اتجهت بعض التحليلات إلى الجزم بأن فوز الرئيس الديمقراطي “جو بايدن” في الانتخابات الأمريكية سيساهم في توفير مخرج لجماعة “الإخوان” عبر حلحلة الوضع الضاغط الذي تعايشه، انطلاقًا من كونها -أي الإدارة الجديدة- وريثة إدارة الرئيس الأسبق “باراك أوباما”. وفي ضوء ذلك، قامت إدارة “بايدن” في أواخر يوليو المنصرم بترشيح “رشاد حسين”، المعروف بارتباطه بتنظيم “الإخوان”، ليشغل منصب “سفير متجول للحريات الدينية الدولية”. الأمر الذي يثير التساؤل حول مدى تأثير الاختلاف بين الإدارة الجمهورية والديمقراطية على العلاقة بين واشنطن و”الإخوان”، وكذا مدى تأثير التغيرات الإقليمية والدولية. ومن ثَمَّ، تسعى هذه الورقة إلى تسليط الضوء على طبيعة العلاقة بينهما، مع استعراض مراحل تطورها، ومحاولة استشراف ماهيتها في المستقبل.
تواصل ممتد
مع تولي الولايات المتحدة قيادة المعسكر الغربي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ أول تواصل ظاهر بينها وبين جماعة “الإخوان” من خلال مقابلة بين “حسن البنا” و”فيليب أيرلاند”، السكرتير الأول للسفارة الأمريكية بالقاهرة في 29 أغسطس 1947، إذ طلب “البنا” من واشنطن تكوين “مكتب مشترك” من الإخوان والأمريكان لمكافحة الشيوعية، وفقًا لمحسن محمد في كتابه (من قتل حسن البنا؟).
وقد تعززت علاقة “الإخوان” بواشنطن في الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أرسلت السفارة الأمريكية في القاهرة إلى وزارة خارجية الأمريكية لتحيطها علمًا بمقترح “الإخوان” حول مشاركة “سعيد رمضان” (صهر حسن البنا) في المؤتمر الذي تنظمه جامعة “برنستون للدراسات الإسلامية” في الولايات المتحدة، والذي يهدف لتكوين أرضية مناهضة للشيوعية في الدول المستقلة حديثًا.
وفي أعقاب ذلك المؤتمر دعا البيت الأبيض المشاركين فيه ومنهم رمضان للقاء الرئيس الأمريكي آنذاك “دوايت آيزنهاور”. ومن هنا، بدأت واشنطن بالسماح للعناصر الإخوانية بالتواجد على أراضيها، إذ بدت مسألة الدراسة البوابة الأنسب لولوجهم إلى الولايات المتحدة، وفي هذا السياق شهدت بعض الجامعات الأمريكية حضورًا لافتًا للطلاب الإخوان.
وعلى الرغم من ذلك المشهد، إلا أن أغلب التحليلات اتجهت إلى اعتبار عام 1982 بداية للتواصل الأوسع بين الإدارة الأمريكية وقادة “الإخوان”، فقد تم استقبال “عمر التلمساني” بزخم في زيارته للولايات المتحدة؛ وفي أعقاب عودته أعلن في اجتماع لمكتب الإرشاد في 15 سبتمبر 1985 عن قرار الإدارة الأمريكية اعتزامها دعم الجماعات الدينية، اتساقًا مع سياستها في أفغانستان خلال هذه المرحلة، من خلال الجمعيات، وذلك عن طريق سفاراتها في البلدان الإسلامية. وعند هذه المرحلة بدأ نشاط “الإخوان” في الولايات المتحدة، حيث تمكنوا من تدشين مجموعات ضاغطة مؤيدة لهم من خلال المنظمات التي أسسوها أو التغلغل في بعض مراكز الأبحاث.
