وفق مقتضيات الأمن القومي التركي وأهدافه العليا، بينما الشارع التركي غير مهتم بها إلا بقدر تأثره من تداعياتها المباشرة عليه، والتي ظهرت بوادرها مؤخرًا في العقوبات الأمريكية والأوروبية والموقف العربي المتصاعد ضد تركيا، على المستويين الرسمي والشعبي.
تكلفة الارتداد من العمق الاستراتيجي للعمق الحضاري
من المهم فهم سياسة الانخراط العسكري التركي خارج الحدود في سياقاتها الاستراتيجية والعسكرية، فنظرية الأمن القومي التركي تغيرت، حيث توارت نظرية العمق الاستراتيجي لصالح نظرية أخرى يروج لها حاليًا داخل تركيا وهي نظرية العمق الحضاري. وتقول النظرية الجديدة: إن مسألة تصفير المشكلات مع الإقليم أمر شبه مستحيل تقريبًا، وإنه من الأفضل لتركيا أن تعود لعمقها الحضاري، أي تلك المناطق التي كانت تتمتع فيها بنفوذ وإرث تاريخي معين (ديمغرافي/ ثقافي/ اقتصادي/ جيواستراتيجي..)، وهذه النظرية لا يوجد إجماع عليها من المؤسسات والنخب التركية، ومع ذلك اضُّطر الجيش التركي للاستجابة لهذا التحول في الاستراتيجية القومية عبر استراتيجية عسكرية جديدة، تم من خلالها توسيع المجال العملياتي للجيش التركي، وزيادة قدرات التصنيع العسكري المحلي، وزيادة مستويات التعاون العسكري مع دول النطاق الحضاري، وهو بلا شك يمثل عبئًا إضافيًا على القوات المسلحة التركية التي باتت مطالبة بالتواجد والعمل في أكثر من مسرح عمليات، وبعضها في توقيتات متزامنة، كما هو حاصل حاليًا في سوريا وليبيا وشرق المتوسط والعراق، وهو ما سيُرهق هذه القوات، ويشتت جهودها، ويضعها أمام عملية استنزاف مستمر لقدراتها ولرصيدها في الداخل والخارج.
تكلفة الارتداد من العمق الاستراتيجي للعمق الحضاري ستصل للداخل التركي خلال الفترة القادمة، فلا يوجد إجماع داخل تركيا على مسألة التدخل العسكري خارج الحدود، خاصةً وأن الشعب التركي لم يرَ مردودًا إيجابيًا لهذه السياسة على حياته اليومية، بل بالعكس وجد الشعب التركي نفسه في حالة معيشية صعبة، نتيجة الإنفاق العسكري على المهمات الخارجية، فالليرة التركية تتهاوى، وعجز الميزانية يتفاقم، وتستمر معاناة قطاع كبير من الشعب التركي من أزمة اقتصادية ومعيشية، يضيق خناقها يومًا بعد يوم، مع ارتفاع مستويات التضخم العامة في الاقتصاد، التي عززتها ضعف مستويات السياحة بسبب أزمة كورونا، وتراجع الثقة الدولية في الاقتصاد التركي بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية، التي ستطال حتمًا قطاعات حساسة في الاقتصاد التركي. كل هذه المؤشرات ستقود لارتدادات داخلية في غير صالح التحالف الحاكم بقيادة العدالة والتنمية. ومعظم استطلاعات الرأي تشير إلى ذلك فعليًّا، وكل المراقبين ينتظرون انعكاسات هذه التحولات في الاستراتيجية القومية والاستراتيجية العسكرية على مسارات الانتخابات الرئاسية القادمة في 2023 والانتخابات البرلمانية في 2024، وربما تكون هناك انتخابات مبكرة يتضح فيها حصاد السياسة التركية الحالية، التي جعلت تركيا لأول مرة في تاريخها في موقف استراتيجي سيئ وفق الحسابات المعروفة.