أعرف أن الكثيرين سوف يتناولون ذات التاريخ ولكن عن عام 2011، ولهم وللمناسبة كل الحق بما لها وما عليها، ولكنني وددت أن أعود إلى الوراء لذات التاريخ ولكن عام 1952 ومن مدينة الإسماعيلية الباسلة، حتى لا تُنسى تلك الصفحة من تاريخ النضال المصري التي كانت وغيرها إحدى المقدمات الحتمية لقيام ثورة 23 يوليو من العام نفسه بقيادة الرئيس جمال عبدالناصر ورفاقه من الضباط الأحرار، حيث تمكنت تلك الثورة من إجلاء المستعمر البريطاني عن مصر بعد عامين فقط من قيامها، وهم من مكثوا بها قرابة اثنين وسبعين عامًا ومنذ عام 1882.
فإلى الإسماعيلية.. فعندما أشارت عقارب الساعة إلى الواحدة ظهرًا وفور الانتهاء من صلاة الجمعة، بدأت جنازير الدبابات البريطانية تهدر على الطرق المؤدية من القيادة البريطانية لمنطقة قناة السويس بالإسماعيلية (معسكر الجلاء حاليًا) صوب قسم الشرطة ومديرية أمن الإسماعيلية المجاورة. فقد انتهت المُهلة التي حددها القائد البريطاني لكليهما بتسليم أسلحتهم له والمغادرة إلى القاهرة! طالما لم يمتثلوا لأوامر ممثل جيش بريطانيا العظمى. إذن، فقد حان وقت العقاب والتنفيذ بالقوة. فما هي الخلفية التي أوصلت الموقف إلى ذلك؟
كان ضمن ما أسفرت عنه معاهدة عام 1936 بين مصر وبريطانيا بما لها وما عليها، أن تتجمع القوات البريطانية من كل ربوع مصر في منطقة قناة السويس فقط (بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، التل الكبير) على أن يكون مقر قيادتها بالإسماعيلية، وكان هذا من ضمن إيجابيات المعاهدة، أما أهم سلبياتها فتَمثل في سطوَة المندوب السامي البريطاني ممثل دولة الاستعمار والانتداب في القاهرة، وتدخله في الشأن السياسي المصري الذي جعل مصر دولة منقوصة السيادة مما زاد حنق الشارع المصري الوطني.
قرب نهاية الحرب العالمية الثانية 1939-1945، وتحول الحلفاء (بريطانيا، وفرنسا) من الهزائم إلى الانتصارات بعد تدخل الولايات المتحدة، وتحقيق القوات البريطانية بقيادة مونتجومري نصرًا هامًا على القوات الألمانية -زعيمة المحور- بقادة روميل في معركة العلمين بشمال مصر، والتي طلبت بريطانيا قبلها من مصر إعلان الحرب على ألمانيا مقابل أن تحصل مصر على استقلالها في حالة انتصار بريطانيا، وأعلنت مصر الحرب وانتصرت بريطانيا ولكنها لم تفِ بعهدها (مما زاد حنق الشارع المصري ضد بريطانيا).
ادعت بريطانيا عدم قدرتها على السيطرة على الموقف في فلسطين نتيجة تفاقم الصراع بين العرب واليهود، سواء المقيمين أو المهاجرين، وطلبت تقسيم فلسطين فيما بينهما، وفعلًا صدر قرار الأمم المتحدة الظالم رقم 181 في نوفمبر 1947 بالتقسيم، فهبت المقاومة المصرية وبعض الدول العربية المحيطة بفلسطين بدخولها، والقيام بأعمال فدائية، ولكن ما زاد الطين بِلة هو إعلان بريطانيا لاحقًا إنهاء انتدابها على فلسطين عدا القدس، وقيام دولة إسرائيل في 15 مايو عام 1948، ليتحقق وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني عام 1917(مما زاد حنق الشارع المصري ضد بريطانيا).