وارتباطا بذلك، شهدت التسعينيات تنامي العلاقات بين واشنطن و”الإخوان”، فقد بدت العلاقات بين إدارة الرئيس “كلينتون” و”الإخوان” أكثر اتساعًا وذلك في خضم ميله لصالح البوسنيين والألبان ضد الصرب. ناهيك عن قيامه بتعيين “عبدالرحمن العمودي” (إخواني من أصول إريترية) لدى وزارة الخارجية الأمريكية كسفير للنوايا الحسنة للدول الإسلامية. كما كان ضيفًا متكررًا في البيت الأبيض خلال سنوات “كلينتون”.
وفي السياق ذاته، تُفيد بعض الأنباء بقيام “هيلاري كلينتون” بدعوة بعض قادة الجمعيات الإسلامية في الولايات المتحدة لحضور حفل إفطار رمضاني خلال عام 1996، إضافة إلى تزايد الحديث عن احتضان “مؤسسة كلينتون” عددًا من الشخصيات الإخوانية، من بينها المهندس “جهاد الحداد” ابن القيادي الإخواني “عصام الحداد” عضو مكتب الإرشاد. فضلًا عن قيامها بتعيين “هوما عابدين” كمساعدة شخصية لها منذ أن كانت الأولى عضوة في مجلس الشيوخ الأمريكي ثم كسيدة أولى، واستمر التعاون بينهما في الفترة التي شغلت فيها الأولى منصب وزيرة الخارجية، وصولًا إلى ترشحها لانتخابات 2016. وتعد “عابدين” من أخطر الكوادر الإخوانية في الولايات المتحدة، وذلك في ضوء وصولها لمرتبة رفيعة في الحزب الديمقراطي. وترى بعض التحليلات أن “عابدين” تلعب حلقة الوصل بين تنظيم “الإخوان” والحزب الديمقراطي.
وجدير بالذكر أن “الإخوان” قد اجتهدوا لتنمية العلاقات مع واشنطن، وفق ما ورد فيما تم نشره من وثائق حول خطة التمكين (قضية سلسبيل 1991/1992)، وهي خطة الجماعة من أجل الاستيلاء على الحكم. ويُعد أخطر ما تطرحه وثيقة التمكين هو رؤية جماعة “الإخوان” لكيفية التعامل مع قوى العالم الخارجي، خاصة الغرب والولايات المتحدة الأمريكية، إذ تؤكد الوثيقة أهمية إشعار الغرب وواشنطن -على وجه الخصوص- بأن “الإخوان” لا يمثلون خطرًا على مصالحهم، وأن من صالح الغرب أن يتعامل معهم كونهم يمثلون قوة تتميز بالاستقرار والانضباط.
مثلت أحداث 11 سبتمبر نقطة مفصلية في علاقة واشنطن بالإخوان؛ إذ أدركت واشنطن حينها ضرورة فتح قنوات أكثر فاعلية مع تيارات الإسلام السياسي. وتصدرت هذه العلاقات أولويات المجتمع الفكري والبحثي في واشنطن، ومن بينها مشروع مؤسسة بروكنجز بشأن سياسة الولايات المتحدة تجاه العالم الإسلامي، الذي ضم مجموعة من الاجتماعات والمؤتمرات الإقليمية الدورية، وكان أول مؤتمراته في الدوحة عام 2002 بحضور نخبة من الساسة الأمريكيين وقيادات إسلامية بارزة، مثل مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق “مارتين إندك”، والمؤلف “توماس فريدمان”، و”يوسف القرضاوي”، وغيرهم.
وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن إدارة الرئيس “جورج بوش” الابن قد واجهت مأزقًا في تعاملها مع هذا الملف، إذ أخفقت الاستراتيجية التي اتبعتها إدارته كونها اعتمدت على الأداة العسكرية من جانب، والتركيز على بُعد “الدمقرطة” الذي ساهم في تصدر الإسلاميين للمشهد السياسي في بعض الدول من جانب آخر؛ فقد اعتبرت وزيرة الخارجية آنذاك “كوندليزا رايس” أن زيادة التطرف في الشرق الأوسط نجمت عن غياب القنوات وضيق الأفق السياسي.
