لقي الرئيس التشادي إدريس ديبي أنتو مصرعه في 20 من أبريل 2021، بعد ثلاثين عامًا قضاها في الحكم، وذلك بعد تعرضه لإصابة أثناء المعارك الدائرة في شمال البلاد والتي قيل إنه كان يقودها بنفسه. وكان المتحدث باسم الجيش التشادي الجنرال “برماندوا أغونا” قد أعلن في بيان بثه التلفزيون الرسمي أن رئيس الجمهورية توفي مدافعًا عن وحدة وسلامة الأراضي التشادية. وتشير جميع التقارير الميدانية إلى أن الرئيس ديبي، والقوة المكلفة بحمايته، بالإضافة إلى المتحرك الذي يقوم بتمشيط المنطقة، جميعهم لقوا حتفهم في كمين نُصب لهم، في منطقة (ماو)، على بعد 225 كم شمال العاصمة التشادية أنجمينا. ولا شك أن هذا الرحيل المفاجئ لديبي ستكون له انعكاساته على تشاد، لا سيما في ظل الصراع السياسي والعسكري الراهن بين الجيش والمعارضة.
أولًا: مكانة ودور إدريس ديبي في تشاد
يُعتبر ديبي العسكري المخضرم الذي نجح في بناء نظام سياسي قوي في تشاد تمكّن من خلال من فرض سلطة الدولة على مدار الثلاثة عقود الماضية، وقد لعب دورًا بارزًا في تحقيق قدر من الاستقرار في البلاد، فضلًا عن أنه نجح في نسج علاقات إقليمية ودولية أمنت له تأييدًا وبقاء في السلطة خلال هذه الفترة الطويلة. لقد تمكن ديبي من بناء المؤسسة العسكرية التشادية، حتى أصبحت من أقوى الجيوش في غرب إفريقيا، وساهم الجيش التشادي بعدد كبير من العسكريين في عمليات حفظ السلام ومكافحة الإرهاب. ويتميز بأنه أكثر خبرة بين القوات المشاركة بقوى دول الساحل الخمس (مالي، تشاد، النيجر، موريتانيا، بوركينافاسو).
كما يُعتبر ديبي الرجل الأهم في الساحل الإفريقي بالنسبة للقوى الدولية صاحبة النفوذ في تلك المنطقة، والتي تدير مصالحها في الإقليم من خلال تبني سياسة التحالف مع بعض بلدان تلك المنطقة ومن ضمنها تشاد تحت زعامة ديبي. ويحسب لديبي أيضًا التنمية التي شهدتها البلاد خلال السنوات الأخيرة، والتي حسّنت سمعة بلاده في المحافل الإقليمية والدولية، حتى أصبحت تشاد بفضله محطة للاستقرار والتنمية بدلًا من المجاعة والحروب.
ثانيًا: تحديات ما بعد ديبي
رحل ديبي وكانت الانتخابات الرئاسية قد انتهت لتوها وأعلنت اللجنة المشرفة عليها نجاح ديبي. وربما كان توقيت الحادث مهمًا حيث إنه وضع حدًّا لولاية جديدة كان ديبي يستعد لها، حيث تنامت المعارضة خلال الفترة الأخيرة وطالبت برحيل ديبي، وحمل بعضها السلاح في مواجهة الدولة، ولولا التدخل الأجنبي لكانت المعارضة قد نجحت في دخول العاصمة أنجامينا والإطاحة بديبي خلال السنوات الأخيرة.
وفور إعلان نبأ وفاة الرئيس ديبي، أعلن المجلس العسكري الانتقالي (CMT)، عدة قرارات من ضمنها حل البرلمان، وفرض حظر التجول وإغلاق الحدود، وتشكيل مجلس عسكري لقيادة المرحلة الانتقالية، وتعيين الجنرال محمد ديبي نجل الرئيس رئيسًا للمجلس العسكري. وهو بمثابة خرق للدستور التشادي، الذي ينص في حالة وفاة الرئيس على أن يتولى الفترة الانتقالية رئيس الجمعية الوطنية. وأن اختيار ابنه على رأس المجلس لا يعني تلبية مطالب الشعب التشادي، الذي يطالب بتسليم السلطة للمدنيين، وتشكيل حكومة تكنوقراط انتقالية تجنبًا لوقوع تشاد في مستنقع حرب أهلية. كما طالبت القوى السياسية التشادية، بتشكيل تحالف وطني من جميع الحركات المسلحة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، لقيادة هذه الفترة.
