افتتحت مصر في أوائل شهر أبريل الماضي المتحف القومي للحضارة المصرية، ذلك المتحف الذي يوصف بأنه المتحف القومي الأكبر في منطقي الشرق الأوسط وإفريقيا حتى الآن، حيث يقع هذا المتحف العملاق على مساحة تفوق 33 فدانًا، كما تحتوي جنباته على 50 ألف قطعة أثرية وفنية تنتمي لكافة العصور التاريخية التي مرت على مصر.
وتقوم فكرة المتحف القومي للحضارة على توظيف تلك القطع الأثرية لعرض قصة الحضارة المصرية من خلال تسلسل تاريخي منظم، حيث تبدأ رحلة زائري المتحف بمشاهدة آثار تنتمي لعصر ما قبل الأسرات، ثم آثار من عصر الدولة المصرية القديمة، مرورًا بآثار من العصرين البطلمي والروماني، لتنتهي الرحلة بمشاهدة آثار من عصر الدولة المصرية تحت حكم الممالك الإسلامية المختلفة، وقطع تراثية وفنية تنتمي لعهد الدولة المصرية الحديثة.
نماذج دولية للمتاحف القومية
لا تخلو دولة كبرى أو متقدمة من وجود متحف قومي حضاري واحد على الأقل، حيث يتميز هذا النوع من المتاحف عما سواه من المتاحف النوعية بأنه مكان مخصص لعرض الأوجه المختلفة للحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية وحتى الاقتصادية التي شهدتها الدول والشعوب على مدار تاريخها. وبالإضافة إلى ذلك، تُعتبر المتاحف القومية مراكز لحفظ ودراسة التراث الإنساني الملموس وغير الملموس الذي صنعته المجتمعات المحلية، وتساهم المتاحف القومية أيضًا بدور فاعل في نشر المعرفة والمعلومات حول ذلك التراث الإنساني، وهو ما ينعكس -بدوره- على زيادة درجات الوعي لدى أبناء الوطن.
ويُعتبر المتحف القومي الصيني من أهم الأمثلة الدولية للمتاحف القومية، فحضارة الصين التي امتدت على مدار 5000 عام أصبحت الآن تجتمع في مكان واحد يضم 1.4 مليون قطعة أثرية وفنية، وهو ما يسمح لقرابة 9 ملايين سائح محلي ودولي سنويًا بالاطلاع على التطور التاريخي والثقافي لتلك الدولة العريقة. ولا يتوقف دور المتحف القومي الصيني عند عملية العرض المتحفي فقط، حيث يهتم المتحف بإثراء حركة البحث العلمي في مجالات الاستكشاف الأثري والدراسات التاريخية والأنثروبولوجية من خلال ما يمتلكه من قدرات علمية ومادية، كما يقوم بتوثيق ونشر المعلومات الناتجة عن تلك الأبحاث والدراسات من خلال قنواته المتعددة، سواء على شبكة المعلومات الدولية أو من خلال الدوريات المطبوعة، إلى جانب ذلك يقوم المتحف بإجراء عمليات دائمة لحفظ وصيانة القطع الأثرية المتواجدة بمخازنه، فضلًا عن المشاركة في صيانة العديد من المواقع التراثية الصينية في داخل الدولة.
على الجانب الآخر من الكرة الأرضية، يوصف المتحف القومي الألماني بأنه أحد أهم المتاحف القومية التي يعرفها العالم الأوروبي، فهذا الصرح الذي يضم 1.3 مليون قطعة فنية، يُعتبر أكبر مؤسسة أوروبية مختصة في دراسة وتأريخ ثقافة وحضارة الشعوب الناطقة باللغات ذات الأصول الجرمانية، سواء الموجودة في داخل دولة ألمانيا الاتحادية أو الدول الأوروبية الأخرى مثل النرويج والسويد وبلجيكا والدنمارك. ويقوم المتحف القومي الألماني بتنظيم أكثر من 15 معرضًا دائمًا ومؤقتًا بشكل سنوي، وذلك لإعطاء صورة كاملة عن تطور ثقافة الشعوب الجرمانية خلال العصور المختلفة بداية من العصور الحجرية القديمة، عبورًا بالعصور الوسطى وصولًا للعصر الحديث. كما ينفذ المتحف الألماني العشرات من المشروعات البحثية بهدف توثيق ودراسة وتحليل التراث الفني والأثري المنتمي للحضارة الجرمانية.
