النساء هن مستودعات شرف وكرامة المجتمعات، ولكن عندما تُشن الحروب يصبحن عملة في تلك الحروب يتم تداولهن كصفقات تجارية تُمنح للرجال مقابل عملهم في زمن الحرب، أي تصبح أجساد النساء ساحات للصراع العنيف الذي يتعرضن خلاله للإذلال والتعذيب والاغتصاب الوحشي والقتل. فلسنوات طويلة كان العنف الجنسي في النزاعات مقبولًا على أنه أمر لا مفر منه، إلى أن تم الاعتراف الدولي بعمليات الاغتصاب الجماعي خلال النزاعات المسلحة في كل من رواندا عام (1994) والبوسنة والهرسك في خلال الفترة (1992-1995)، كما صدر تقرير عن الأمم المتحدة عام 1998 أشار إلى أن العنف الجنسي والاغتصاب خلال النزاع المسلح تعتبره الجيوش واحدًا من غنائم الحرب المشروعة، فخلال الحرب العالمية الثانية اتُّهمت جميع أطراف النزاع بالاغتصاب الجماعي، لكن لم تعترف أي من المحكمتين اللتين أنشأتهما الدول المتحالفة المنتصرة لمحاكمة جرائم الحرب المشتبه بها في طوكيو ونورمبرغ بجريمة العنف الجنسي، وذلك حتى تم الاعتراف بالاغتصاب والعنف الجنسي كجريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية في النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية في عام 2002. علاوة على ذلك جاءت القرارات الأممية التي أصدرها مجلس الأمن والتي تدين تلك الممارسات وتسعى إلى اتخاذ تدابير لمكافحتها، بما في ذلك نشر مستشاري حماية المرأة في بعثات حفظ السلام، وتعيين ممثل خاص للأمين العام بشأن العنف الجنسي في حالات النزاع، وإنشاء برنامج لمنع العنف الجنسي المرتبط بالنزاع والتصدي له.
العنف الجنسي كأداة حرب
يُعتبر العنف الجنسي أداة منهجية واستراتيجية معتمدة للحرب وليس مجرد نتيجة حتمية، حيث تستخدمه الجماعات المسلحة والمتصارعة لزعزعة استقرار العائلات والمجتمعات ووصم النساء، فغالبًا ما يهدف الاغتصاب المرتَكَب أثناء النزاعات إلى ترويع السكان وتفتيت شمل العائلات وتدمير المجتمعات، وفي بعض الحالات تغيير التكوين العرقي للجيل القادم، لذلك إذا أرادت إحدى المجموعات السيطرة على مجموعة أخرى فغالبًا ما تفعل ذلك عن طريق اغتصاب النساء من المجتمع الآخر كوسيلة لتدمير المجتمع المعارض. ففي البوسنة، تم استخدام الاغتصاب المنهجي كجزء من استراتيجية التطهير العرقي بهدف إضعاف سلالة المجموعة العرقية المعارضة. وفي كولومبيا، قامت الجماعات المتنافسة باغتصاب وتشويه وقتل النساء والفتيات من أجل فرض قواعد سلوك عقابية على مدن وقرى بأكملها، وبالتالي تعزيز سيطرتها. كما تتم عمليات الاغتصاب لإصابة النساء عن عمد بفيروس نقص المناعة البشرية.
