على مدى السنوات الماضية كانت هناك جدلية دائمًا داخل مصر حول تعاطي الإعلام الدولي والإقليمي مع الداخل المصري أو مع تحركات القاهرة الخارجية في القضايا المختلفة، وكان النقد الموجه لهذا الإعلام مدفوعًا برغبة مصرية في أن تنظر هذه المؤسسات الإعلامية والصحفية الكبرى لمصر من عدسة مكبرة ترصد وتحلل الحالة المصرية بشكل كامل، وليس من منظور عدسة لا ترى مصر سوى في ادّعاءات انتهاكات لحقوق الإنسان يسوق لها التنظيم الدولي للإخوان المصنف مصريًا وفي دول أخرى كتنظيم إرهابي.
هذا التعاطي والتناول من هذه المؤسسات بدأ يتغير بنسبة كبيرة، مع تعاظم الدور والتأثير المصري في الملفات الإقليمية، من الصراع على الغاز في شرق المتوسط، إلى الأزمة الليبية، إلى مجابهة الإرهاب وأنشطة التنظيمات المسلحة في القرن الإفريقي ودول الساحل والصحراء، ودعم التحول الانتقالي في السودان، إلى ضمان أمن البحر الأحمر وباب المندب، وصولًا إلى القضية الأهم في الشرق الأوسط وهي القضية الفلسطينية، والتي دفع الدور المصري فيها كافة وسائل الإعلام وحتى الحكومات والمؤسسات الدولية إلى الإشادة به، وإبرازه ونجاحه في الوساطة ووقف حرب غزة الأخيرة بعمل هدنة ووقف إطلاق النار بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
ضمن النماذج التي نبدأ بها في تقييم مضامينها للدور المصري في حرب غزة الرابعة، هي قناة الجزيرة القطرية، فالمتابع للخريطة البرامجية والإخبارية لشبكة قنوات ومنصات الجزيرة خلال الأيام الماضية في تغطيتها للاشتباك الدامي الأخير في القدس وقطاع غزة بين إسرائيل والفلسطينيين سيكتشف تغيرًا ملحوظًا في تعاطيها مع الشئون المصرية، فبجانب ساعات البث المباشر طوال الأيام الـ11 من المواجهات العسكرية بين الفصائل وإسرائيل، كانت هناك مهنية في إبراز الدور المصري في رعاية وقف إطلاق النار والتهدئة بين الأطراف المختلفة، بجانب جعل حزمة التحركات المصرية لدعم سكان القطاع بفتح معبر رفح وتقديم حزم مساعدات عاجلة لتخفيف آثار الدمار الذي خلفه العدوان الإسرائيلي وفتح المستشفيات المصرية لاستقبال الجرحى الفلسطينيين عناوين رئيسية في مضامينها الإعلامية.
هذا التغير في السياسات التحريرية تجاه مصر في شبكة قنوات الجزيرة لا أراه تغيرًا جذريًا بقدر ما هو مؤشر يمكن البناء عليه، خاصة أنه ليس المؤشر الأول؛ فبعد قمة “العلا” في 5 يناير الماضي التي أنهت مقاطعة الرباعي العربي للدوحة وأعادت الانفتاح المصري والعربي على قطر، بدأت بالفعل مضامين منظومة الإعلام القطري تتغير تدريجيًا في تعاطيها مع الحالة المصرية والعربية، وهذا الأمر اقترن بإعادة تفعيل القنوات الدبلوماسية والسياسية والأمنية بين الدوحة والقاهرة، في إطار العمل على تحسين العلاقات والاستثمار في خطوات إعادة بناء الثقة بين الجانبين، بما ينعكس على تعضيض العمل العربي المشترك، وتجاوز الخلافات البينية استنادًا لمخرجات قمة العلا التي أسست لمرحلة جديدة من العمل العربي تقوم على عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، والتوقف عن استخدام السياسات العدائية.
منظومة الإعلام الخارجية لقطر هي بلا شك جزء من أدوات الدوحة في تفاعلاتها الإقليمية والدولية، وتعبر عن مصالحها ورؤاها تجاه مختلف القضايا والأزمات، وكانت محل صدام كبير مع الكثير من القوى والدول العربية، ومنها دول الخليج ومصر والأردن ودول شمال إفريقيا. وقد استثمرت فيها دولة قطر المليارات في شكل مشاريع إعلامية متعددة، كان على رأسها قناة “الجزيرة العامة”، التي أسست في نوفمبر 1996، ثم أعقبها خلال ربع القرن الأخير إنشاء مشاريع أخرى، كتوسيع شبكة الجزيرة لتشمل: الجزيرة مباشر، والجزيرة الوثائقية، والجزيرة الإنجليزية، والجزيرة بلس وغيرها، والاستثمار في مشاريع إعلامية دولية كشبكة التليفزيون العربي، وصحيفة العربي الجديد، ومشروع “ميدل إيست آي”، وجميعها مقرها الرئيسي في العاصمة البريطانية لندن، التي كانت ولا تزال مسرحًا للأنشطة الإعلامية القطرية وغيرها من الدول.