بعبارة أخرى، اعتبرت بعض التحليلات أن إدارة “بوش” وضعت في حيز التنفيذ استراتيجية متناقضة تحمل بذور فنائها، حيث سعت لفرض الديمقراطية وتغيير الأنظمة في دول تتصدر فيها تيارات الإسلام السياسي –وفي مقدمتها الإخوان- معسكر المعارضة، كما غذت نمو الإسلام السياسي وما يرتبط به من منظمات إرهابية بسبب الخطاب الاستقطابي والحديث عن الحرب الاستباقية. وعلى الرغم مما بدا كموقف رافض للتيارات الإسلامية من قبل إدارة “بوش”، إلا أن حالة الزخم الخاصة بهم اتسعت وزادت قوتهم، بل تم إشراكهم أيضًا في العملية السياسية التي قادها “بول بريمر” في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق 2003. ناهيك عن الروابط المباشرة لإدارة “بوش” مع بعض الرموز الإخوانية منذ تدشين الحملة الإنتخابية، فقد ساهم “سامي العريان”، في القيام بحملة داعمة لــ”بوش” أثناء الانتخابات في مساجد فلوريدا وأماكن أخرى. كما عمل على تعيين “سهيل خان” في مكتب الاتصال العام بالبيت الأبيض.
وفي أعقاب ذلك، حاولت إدارة الرئيس “باراك أوباما” تجاوز هذا القصور -كما سبق- من خلال التفرقة بين تيارات إسلامية معتدلة وأخرى عنيفة، مع العمل على دمج وإشراك التيارات الإسلامية في المشهد السياسي. ومع وصول “الإخوان” للحكم في أعقاب ثورة 25 يناير 2011، كثفت واشنطن من اتصالاتها معهم، من أجل توسيع أرضية التفاهمات المشتركة، وفقًا لما تم كشفه من تسريبات مراسلات وزيرة الخارجية “هيلاري كلينتون” حينها. ولكن فشل أدائهم دفع الشعب المصري لإزاحتهم عن السلطة بثورة 30 يونيو 2013، مما أدى لارتباك الموقف الأمريكي تجاه الوضع في مصر.
وقد ظهر بوضوح ارتباك وتناقض السياسة الأمريكية تجاه مصر في مرحلة ما بعد إعلان جماعة “الإخوان” كجماعة إرهابية في مصر، فرغم اتساع أعمال العنف والإرهاب التي قامت بها الجماعة والمجموعات المرتبطة بها، عبّر البيت الأبيض، في عام 2014، عن “انزعاجه الشديد” من أحكام الإعدام بحق 682 شخصًا من أنصار جماعة الإخوان من بينهم المرشد العام للجماعة “محمد بديع”، ودعت إلى إلغائها.
وخلال الأسبوع الأول من فبراير 2014، أكدت الخارجية الأمريكية -في بيان لها- أن التواصل بين السفارة الأمريكية بالقاهرة وجماعة “الإخوان” لا يزال مستمرًّا، بحجة سعي واشنطن للحوار مع جميع أطراف العملية السياسية في مصر، وأكدت أن الولايات المتحدة لا تصنفها كمنظمة إرهابية. وظلت العلاقات متوترة بين إدارة “أوباما” والنظام الجديد في مصر لفترة إلى أن استوعبت واشنطن أبعاد الموقف الفعلي في الداخل المصري.
