تعددت المحاولات والمبادرات الرامية نحو طرح سبل لحل الأزمة الليبية، ولكن إلى الآن لم يكلل أي منها بالنجاح لأسباب مختلفة. والآن، يقف الفرقاء الليبيون أمام مبادرة جديدة تطرح حلًا لحالة الجمود السياسي، وهي نتاج العديد من الجولات الحوارية بين أطراف الأزمة، وثمة بارقة أمل تلوح في الأفق بشأن حدوث انفراجة على المدى القريب، خاصة في ظل التغيرات والمستجدات الدولية مع قدوم الإدارة الأمريكية الجديدة وما يمكن أن تحمله من فرص لتحريك العديد من القضايا الإقليمية العالقة.
وفي هذا الإطار، يحاول التحليل الراهن تناول السبيل المطروح مؤخرًا لحل الأزمة الليبية عن طريق اقتسام المناصب السيادية خلال المرحلة الانتقالية وفقًا لمبدأ المحاصصة الإقليمية، مع تحليل الفرص والتحديات المرتبطة بذلك المسار وتأثيره على مستقبل الأزمة الليبية.
المحاصصة الإقليمية ومقوماتها
توصلت اللجنة الاستشارية المنبثقة عن ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف إلى مقترح آلية اختيار السلطة التنفيذية الموحدة، وتم التصويت عليه برعاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا، حيث شارك 72 عضوًا من ملتقى الحوار السياسي الليبي في عملية التصويت، وصوّت 51 منهم لصالح الآلية المقترحة، أي حوالي 73% من الأصوات.
وفقًا للآلية المقترحة، يُقسَّم أعضاء ملتقى الحوار السياسي الـ75 إلى ثلاثة مكونات انتخابية استنادًا إلى أقاليم ليبيا الثلاثة، وتنتخب كل مجموعة ممثل إقليمها في المجلس الرئاسي، وينبغي أن يحصل المرشح على مصادقة ما لا يقل عن 70% من أصوات المجمع الإقليمي. وينتخب أعضاء ملتقى الحوار السياسي رئيس الوزراء الذي ينبغي أن يحصل على ما لا يقل عن 70% من أصواتهم. وحال تعذر ذلك، يتم اعتماد نظام القوائم، بحيث يصوت أعضاء الملتقى على قوائم تحدد المرشحين لمنصب رئيس الوزراء وثلاثة أعضاء في المجلس الرئاسي. وتُطرح كل قائمة للتصويت في جلسة موسعة إذا أقرها 17 عضوًا على الأقل من أعضاء المنتدى (8 من الغرب، 6 من الشرق، 3 من الجنوب). وإذا فازت إحدى القوائم بـ60% من إجمالي الأصوات في الجولة الأولى، يتم تشكيل سلطة تنفيذية جديدة على ذلك الأساس. وإذا لم تتمكن أي قائمة من الحصول على ذلك النصاب التصويتي، فإن القائمتين اللتين فازتا بأكبر عدد من الأصوات تدخلان جولة إعادة، تفوز فيها القائمة التي تحصل على أكثر من 50% من الأصوات.
وبالنظر للمناصب المتاح الترشح لها وهي: محافظ مصرف ليبيا المركزي، رئيس ديوان المحاسبة، رئيس هيئة الرقابة الإدارية، رئيس هيئة مكافحة الفساد، رئيس المفوضية العليا للانتخابات، رئيس المحكمة العليا، النائب العام؛ نجد أنها مناصب ذات طابع اقتصادي ومحاسبي، وبالتالي فهي مناصب مؤثرة في المرحلة الانتقالية وتبعاتها، ويُستدل منها على أولوية حل إشكالية الفساد والإشكالات الاقتصادية التي تعاني منها ليبيا في تلك المرحلة.
حل جديد – قديم للأزمة
لم تكن تلك المرة الأولى التي يُطرح فيها حلول للخروج من مأزق الركود الذي أصاب الأزمة السياسية الليبية، وقد تجلى ذلك في اتفاق الصخيرات عام 2015 ومخرجات برلين 2020؛ إلا أن حل المحاصصة قد تجلى بوضوح في مقترحات إعلان القاهرة 2020، حيث قُدمت آليات تقاسم السلطة على أساس جهوي ومناطقي من خلال منح كل إقليم عددًا متناسبًا من الحقائب الوزارية طبقًا لعدد السكان وذلك بعد التوافق على أعضاء المجلس الرئاسي الجديد وتسمية رئيس الحكومة، على ألا يجمع أي إقليم أكثر من رئاسة للسلطات الثلاث (المجلس الرئاسي، مجلس النواب، مجلس الوزراء).