إن فرض حالة الطوارئ، وانتشار قوات الدفاع والأمن التشادي والمدرعات العسكرية، وتطويق العاصمة بالدبابات والعديد من الجنود المتمركزين في جميع شوارع أنجمينا، يؤكد أن الأزمة في تشاد لا تزال آخذة في التصاعد وفق ما أعلنه التحالف الرباعي للمعارضة التشادية الذي يتكون من مجلس القيادة العسكرية لإنقاذ الجمهورية CCMSR، وجبهة الأمة من أجل الديمقراطية والعدالة بتشاد FNDJT، واتحاد حركات الديمقراطية والتقدم UMDD، والاتحاد الوطني من أجل التغيير UNC، وجميع هذه التنظيمات كانت تحمل السلاح ضد الرئيس الراحل ديبي.
فمن جانبها، رفضت المعارضة سياسة الأمر الواقع الذي فرضه الجيش دون سند قانوني أو دستوري، واعتبرت ذلك اتجاهًا لتكريس الديكتاتورية، ونمطًا غير معهود من توريث السلطة، وأعلنت عن كفاحها المسلح ضد النظام الانتقالي الجديد، وهو ما ينذر بصعود المواجهة العسكرية بين الجيش والمعارضة خلال الفترة الأخيرة.
ولا شك أن رحيل ديبي سيزيد من وتيرة الغضب الشعبي والتوتر المجتمعي الذي ساد تشاد خلال السنوات الماضية، فضلًا عن إعادة ترتيب الأولويات في ظل مواجهة أزمة اقتصادية كبيرة، لا سيما مع انتشار وباء كوفيد-19، فضلًا عن إعطاء مزيد من الزخم لمواجهة الإشكاليات الأمنية، حيث إن سبب التوتر كان يعود إلى رغبة الرئيس الراحل ديبي في الترشح لدورة سادسة، وبرحيله سوف يواجه ابنه محمد ديبي وحكومته معارضة كبيرة من القوى السياسية والجماعات المسلحة، ولكن ليس من المتوقع أن يغير ابنه محمد سياسة تشاد عما كانت عليه في السابق، وسوف يظل يعتمد على علاقته الجيدة بالغرب وخاصة فرنسا، وعلى قوة جيشه الذي يعد الأقوى في غرب إفريقيا، وشريكًا مهمًا في مواجهة الإرهاب المتنامي في المنطقة.
كما أن التغيير الحاصل بعد ديبي، والاضطرابات الداخلية في تشاد، سوف يشغل الحكومة عن النهوض بمهامها الإقليمية في مواجهة الجماعات الإرهابية في المنطقة لا سيما جماعة بوكو حرام. وربما تستغل جماعة بوكو حرام هذه الفرصة وتعمل على تنفيذ هجمات على العديد من الأهداف الفرنسية في المنطقة، خاصة بعد انسحاب القوات التشادية من مرتكزاتها في دول الساحل الخمس. وتتخوف العديد من القبائل التشادية من انتشار الفوضى التي تهدد الاستقرار في البلاد، وسينعكس رحيل ديبي على الأوضاع في إقليم دارفور السوداني المضطرب من سنوات، نتيجة للتداخل القبلي والصراعات العابرة للحدود.
ولا تحبذ فرنسا وحلفاؤها حدوث أي تغير في سياستها تجاه تشاد، لأن فرنسا لا يمكن أن تستغني عن الدور التشادي والقواعد العسكرية الفرنسية، كقوة توازن في المنطقة وذراع فرنسا في مكافحة التطرف والإرهاب، وركيزة أساسية في الأمن الإقليمي لمنطقة غرب إفريقيا، لذلك يظل من المتوقع أن تدعم فرنسا النظام الجديد في تشاد، وتمكن القيادة الجديدة من أن تسير على خطى ديبي حتى تتخطى هذه المرحلة الحرجة في تاريخ تشاد، التي تمثل مصدر قلق كبيرًا بالنسبة لفرنسا.
وبصورة عامة، تشير كل هذه التحديات الجسيمة التي تواجه القائمين على إدارة الوضع في تشاد خلال المرحلة المقبلة إلى وجود قدر كبير من الغموض يحيط بمستقبل البلاد، سواء على المستوى الأمني نتيجة إصرار المعارضة المسلحة على استكمال الزحف باتجاه العاصمة، وكذلك على المستوى السياسي في ظل تعدد الأطراف الرافضة لتولي المجلس العسكري بقيادة محمد نجل الرئيس الراحل إدريس ديبي قيادة البلاد في المرحلة المقبلة. ويظل للدعم الدولي والإقليمي للترتيبات الانتقالية في تشاد الدور الحاسم في تحديد مستقبل البلاد في هذه اللحظة الدقيقة.