الإخوان بين الإدارتين الجمهورية والديمقراطية
يتصدر ملف العلاقة بين واشنطن و”الإخوان” جانب كبير من النقاش خلال المرحلة الراهنة سيما في أعقاب تولي الرئيس الديمقراطي “بايدن” بعد أربع سنوات من حكم الرئيس الجمهوري “دونالد ترامب” المثير للجدل. وفي إطار اتجاه الإدارة الحالية لمحو ميراث “ترامب” يتضح ضرورة التركيز على حجم وحدود الاختلاف بين الإدارتين، وهو ما يمكن إبرازه على النحو التالي:
بالنسبة للإدارة الجمهورية، قدم الرئيس “ترامب” نموذجًا للتيار المحافظ، ولذلك تبنى منذ وصوله لسدة الحكم خطابًا قوميًا يمينيًا وسياسة واقعية مصلحية، ويأتي في صدارة سياسته لفظ (الإسلام السياسي)، سيما مع تزايد حدة الرفض الشعبي له وفشله في الانخراط في اللعبة السياسية، بمعنى أن موقفه من هذا الملف اتسم بصبغة أيديولوجية. وعلى الجانب الآخر، وطدت واشنطن علاقاتها بالدول الفاعلة في المنطقة، خاصة السعودية والإمارات ومصر، التي صنفت الإخوان كجماعة إرهابية، بينما سارت خطواتها على خطى متأرجحة تجاه قطر وتركيا اللتين دعمتا الإخوان. لذا، اتسع الحديث حول اتجاه إدارة “ترامب” إلى اعتبار “الإخوان” جماعة إرهابية.
ومن هذا المنطلق، نظّمت اللجنة الفرعية للأمن القومي التابعة للكونجرس في 11 يوليو 2018، سلسلة من جلسات الاستماع حول “التهديد العالمي للإخوان”، بهدف تحديد المخاطر التي يُشكلها التنظيم على المصالح الأمريكية حول العالم. والواضح أن الاتجاه العام لجلسات الاستماع مال صوب قيام واشنطن بتصنيفهم كمنظمة إرهابية، على شاكلة حزب الله، وحركة حماس.
وقد ذكر وزير الخارجية السابق “مايك بومبيو”، أثناء مشاركته في ندوة بمعهد هوفر بجامعة استانفورد، في مجمل رده على سؤال حول اتجاه الإدارة لتصنيف “الإخوان” كجماعة إرهابية؛ أن هذا الأمر قيد النظر والتدقيق من أجل إتمامه “بطريقة صحيحة”. وفي أعقاب زيارة الرئيس “عبدالفتاح السيسي” لواشنطن في أبريل 2019، وجه البيت الأبيض مسئولي الأمن القومي بملاحقة تصنيف جماعة “الإخوان” كإرهابيين.
لكن بدا أن إدارة “ترامب” اضطرت إلى تأجيل هذا القرار لعدة أسباب: أولها تأثير جماعات الضغط الموالية لـلإخوان، وينصرف ثانيها إلى الضغوط من قبل بعض المنظمات مثل “هيومان رايتس واتش” التي اعتبرت “الإخوان” حركة سياسية واجتماعية، ويتصل ثالثها باختلاف نظرة النخب الأمريكية تجاه “الإخوان” بين من يراهم جماعة معتدلة ومن يراهم جماعة متطرفة، ويرتبط رابعها بالمال السياسي المرتبط بــ”الإخوان” الذي يحاول التأثير على موقف الإعلام الأمريكي من الجماعة.
أما الإدارة الديمقراطية، فتتجه أغلب التحليلات إلى التأكيد على وجود قنوات اتصال أكثر دفئًا بين “الإخوان” والديمقراطيين، ويستندون في ذلك إلى المرونة التي أبدتها إدارة “بيل كلينتون” وزوجته مع رموز هذا التيار، فضلًا عن سياسات إدارة “أوباما” التي لم تكن ترى أي غضاضة في وصول الإسلام السياسي للحكم. وعليه، مع انطلاق السباق الرئاسي الأمريكي خلال عام 2020، أفادت بعض الأنباء بسعي بعض الكوادر الإخوانية الموجودة بالولايات المتحدة إلى تعزيز شبكة علاقاتها مع الحزب الديمقراطي، لفتح الباب أمام تحالف جديد للإخوان مع الديمقراطيين في الشرق الأوسط.
في البداية، بدأت جماعة “الإخوان” في الولوج إلى الحملة الانتخابية الديمقراطية المناهضة لـــــ”ترامب” عبر المرشح الديمقراطي المنسحب “بيرني ساندرز”، فقد أشارت مجلة “أمريكان ثينكر” الأمريكية إلى أن السيناتور “ساندرز” ضم إلى فريقه الانتخابي أعضاء من جماعة “الإخوان”، مثل عضو مجلس إدارة مقاطعة “فيرفاكس” الليبية “أبرار عميش” ابنة القيادي “عصام عميش”، والتي عملت كرئيس مشارك لحملة “ساندرز” في فرجينيا.