وفي ذلك الإطار، يرتبط شرف المجتمع أو الأسرة ارتباطًا وثيقًا بالنساء وأجسادهن، وبالتالي يدرك المقاتلون في جميع أنحاء العالم أن استهداف أجساد النساء يُلحق ضررًا جسيمًا بالأفراد، ويهاجم بشكل رمزي المجتمع أو المجموعة العرقية أو الجنسية التي تنتمي إليها الضحايا من الإناث، فالدافع الرئيسي للعنف الجنسي (سواء في السلم أو في زمن الحرب) هو الوصم المجتمعي، فالعنف الجنسي هو الجريمة الوحيدة التي غالبًا ما يكون رد فعل المجتمع عليها هو وصم الضحية بدلًا من مقاضاة الجاني، لذا اعتاد العديد من الرجال على تطبيق تلك القاعدة من خلال العنف الجسدي مع النساء دون عقوبات، وأحيانًا بدعم من المجتمع الذي يدعمه ثقافيًا ويوصم الضحية بدلًا من الجاني وفي بعض الأحيان قانونيًا لعدم وجود قانون رادع في عدد كبير من الدول لجريمة العنف الجسدي والاغتصاب. ففي رواندا، تم اغتصاب ما بين 100 و250 ألف امرأة خلال ثلاثة أشهر من الإبادة الجماعية في عام 1994. وفي سيراليون، خلال الحرب الأهلية، تم اغتصاب أكثر من 60 ألف امرأة وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. وفي ليبيريا، في الفترة من (1989-2003)، تم اغتصاب أكثر من 40 ألف امرأة، وما لا يقل عن 200 ألف امرأة في جمهورية الكونغو الديمقراطية منذ عام 1998.
وغنيّ عن القول، هناك صلة وثيقة بين العنف الجنسي في زمن الحرب ووضع المرأة في وقت السلم. فعلى سبيل المثال، في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية كان العنف الجنسي ضد المرأة سمة منتشرة في أوقات النزاع المسلح، حيث تعرضت الآلاف من النساء والفتيات للاعتداء الجنسي من قبل القوات المشاركة في النزاع، وكان يتم اغتصابهن بشكل متكرر، وفي بعض الأحيان بشكل منهجي، كما يتم احتجازهن لفترات تصل إلى أكثر من عام، وأُجبرن خلال تلك الفترة على تقديم خدمات جنسية وأعمال منزلية للمقاتلين الذين احتجزوهن واعتدوا عليهن جنسيًا.
وكان السبب الرئيسي لذلك هو وضع المرأة داخل جمهورية الكونغو قبل اندلاع الصراع، أي في أوقات السلم، حيث كان يُنظر لها على أنها مواطن من الدرجة الثانية، كما أن القانون والأعراف الاجتماعية وضعت دور النساء والفتيات على أنه تابع للرجال، بالإضافة إلى أن تعليم الأولاد أكثر أهمية من تعليم الفتيات، فنسبة الأولاد الملتحقين بالمدارس أعلى من الفتيات، إلى جانب أن بعض أرباب الأسر الذكور يحلون قضايا الاغتصاب التي تتعلق ببناتهن من خلال قبول مدفوعات مالية من الجاني أو عائلته، أو الترتيب للزواج من الجاني.
وفي النزاع المسلح في سيراليون، تم ارتكاب العنف الجنسي على نطاق واسع، حيث تعرض آلاف النساء والفتيات من جميع الأعمار والمجموعات العرقية والطبقات الاجتماعية والاقتصادية لعنف جنسي واسع النطاق ومنهجي، بما في ذلك الاغتصاب الفردي والجماعي، وكما الحال في الكونغو واجهت النساء في سيراليون أيضًا تمييزًا واسع النطاق في القانون والأعراف الاجتماعية قبل اندلاع النزاع المسلح، على الرغم من أن الدستور ينص على ضمان المساواة بين الجنسين، إلا أن الأحكام تسمح بالتمييز في الزواج والطلاق والميراث، فبموجب القانون العرفي يحقّ للزوج “تأديب زوجته إلى حد معقول بالقوة البدنية”، لذلك فالرجال الذين اعتادوا ممارسة السيطرة على أجساد النساء في أوقات السلم استمروا في القيام بذلك بوحشية شديدة خلال الحرب الأهلية.
وفي السياق ذاته، لا يتوقف العنف الجسدي والمعاناة في أوقات الصراع فقط. ففي كثير من الأحيان في ظروف ما بعد الصراع، تُترك الناجيات من الاعتداء الجنسي مع القليل من الدعم المجتمعي، والظروف الاقتصادية غير الكافية لإعالة أنفسهن، وغالبًا مع الأطفال الذين نتجوا عن الاغتصاب إلى جانب صدمات جسدية ونفسية عميقة، كما أن هناك بعض المجتمعات التي تُلقي باللوم على النساء والفتيات اللاتي تعرضن للاغتصاب فيما حدث لهن. إلى جانب أنه عندما ينتهي الصراع غالبًا لا تعود النساء والفتيات إلى المنزل خوفًا من رفض أسرهن، ففي الكونغو لا يتم قبول عودة امرأة مغتصبة إلى قريتها أو عائلتها لأنها تُعتبر مذنبة، وعلى هذا النحو لم يعد أمامهن خيار آخر سوى البقاء مع الزوج المتمرد أو الميليشيا التي اختطفتهن واغتصبتهن في أغلب الأحيان.