المتحف القومي الأسترالي يُعتبر أيضًا من الأمثلة الهامة للمتاحف القومية حول العالم، فعلى الرغم من حداثة دولة استراليا إلا أن الأخيرة حرصت على خلق كيان تراثي يجمع تاريخ القارة المسماة بنفس الاسم والذي يمتد جذوره لأكثر من 50.000 عام، حيث يعرض المتحف قطعًا تُحاكي التاريخ الطبيعي للقارة، بالإضافة إلى مجموعة من الآثار التي تعود ملكيتها للسكان الأصليين، كما يضم المتحف مجموعات أثرية وفنية مختلفة، تحكي قصة تطور المجتمع الأسترالي منذ القرن الثامن عشر، ونجاح الشعب الأسترالي في التعامل مع الطبيعة البكر للقارة، وهو ما مكّنهم من تطوير العمل بمجالات الزراعة والصناعة والتعدين والنقل. ويتميز المتحف الأسترالي باستخدامه التكنولوجيا الحديثة والأدوات التفاعلية في عملية العرض المتحفي، وهو ما يسهّل على الزوار الاستمتاع بتجربة حية عن التاريخ والثقافة الأسترالية.
مشروع متأزّم يُبعث من جديد
طرحت فكرة تشييد المتحف القومي للحضارة لأول مرة في عام 1982 حينما دشنت منظمة اليونيسكو بطلب من الحكومة المصرية، حملة دولية لبناء متحفين جديدين أحدهما بأسوان وهو متحف آثار النوبة، والآخر بالقاهرة وهو المتحف القومي للحضارة المصرية، ولقد تم الانتهاء من الأول في أقل من 15 عامًا حيث جرى افتتاحه في عام 1997، في حين واجه المتحف القومي للحضارة عقبات كانت سببًا في تأجيل تشييده وافتتاحه. ظهرت أولى تلك العقبات في منتصف الثمانينيات حينما قامت الحكومة بإعادة تخصيص الأرض المحددة لإنشاء المتحف في منطقة الجزيرة، لتصبح مقرًا لدار الأوبرا الجديدة، ليظل مشروع المتحف ساكنًا منذ ذلك الحين حتى 1999، حيث قررت الحكومة في هذا العام اختيار موقع جديد بمنطقة الفسطاط التاريخية ليكون مقرًا للمتحف.
عمليات التشييد واجهت عددًا آخر من العقبات، لتستهلك بدورها الكثير من الوقت، فبين عامي 2000 و2005 اضطرت الحكومة المصرية، ممثلةً في وزارة الثقافة، لإجراء حملة أثرية لاستكشاف موقع الأرض الجديدة المخصصة للمتحف القومي للحضارة، حيث تبين في حينها وجود منطقة أثرية داخل حرم المتحف، وهي المعروفة الآن بموقع المصبغة الأثرية، لتبدئ بعد ذلك عملية إنشاء المبنى المتحفي التي كان مخططًا الانتهاء منها في عام 2012، لكن اندلاع الفوضى السياسية في البلاد أوائل عام 2011 حالت دون إكمال المشروع.
وصول القيادة السياسية الحالية إلى الحكم في منتصف عام 2014 كان باعثًا على استئناف تنفيذ المشروع. ففي عام 2016 قامت الحكومة بتجهيز قاعة للعرض المؤقت داخل مبنى المتحف على مساحة 1000م2 لتضم تلك القاعة 420 قطعة أثرية تحكي تاريخ الحرف والصناعات المصرية عبر العصور، ولقد ساهم وجود تلك القاعة في افتتاح المتحف بشكل جزئئ أوائل عام 2017، لتجري منذ ذلك الحين استعدادات افتتاحه النهائي والذي تم تنفيذه في الثالث من أبريل الماضي.
نمط جديد من المتاحف المصرية
تمتلك مصر أكثر من 90 متحفًا أغلبها من المتاحف الأثرية والتاريخية، أما باقي المتاحف فتتوزع ما بين متاحف فنية أو علمية أو عسكرية ( انظر الشكل التالي رقم 1)، وتوصف كافة المتاحف المصرية بالتخصص في عملية العرض ونوعية المقتنيات، حيث لا تركز الفئة الأولى من المتاحف وهي المتاحف الأثرية والتاريخية إلا على عرض القطع الأثرية والوثائق التاريخية التي تنتمي للعصور المختلفة التي مرت على مصر، فيما لا تهتم الفئة الثانية وهي فئة المتاحف الفنية سوى بعرض إبداعات فناني مصر في مختلف الفنون، سواء الحديثة منها مثل الرسم والنحت والتشكيل، أو التقليدية منها مثل صناعة الخزف والفخار وحياكة الملابس والسجاد.