وفي أعقاب انسحاب “ساندرز”، اتجه “الإخوان” إلى دعم “بايدن” لاستدعاء ميراث “أوباما”، الأمر الذي انعكس في انفتاح حملة “بايدن” على بعض الكيانات الإخوانية؛ إذ ألقى “بايدن” كلمة أمام المؤتمر السنوي الـ57 للجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية (إسنا)، أحد فروع الجماعة في الولايات المتحدة، كما تحدث في جلسة افتراضية إلى منظمة “إيمجاج أكشن Emgage Action” الإخوانية، التي ذكرت في حوار لقادتها بجريدة “بوليتكو Politico” دعمها لـــ”بايدن” في الانتخابات.
وعلى الرغم من ذلك، شهدت العلاقة بين “الإخوان” وحملة “بايدن” بعض الخلافات، يأتي في مقدمتها انتقاد الحملة بسبب تنصلها من دعم الناشطة الفلسطينية الأمريكية “ليندا صرصور” بعد تصريحاتها المعادية لإسرائيل. إذ قال “أندرو بيتس”، المتحدث باسم حملة “بايدن”، في بيان: “كان “بايدن” مؤيدًا قويًّا لإسرائيل، ومعارضًا قويًّا لمعاداة السامية طوال حياته، ومن الواضح أنه يدين آراءها ويعارض حركة BDS مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها، كما يفعل البرنامج الديمقراطي”.
وفي أعقاب الإعلان عن فوز “بايدن” سارع التنظيم إلى تقديم التهنئة له على أمل استعادة قنوات التواصل مع البيت الأبيض، وبالأخص مع تصدر الرموز التقدمية في الحزب الديمقراطي المشهد الأمريكي؛ إلا أنه بعد مرور نصف عام على حكم “بايدن”، لم تتضح بعد مؤشرات تقارب قوية بين البيت الأبيض و”الإخوان”، الأمر الذي يمكن تفسيره بالاستناد لعدم ميل “بايدن” لصعود الإسلاميين في الحكم مقارنة برموز أمريكية أخرى وفق ما كشفته بعض الكواليس المتعلقة بإدارة “أوباما”.
وقد يُنظر إلى ترشيح إدارة “بايدن” لــــــــ”رشاد حسين” ليشغل منصب “سفير متجول للحريات الدينية الدولية” في نهاية شهر يوليو المنصرم على أنه مؤشر على تعزيز التقارب. إذ قوبل هذا الترشيح بانتقادات في ضوء العلاقة الوثيقة التي تربط “حسين” بشخصيات إخوانية. وتشير بعض التقارير إلى الدور الذي لعبه “حسين” في تحسين صورة الإخوان داخل البيت الأبيض خلال فترة حكم “أوباما”، وذلك في أعقاب انتهاجها العنف بعد ثورة 30 يونيو بشكل انعكس على التعاطي الأمريكي مع المشهد في مصر.
واستنادًا إلى ما سبق، اتجهت بعض التحليلات -عبر نظرة أولية- إلى اعتبار أن فوز “بايدن” سيمنح قبلة الحياة للإخوان لإعادة بناء قوتهم وتأثيرهم؛ إلا أن واقع الأمر يحتاج تفكيكًا أكثر دقة لطبيعة العلاقات بين واشنطن و”الإخوان”. بداية، وعبر تتبع السياسة الأمريكية، يتضح عدم وجود سياسة رسمية أو خط واضح لتعامل واشنطن مع “الإخوان”، إذ شهدت العلاقات حالات من الشد والجذب انطلاقًا من طبيعة المصالح الأمريكية وطبيعة الأجواء الإقليمية والدولية، وذلك بغض النظر عن طبيعة الإدارة الأمريكية، حتى وإن مالت الإدارات الديمقراطية إلى سياسة أكثر مهادنة.