هبت مصر وخمس دول عربية أخرى إلى فلسطين بجيوش رمزية باعتبار أن القوات الإسرائيلية لا تعدو مجموعة من العصابات، ولم تكن كذلك، بل كان جيشًا منظمًا جيد التسليح ذا قيادات وكوادر جيدة شاركت في الحرب العالمية الثانية مع الحلفاء بقوات الفيلق اليهودي الذي تمت مكافأته بعد الانتصار ليهاجروا إلى فلسطين بأسلحتهم، مما أخَل بميزان القوى لصالح إسرائيل ضد العرب. وفي المقابل، قال وزير الحربية المصري للملك فاروق المؤتمِر بأمر المندوب السامي البريطاني ألا يقلق فهي مجرد نزهة عسكرية! ولم تكن كذلك أيضًا، وهزمت الجيوش العربية الرمزية ومنها الجيش المصري الذي عانى من مشاكل التسليح والذخائر، وحوصرت بعض قواته في الفالوجا حيث كان الرائد الصاغ جمال عبدالناصر هو الرجل الثاني للقوات المحاصَرة ومعه بعض الضباط الأحرار الذين عادوا يشاركون الشعب المصري الحنق على بريطانيا، والأكثر هو غضبهم من قيادة الجيش المصري، حيث شعروا بجرح في الكرامة العسكرية والوطنية.
وهنا، اندلعت في مصر بلا هوادة حرب الفدائيين من العسكريين والمدنيين المتطوعين ضد القوات البريطانية في منطقة القناة، وكان المسئول عن ذلك من الضباط الأحرار الرائد زكريا محيي الدين، وعن التسليح الرائد كمال الدين حسين، الذي كان يوفره إما خلسة من الجيش أو المستولى عليه من معسكرات الجيش البريطاني، خاصة في التل الكبير، ويخزن في قرية (القورين) القريبة وقرى أخرى تحت الطلب.
استمر ذلك من منتصف عام ١٩٤٩ إلى ١٨ أكتوبر ١٩٥١ حيث ألغى رئيس الوزراء مصطفى النحاس معاهدة ١٩٣٦ ليُلغى معها كثير من النفوذ البريطاني في مصر، لتزداد الحركة الوطنية اشتعالًا بالأعمال الفدائية النوعية المؤثرة، واكبها ضربة أخرى لم تتوقعها المعسكرات البريطانية حين تقدم معظم العاملين المصريين باستقالتهم وكذلك موردي الأغذية، حيث عوضتهم الحكومة المصرية، وهنا استشاطت القيادة العسكرية البريطانية غضبًا بقيادة الجنرال جورج أريكسون الذي أصدر أوامره لقائد منطقة القنال العسكرية البريجادير (العميد) كينث إكسهام بإخلاء قسم الشرطة ومديرية الأمن ومعسكرات الدرك (كالأمن المركزي لاحقًا) الملحقة، ثم تمشيط حي الثلاثيني البلدي المجاور (الحي الإفرنجي مخصص للقيادة البريطانية ومرشدي القناة)، حيث يتخفى الفدائيون أو اللجوء من الملاحقة البريطانية إلى ثكنات البوليس المذكورة.
أعَد العميد إكسهام إنذارًا لقيادة عناصر (البوليس) الشرطة السابق ذكرها، وسلمه لضابط الاتصال المصري البكباشي (المقدم) شريف العبد الذي سلمه بدوره لمدير الأمن الساعة السادسة صباح يوم الجمعة 25 يناير ١٩٥٢، على أن تنتهي مدة الإنذار في الواحدة ظهرًا عقب صلاة الجمعة. وهنا استدعى مدير الأمن اللواء أحمد رائف عناصر قيادته، وهم: وكيل المحافظة السيد علي حلمي، وضابطا قسم الشرطة اليوزباشي (النقيب) مصطفى رفعت والملازم أول عبدالمسيح (لم يعرف باقي الاسم) لتدارس الأمر، ثم اتخذوا قرارًا بالإجماع بعدم التنفيذ وعدم الانسحاب، وأبلغوا قرارهم لوزير الداخلية فؤاد سراج الدين، الذي صدق عليه وطالب بالقتال إلى آخر رجل وآخر طلقة، وتمنّى لهم التوفيق (ولكن للأسف لم يتم إمداد عاجل بالأسلحة والذخيرة قبل نهاية مدة الإنذار لسبع ساعات، وبالتأكيد أبلغ وزير الداخلية الملك فاروق، وللأسف مرة أخرى لم يَتخِذ أي إجراء مع المندوب السامي البريطاني لتدارك الموقف سياسيًّا).
تلقى القائد البريطاني الرفض المصري، فتحركت قواته بقوة ٧٠٠ مقاتل داخل عرباتهم المدرعة وأمامهم ٦ دبابات (سنتوريان) ذات مدفع ١٠٠ مم، وخلفهم وحدة مدفعية ٢٥ رطلًا، وفي الاحتياطي الخلفي باقي الـ٧٠٠٠ مقاتل، كل هذا ضد ٨٠٠ فرد شرطة معظمهم مسلح ببندقية فردية الطلقات طراز (ليانفيلد). وتوقفت القوات المجنزرة على مسافة محدودة خارج مدة طلقات بنادق الشرطة، وتقدمت الدبابات إلى مسافة أقرب للإرهاب النفسي، على أن تتم محاصرة المباني من جميع الجهات عدا جزء من بلوكات النظام تسمح بالانسحاب للقوات المصرية إذا فكروا في ذلك، على أن يتولى الاحتياطي الضخم تمشيط المكان بما فيه القرى المحيطة.