ووفقًا لإعلان القاهرة، يحصل إقليم طرابلس على 9 وزارات، وإقليم برقة على 7 وزارات، وإقليم فزان على 5 وزارات، على أن يتم تقسيم الـ6 وزارات السيادية على الأقاليم الثلاثة بشكل متساوٍ (وزارتان لكل إقليم)، مع تعيين نائبين لكل وزير من الإقليمين الآخرين. على أن يتم اتخاذ الإجراءات التنفيذية اللازمة لتوحيد كافة المؤسسات الاقتصادية والنقدية، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والنقدية في شرق وجنوب وغرب ليبيا، وتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية والهيكلية، إلى جانب منع وصول الأموال الليبية إلى المليشيات، والعمل على ضمان توزيع عادل وشفاف للموارد الليبية لكافة المواطنين، من أجل تجنب مسارات التقسيم.
إلا أن ما يُميز الحل المطروح هذه المرة هو أنه قد جاء نتاجًا لمحادثات شارك فيها العديد من الليبيين الممثلين لفصائل المجتمع المختلفة، تحت رعاية وإشراف أممي برئاسة الممثلة الخاصة للأمين العام في ليبيا بالإنابة “ستيفاني وليامز”. كما أن آلية اختيار السلطة التنفيذية خلال المرحلة الانتقالية قد تم الاتفاق عليها بتصويت المشاركين في ملتقى الحوار الليبي-الأممي، ولم تأتِ لتُملى من أطراف خارجية تقتصر على مشاركة رموز النخبة وحدهم كما في مؤتمر برلين أو اتفاق القاهرة أو اتفاق الصخيرات.
الفرص المتاحة عبر ذلك المسار لحل الأزمة
ثمة حالة من التفاؤل تسود الأوساط الليبية بتلك المبادرة وما قد تحققه من تحريك المياه الراكدة في مسار الحل السياسي من أجل تشكيل الحكومة الانتقالية المؤقتة، واستكمال عملية صياغة الدستور، وصولًا إلى عقد الانتخابات في نهاية العام الحالي. وقد بدأ التوافد على تقديم طلبات الترشح للمناصب السيادية وفقًا لتلك الآلية المقررة التي بموجبها تُمنح مهلة أسبوع واحد لتلقي طلبات الترشح.
كما يُعول على ذلك الحل أن يسهم في إنهاء حالة اقتسام وتفتت الشرعية وانقسام النظام السياسي من أجل استعادة وحدة النظام السياسي وتماسكه، خاصة في ظل التقدم المحرز على صعيد الانتخابات المحلية.
ويُعول أيضًا على التقدم المُحرز في التوصل لتفاهمات على الصعيد الاقتصادي أن تقلل من حدة الخلافات، وأن تتيح المزيد من الفرص للتقارب سياسيًا، فقد نجح الفرقاء في استئناف إنتاج النفط بعد توقف دام لأشهر، كما بدأت الاجتماعات التشاورية بين أعضاء مصرف ليبيا المركزي، مما يمهد السبيل لإمكانية إنهاء الخلافات الاقتصادية ومن ثم السياسية.
ومن ناحية أخرى، يمكن الاستفادة من تلك الفرص بالسياق الإقليمي والدولي المرحب بهذا الحل والداعم له، خاصة في ظل قدوم إدارة أمريكية جديدة قد تكون لها رؤية مغايرة لرؤية “ترامب”، وتسعى للعب دور في حسم الأزمة الليبية، وتقليص التوغل التركي الروسي وموازنة نفوذهما، وإنهاء حالة الاقتتال العسكري الأجنبي. ومن جانبها، رحبت الإدارة الأمريكية بهذه الخطوة، وكذلك الحال لدى العديد من الأطراف الخارجية العربية والغربية.
التحديات المرتبطة بذلك المسار وتعقيد الأزمة السياسية
برغم من تلك الآمال بتحريك مسار الحل السياسي وإنهاء الأزمة الليبية؛ إلا أن ذلك الطرح يثير بعضًا من المخاوف والتحديات التي قد تهدد مسار الحل وقد تفضي لنتيجة عكسية.