خطوات نحو التعافي من العنف الجنسي
يتطلب التعافي من العنف الجنسي بعد انتهاء الصراع إنشاء برامج تعليمية، والحصول على فرص عمل لتمكينهن من تحقيق الاكتفاء الذاتي، حيث يعد الوصول إلى الفرص الاقتصادية أمرًا بالغ الأهمية للنساء الناجيات لرعاية أنفسهن وذويهن، كما أن العديد منهن في حاجة ماسة للرعاية الطبية من أجل علاج الأمراض المرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية والأمراض الأخرى، فعندما تمنح النساء الوسائل اللازمة لإعالة أنفسهن وذويهن يتجنبن الحاجة إلى مبادلة الجنس بالسلع الأساسية أو الخدمات أو المأوى، كما أن القضاء على ثقافة الإفلات من العقاب المحيطة بالعنف الجنسي المرتبط بالنزاع وتقديم المسئولين إلى العدالة والإصرار على عدم السماح للجناة بالحصول على عفو عن جرائمهم وتقديم تعويضات إلى الضحايا من أجل تمكينهن اقتصاديًا والسماح لهن بالعودة إلى حياتهن الطبيعية، جزء أساسي من خطوات التعافي. فعلى سبيل المثال، كان هناك تقدم ملحوظ عندما اتخذت الحكومة في جمهورية الكونغو الديمقراطية في عام 2014 خطوة غير مسبوقة لمحاكمة ضباط الجيش رفيعي المستوى ودفع تعويضات للناجين. وفي كولومبيا، أمرت محكمة السلام والعدالة قادة الجماعات شبه العسكرية بتقديم تعويضات لأكثر من 9500 شخص، بمن فيهم ضحايا العنف الجنسي المرتبط بالنزاع، والاعتذار علنًا. وفي حكم تاريخي قررت المحاكم داخل البوسنة التعويض المالي كشكل من أشكال التعويضات للناجيات من الاغتصاب والعنف الجنسي خلال الحرب في التسعينيات.
أخيرًا، فإن التعامل مع العنف الجنسي باعتباره سلاح حرب يجعله مرئيًا، وبمجرد أن يكون مرئيًا سيكون قابلًا للمحاكمة بدلًا من أن يعاني من تعرضن للعنف الجنسي ويمتن في صمت بلا داعٍ، لذا يجب على الحكومات الوطنية والأمم المتحدة والمجتمع المدني والجهات الفاعلة الإقليمية بذل المزيد من الجهد في أوقات السلم وفي الفترات التي تتصاعد فيها الأعمال العدائية، وخلال المراحل الأولى من النزاع المسلح لمنع العنف الجنسي، ورفع وعي الجنود والمقاتلين فيما يتعلق بالحماية القانونية الدولية للمدنيين، أي تحسين الامتثال لأحكام القانون الدولي الإنساني بشكل كبير أثناء النزاعات المسلحة.
المراجع
- LaShawn R. Jefferson, In War as in Peace: Sexual Violence and Women’s Status, refworld website, access date 9-2-2021, access from : https://www.refworld.org/pdfid/402bac094.pdf
- Zainab Hawa Bangura, Sexual violence is a tool of war, but we have the weapons to end that, the guardian, access date 8-2-2021,access from: https://www.theguardian.com/global-development/2016/mar/02/sexual-violence-is-a-tool-of-war-but-we-have-the-weapons-to-end-that
Maria Eriksson Baaz and Maria Stern, Sexual violence as a weapon of war?, access date 8-2-2021,access from: https://www.diva-portal.org/smash/get/diva2:1148245/FULLTEXT01.pdf