على الجانب الآخر، أتم رجال الشرطة صلاة الجمعة وتعاهدوا أمام الله على التضحية، وأن يُثبّت الله أقدامهم، واتخذوا أماكنهم خلف النوافذ وخلف أسوار الأسطح، وأغلقوا الأبواب الخارجية بالسلاسل والحجارة، وكان ذلك بمثابة الإشارة الأخيرة برفض إنذار القائد البريطاني الذي أمر دباباته بإطلاق قذائفها شديدة الانفجار على الأسوار والنوافذ، مع التركيز على نوافذ الدور الأرضي لتكون طرق اقتحام متعددة، كما أن الانفجار داخل الغرف تنتج عنه شظايا قاتلة وموجة ضغط مضاعفة لزيادة الخسائر، وتلاها بضرب مساحي من المدفعية على ساحات معسكر الدرك. ثم أمر ناقلات الجند المدرعة بالتقدم إلى قرب المباني لتحقيق أكبر وقاية لقوات المشاة قبل أن تترَجل منها لاقتحام المباني.
دارت معركة مريرة وغير متكافئة لأكثر من ثلاث ساعات منها ساعة للتمهيد النيراني بالدبابات والمدفعية، وقاتل فيها رجال الشرطة ببسالة وشراسة من غرفة إلى غرفة وقتال متلاحم يد بيد، وبالأسلحة البيضاء (السونكي) بعد نفاد الذخيرة، لتُسفر المعركة عن تكبيد العدو ١٨ قتيلًا و١٢ جريحًا، وخسرت قواتنا ٥٠ شهيدًا و٨٠ جريحًا معظمهم نتيجة شظايا الدبابات والمدفعية. وسيطر العدو على المباني والمعسكر ليخرج من تبقى من رجالنا إلى منطقة تجمع، وأثناء خروجهم أمر القائد البريطاني باصطفاف ٤٠ مقاتلًا من رجاله كحرس شرف يؤدون لهم التحية العسكرية، تقديرًا لشجاعتهم في معركة هو يعرف أنها غير متكافئة.
عرف شعب مصر ما حدث من الإذاعة وصحيفة “الأهرام” اليوم التالي ٢٦ يناير، حيث تم حريق القاهرة في موجة غضب شعبي عارم فجرت كل مواقف الحنق السابقة ضد الاستعمار والملك، وكان أحد التداعيات التي أدت بعد عدة أشهر إلى قيام الضباط الأحرار بثورة ٢٣ يوليو من العام نفسه ١٩٥٢، وقد كانت في بدايتها ضد قيادة الجيش، ثم امتدت بعد ثلاثة أيام لإجلاء الملك إلى خارج مصر، لينتهي حكم أسرة محمد علي الذي بدأ عام ١٨٠٥ وامتد قرابة ١٤٧ عامًا، ليعود حكم مصر إلى شعب مصر.
بعد الثورة بعامين فقط وفي ١٨ مايو ١٩٥٤ تم إجلاء القوات البريطانية -دون سلاحها ومعداتها- إثر توقيع اتفاقية الجلاء بين جمال عبدالناصر رئيس وزراء مصر والقيادة البريطانية، لتتشارك الدولتان في حماية قناة السويس طبقًا للموقف، ولكن تلك الأسلحة آلت إلى مصر عندما اشتركت بريطانيا في الحرب ضدها بالعدوان الثلاثي مع فرنسا وإسرائيل عام ١٩٥٦ إبان حكم الرئيس عبدالناصر خلفًا للرئيس محمد نجيب.
وهكذا طُويت صفحة مضيئة من تاريخ النضال المصري، حيث سطّر رجال الشرطة المصرية جزءًا هامًا منها، يربطها خيط بطولة يمتد من النصب التذكاري لتمثال جندي الشرطة بميدان محافظة الإسماعيلية ١٩٥٢ إلى النصب التذكاري الذي سيقام قريبًا في رفح والشيخ زويد ليُخلد بطولات الشرطة والجيش، حيث سيصبح الإرهاب الأسود هناك جزءًا من الماضي.