أولى هذه المهددات هي آليات التصويت المتفق عليها، فهي تتسم بالتعقد النسبي، وقد تكون هي ذاتها سببًا في تأجج النزاعات بين الفرقاء، بالإضافة إلى حالة الاستقطاب بين التيارات السياسية الرئيسة في الساحة الليبية والتي قد تؤدي لاقتتال على المناصب السيادية بما قد يتسبب في لحظة ما في انهيار الحل السياسي، وقد يحدث أن يعرقل أي فصيل سياسي مسار الحل لو لم يحصل على مبتغاه من المكاسب.
وتتزايد المخاوف من أن تتسبب المحاصصة واقتسام السلطة جغرافيًا خلال المرحلة الانتقالية في تعزيز الانقسام والاقتتال خلال المرحلة الانتقالية وما بعدها، ليصبح النهج الرئيسي لتوزيع المناصب قائمًا على الأسس الجغرافية والإقليمية، لا على الأسس الوطنية الليبية الموحدة بالاستناد للكفاءة والجدارة والخبرة، خاصة وأن لدى ليبيا إرثًا تاريخيًا من الانقسام الجغرافي والإقليمي وما يحمله من حساسيات تهدد كيان الدولة القومية المركزية.
كما تتزايد المخاوف من أن يعزز ذلك المسار حالة الانقسام لا أن يسهم في استعادة وحدة كيان الدولة القومية، بما قد يجعل ليبيا أقرب للحل الفيدرالي أو حل الانقسام إذا تفاقمت النزاعات للحد الذي يمزق وحدة الدولة.
ويمكن إدراك ما يمثله ذلك الأساس الجغرافي الإقليمي لاقتسام المناصب من خطر وتهديد حال ترسخ فيما بعد المرحلة الانتقالية من خلال النظر إلى الحالة اللبنانية على سبيل المثال، إذ يستند توزيع المناصب بها على أسس طائفية خلال المرحلة الانتقالية وما بعد انتهاء الحرب الأهلية، ولا تزال تعاني حتى هذه اللحظة من هشاشة كيان الدولة ووحدته في ظل تجدد الصراعات والانقسامات التي تحول حاليًا دون تشكيل حكومة جديدة.
كما أن إدخال بعض المناصب القضائية في معادلة المحاصصة الإقليمية الجغرافية يحمل في طياته العديد من المخاطر، إذ يضر باستقلالية السلطة القضائية ويجعلها طرفًا وهدفًا للأطماع والصراعات السياسية.
ومن ناحية أخرى، تتزايد المخاوف من الاقتتال على السلطة خلال المرحلة الانتقالية، بما يؤدي لدخول البلاد في معترك أزمة شرعية جديدة حال رفضت السلطة الانتقالية المُختارة تداول السلطة وإجراء الانتخابات في نهاية العام، وبالتالي تتزايد الحاجة للمزيد من الضمانات جنبًا إلى جنب مع الرقابة الدولية للحيلولة دون وقوع ذلك.
بالإضافة إلى ما يمكن أن يسببه الصراع القبلي أو إقصاء أي فصيل قبلي أو مجتمعي من تهديد للمسار السياسي بأكمله بسبب ما تتمتع به من قوة وسلطة مالية وميدانية وعسكرية في بعض الأحيان.
ومن ناحية أخرى، يرتاب العديد من الليبيين من آلية اختيار المشاركين في الحوار السياسي الذي تم على إثره التوصل لآلية اختيار الحكومة الانتقالية، وتتزايد الشكوك حول دوافع وأسباب اختيار وتطرق البعض إلى وجود شبهات تتعلق بتلقي رشاوى من أجل ضمان المشاركة في المرحلة الانتقالية وما بعدها، وهو ما يجعل تيارًا من المواطنين يرى تلك المحادثات ومخرجاتها لا تمثل مصالح الشعب وليست محلًا للوثوق بها.
هذا بالإضافة إلى أن السياق الأمني لا يزال يمثل تهديدًا لأي حل سياسي للأزمة الليبية، فقد انتهت المدة المقررة لإخراج المرتزقة من ليبيا خلال 90 يومًا دون أن يتحقق ذلك الهدف المُقرر بموجب اتفاق الفرقاء على وقف إطلاق النار في أكتوبر 2020، وإذا تعثرت المحادثات العسكرية المشتركة فقد نصل لطريق مسدود من جديد.