من الصعب بالتأكيد على المكونات الاجتماعية والسياسية والثقافية المصرية تجاوز فكرة أن شبكة قنوات الجزيرة كانت جزءًا من التسويق لأجندة وأنشطة تنظيم الإخوان التخريبية تجاه مصر والمنطقة، عبر فلسفة “الضخ الإعلامي المكثف” للأوضاع في مصر، في شكل بدا معه أن القاهرة على صفيح انفجار اجتماعي وسياسي وشيك، وفي شكل بدا معه أن حركة التنمية الشاملة وعملية الإصلاح التي تشهدها مصر لا وجود لها ومجرد سراب. لكن أعتقد أن هذه الفلسفة قد تم التراجع عنها “نوعًا ما”، وبدأنا نرى خلال الثلاثة أشهر الأخيرة مؤشرات على التحول الإيجابي الجزئي في المضامين والتوجهات التحريرية تجاه القضايا المصرية.
مصطلح “جزئيًا” هنا الذي أطلقناه على هذا التغير مبني على أن منظومة الإعلام القطرية الخارجية في إطار عملية بناء الثقة مع الجمهور المصري عليها إعادة تقييم الكوادر الإعلامية ومحرري ومنتجي المحتوى والمضامين؛ فنسبة كبيرة منهم لديهم ميول أيديولوجية عدائية للدولة المصرية. إذا حدث هذا فعلًا قد تكتسب منظومة قطر الإعلامية، وعلى رأسها شبكة الجزيرة، الثقة الكاملة من الجمهور العربي بشكل عام، والمصري بشكل خاص.
مع هذا المتغير الجديد والملفت من التعاطي الإيجابي الجزئي في مضامين ومحتوى شبكة قنوات الجزيرة تجاه الحالة المصرية وجدنا ترحيبًا مصريًا؛ رأيناه في مشاركة مسئولين رسميين في مداخلات هاتفية على قناة “الجزيرة العامة” كالمتحدث باسم وزارة الري المهندس محمد غانم، والمتحدث باسم الخارجية السفير أحمد حافظ للتعليق وشرح الموقف المصري تجاه قضيتين مهمتين، هما قضية سد النهضة الإثيوبي، وموقف القاهرة من الحرب الأخيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.
هاتان المشاركتان تُعدّان أول ظهور لمسئولين مصريين على شبكة قنوات الجزيرة منذ ثورة الثلاثين من يونيو 2013 التي أطاح فيها المصريون بنظام الإخوان، وتعطي مؤشرًا على ترحيب مصر بالتغير الأخير في السياسة التحريرية للجزيرة في تعاطيها مع القضايا المصرية. إضافة إلى ذلك، شاهدنا محللين ومتخصصين مصريين “محترفين” لم يكن من المتصور سابقًا ظهورهم على الجزيرة، رأيناهم مع هذا التحول في السياسة التحريرية يشاركون كمعلقين على الأحداث والتفاعلات المصرية في الإقليم.
منظومة الإعلام القطري الخارجية في مقدورها -كما ذكرنا- اكتساب ثقة الجمهور المصري لو استكملت خطواتها في القطيعة مع الماضي القريب والبعيد، والتي أسست على هدف استراتيجي واحد وهو تحويل “مشروع إعلامي” كمنصة سياسية تخدم أجندات تنظيمات تخريبية على حساب المهنية ومعايير العمل الإعلامي المتعارف عليها عالميًا، وكان من نتائج هذا الأمر سنوات من الفوضى العارمة في مختلف البلدان العربية.
وجود أي وسيلة إعلامية هو مكسب للجمهور بشكل عام؛ من منطلق زيادة منصات وأدوات تشكيل الوعي للمتلقي وإخباره بما يحدث، وتقديم تحليلات لدوافع وتداعيات ما تشهده المجتمعات من تفاعلات سياسية واجتماعية واقتصادية، لكن بشرط أن تبني هذه المؤسسات سياساتها التحريرية على معايير إعلامية مهنية وموضوعية متعارف عليها دوليًا، وألا تتحول إلى أداة -كما حدث في السنوات العشر الأخيرة- لهدم الدول وإثارة المجتمعات على بعضها بعضًا حتى وصلت إلى حروب أهلية واقتتال داخلي وتشريد وقتل الملايين من البشر.