أما فئة المتاحف العلمية وهي الثالثة في الترتيب، فلا تهتم إلا بعرض ما يتعلق بتخصصها الدقيق، مثل عرض الكائنات الحية البرية والمائية أو نماذجها المحنطة أو الهياكل العظمية الخاصة بها في متاحف الحياة الطبيعية، وأيضًا عينات التربة والقطع الصخرية النادرة في المتاحف الجيولوجية، بالإضافة إلى المركبات والماكينات العملاقة والمميزة التي استخدمتها مصر على مدار العقود الماضية في متاحف مختصة بالسكك الحديدية والطيران المدني والزراعة وغيرها. فيما لا تهتم الفئة الرابعة من المتاحف المصرية إلا بتسجيل بطولات وملاحم الشعب المصري التي خاضها خلال القرنين الماضيين.
المصدر: حصر أجراه الباحث بناء على المعلومات الصادرة عن كلٍّ من وزارة الثقافة ووزارة السياحة والآثار ووزارة الدفاع.
المتحف القومي للحضارة جاء مغايرًا في فكرته لما كان معمولًا به في عموم المتاحف المصرية، حيث ركزت فلسفة هذا الأول على عرض التراث الحضاري المصري الملموس وغير الملموس، بأساليب متنوعة تتيح للزائرين فهم ومعايشة التطور التاريخي للدولة والمجتمع المصري، فكل فاترينة عرض داخل مبنى متحف الحضارة تحتوي على مجموعة خاصة من القطع الأثرية أو الفنية، وهو ما يجعل من كل منها منصة متفردة لشرح أحد الملفات الثقافية أو التاريخية عن مصر.
كما يستخدم المتحف عددًا من الوسائل التكنولوجية المتقدمة في شرح تاريخ القطع الموضوعة بداخل الفتارين، حيث تنتشر في أرجاء المتحف شاشات تفاعلية توضح للزائرين المعلومات المتعلقة بالقطع الأثرية والتراثية المعروضة، مثل أماكن اكتشافها وسبب استخدامها، كما يوفر المتحف تطبيقات ذكية تدار من خلال الهواتف المحمولة Smart Phones لتسهيل معرفة كافة التفاصيل المتعلقة بالقطع المعروضة على الزائرين، فضلًا عن توفير أجهزة صوتية حديثة تتيح للمرشدين السياحين التواصل مع الأفواج السياحية من خلال سماعات إلكترونية، وذلك لتحقيق حالة من الهدوء والحد من الضوضاء داخل قاعات العرض.
إلى جانب ذلك، يحتوي المتحف على عدد من المرافق التي من شأنها إتاحة وقت ممتع وتجربة فريدة للزائرين، فمتحف الحضارة يُعتبر أول متحف في مصر يحتوي على مسرح لإقامة العروض الفنية، وقاعات للمحاضرات والمؤتمرات، كما يحتوي على قاعات للعروض السينمائية، ومنطقة لتجربة وممارسة الفنون والحرف التقليدية، بالإضافة إلى مجموعة من المطاعم ومحال الهدايا، وأيضًا عدد من المساحات الخضراء والمتنزهات المفتوحة، والتي تطل بشكل مباشر على منطقة بحيرة عين الصيرة.
ولقد حرصت الجهات المختصة على تعزيز دور المتحف على المستوى العلمي والأثري، من خلال تزويده بمركز بحثي أثري متكامل يضم أكثر من 20 معملًا مختصًا بصيانة ودراسة الأنواع المختلفة من الآثار، سواء العضوية منها أو غير العضوية، كما يمتلك المتحف القومي للحضارة واحدًا من أكبر وأكثر المخازن الأثرية تأمينًا على مستوى جمهورية مصر العربية، حيث تفوق مساحة هذا المخزن الأثري أكثر من 7000 متر مربع.
متحف الحضارة هو بداية عهد أثري ومتحفي جديد تشهده الدولة المصرية، حيث سيتبع هذا المشروع على المدى القريب العديد من الافتتاحات المتحفية العظيمة كالمتحف المصري الكبير ومتحف عواصم مصر، ولربما سيكون توالي تلك الافتتاحات سببًا في تحفيز الجهات المختصة إلى الالتفات لعملية تطوير باقي المتاحف الإقليمية التي تنتشر على طول البلاد وعرضها، لتكون تلك الأخيرة بمثابة جزء من شبكة متحفيه مصرية متطورة تعزز الثقافة الوطنية، وتُسهم في جذب السائحين داخليًا وخارجيًا.
باحث أول ببرنامج السياسات العامة