كما لا يزال التدخل الأجنبي يمثل خطرًا لحل الأزمة، بسبب رغبة الأطراف المنخرطة في الأزمة الليبية في تحقيق مآربها ومصالحها الخاصة إلى حد تحول ليبيا لساحة حرب بالوكالة بين العديد من الأطراف، وأبرزها الطرفان التركي والروسي وما يمثلانه من تهديد لاتفاقات وقف إطلاق النار على خطوط التماس (سرت – الجفرة)، حيث رُصد استمرار التحشيدات العسكرية ونقل المرتزقة والأسلحة التركية من جهة، كما رُصد حفر أنفاق روسية في محيط سرت من قبل قوات فاجنر من ناحية أخرى، وهو الأمر الذي يُستدل منه على استمرارية التدخل الخارجي وتوقع عدم انتهائه على المدى القصير.
المسار القادم
وفقًا لأدبيات تحليل الصراعات المسلحة واستراتيجيات بناء السلام الاستراتيجي في أعقاب الصراعات، فإن التحرك الأمني لا بد أن تكون له أولوية من أجل ضمان تحقق الاستقرار، وتقليص فرص تأجج العنف والاقتتال، وذلك بالتوازي مع الحل الاقتصادي ومكافحة الفساد وتحقيق العدالة الانتقالية. وبالتالي تتزايد أهمية نجاح المحادثات العسكرية المشتركة والبناء على التقدم المحرز في ملفات إنهاء أزمة المرتزقة والميليشيات وإصلاح الأجهزة الأمنية وإنهاء الفوضى المسلحة، حتى لا تتهدد أي جهود لحل الأزمة السياسية.
كما يتعين عدم الإفراط في التفاؤل بشأن الاتفاق الأخير، فهو خطوة إيجابية لكنها هشة وتحمل في طياتها العديد من العوامل التي قد تؤدي لفشلها وانهيارها، فقد يتجدد الصراع السياسي بين التيارات المتنازعة بما يطيل أمد المرحلة الانتقالية دون وصول للانتخابات، خاصة من قبل تلك الأطراف المستفيدة من الصراع والتي قد تشعر بتهدد مصالحها ونفوذها لو انتهى الصراع وتحقق الاستقرار.
ويجب التعلم والاستفادة من إخفاقات الحلول السابقة مثل اتفاق الصخيرات، فبدلًا من أن يؤدي لإنهاء الصراع فقد تسبب في تعميق الانقسام وشرعنته، وكان الصراع العسكري المسلح بالإضافة للتدخل الأجنبي سببًا رئيسيًا لهذا الإخفاق.
وبالتالي، فإن نجاح أي مقترح لحل الأزمة السياسية يعتمد بالأساس على ثقة جميع المكونات الداخلية وإعلاء المصلحة الوطنية، وإيمانها جميعًا بأهمية إنهاء النزاع واستعادة الاستقرار، مع الحفاظ على دور ومصالح كافة الأطراف دون إقصاء لأي منها، حتى لا تتحول إلى طرف منشق عن المسار السلمي للحل ومقوض له، وذلك من أجل تحقيق إعادة الإعمار واستعادة كيان الدولة الموحدة وتجاوز حالة الضعف والهشاشة.
وبالإضافة إلى أهمية دور الأطراف الخارجية المنخرطة في الشأن الليبي، فلا يمكن لأي حل سياسي أن ينجح في ظل تدخل تلك الأطراف لتحقيق مصالحها الخاصة عبر تغذية الصراع السياسي العسكري، وبالتالي فإن التعويل الأكبر يقع على كاهل الإدارة الأمريكية الجديدة ومدى قدرتها على وضع حد للدور الروسي التركي، بالإضافة لدور الاتحاد الأوروبي ومدى قدرته على استخدام أدوات الرقابة على حظر التسليح وكذلك أدوات العقوبات الاقتصادية لردع الخروقات، مع أهمية الدور الأممي ودور مجلس الأمن والمجتمع الدولي في رعاية مسار الحل السياسي وتحمل مسئولية الرقابة خلال المرحلة الانتقالية لإنهاء الأزمة ومنع أي خروقات من أي طرف من الأطراف الداخلية والخارجية المنخرطة بالأزمة الليبية.