محدِّدات لمستقبل العلاقة بين واشنطن و”الإخوان”
يمكن القول إن مستقبل العلاقات بين واشنطن و”الإخوان” سيتوقف على معادلة تحوي عددًا من المتغيرات التي ستحدد في مضمونها فحوى السياسة الأمريكية تجاه هذا التنظيم الذي ينازع من أجل البقاء، يمكن توضيحها على النحو التالي:
1.وضع التنظيم داخل الولايات المتحدة: يرتبط هذا المتغير بعدد من الأمور التي يأتي في مقدمتها قوة تنظيم “الإخوان” والمجموعات المرتبطة به داخل الولايات المتحدة، الأمر الذي يعني بشكل أوضح حجم مجموعات الضغط التابعة للإخوان داخل الولايات المتحدة، سيما مع تزايد هجرة عدد من الكوادر الإخوانية من الشرق الأوسط إلى المدن والجامعات الأمريكية منذ نهاية الستينيات، وتحول هؤلاء إلى هيكل استشاري له فروعه وامتداداته داخل مراكز التفكير الأمريكية لعقود.
كما استطاعت الجماعة إقامة عددٍ من المنظمات داخل الولايات المتحدة في سبيل تحقيق أهدافها، وانقسمت هذه المنظمات إلى نوعين؛ النوع الأول: منظمات اجتماعية تهدف إلى نشر الأيديولوجيا الإخوانية وتعزيزها، ويُعد أبرزها (الجمعية الإسلامية لأمريكا الشمالية “ISNA”، والجمعية الإسلامية “MAS”). أما النوع الثاني: فهي منظمات سياسية تهدف إلى تقديم نفسها كصوت للمسلمين الأمريكيين هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ترمي إلى التأثير في السياسة الخارجية الأمريكية طبقًا لمصالح الجماعة الأم، ويعد أبرزها (المجلس الإسلامي الأمريكي “AMC”، ومجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية “CAIR”، ومجلس التنسيق السياسي للمسلمين الأمريكيين “AMPCC”).
ومن الشواهد الواضحة على التأثير الإخواني، الحديث المتكرر في الإعلام الأمريكي ومراكز الفكر حول الإخواني “مصطفى قاسم” الذي تُوفي في السجن أثناء قضاء عقوبة السجن المشدد لمدة 15 عامًا في قضية فض اعتصام رابعة المسلح، وأيضًا خطاب مؤسسة كارنيجي الموجه للإدارة الأمريكية، في 28 أغسطس 2020، الذي استنكر الحكم القضائي ضد الحقوقي المرتبط بالإخوان “بهي الدين حسن”، المحكوم عليه بالسجن المشدد لمدة 15 عامًا، لاتهامه بنشر أخبار كاذبة، والتحريض ضد الدولة، وإهانة القضاء.
2.تراجع قوة التنظيم داخل الدولة الأم: تواجه جماعة “الإخوان” جملة من التحديات، فعلى صعيد القيادة أعلنت الجماعة تنصيب “إبراهيم منير” -المقيم في لندن- قائمًا جديدًا بالأعمال، في سابقةٍ تعد الأولى من نوعها، وفي مخالفة واضحة للفقه الكلاسيكي للجماعة الذي تبنته منذ نشأتها، القائم على أن المرشد العام لا بد أن يدير أمور الجماعة من داخل مصر. ويمكن القول إن انتقال قيادة الجماعة من الداخل إلى الخارج يؤكد حجم التحدي الذي تمر به، إذ إنها لا تملك قيادة داخل مصر، مما ينصرف إلى صعوبة هيكلة التنظيم داخل مركزه.
أما على صعيد الهياكل التنظيمية للجماعة، فنجد أن الهياكل التنظيمية للجماعة تشهد حالة من الإحلال والتجديد لمواجهة التحديات الحالية، إذ أعلنت إلغاء الأمانة العامة، واستبدالها بتشكيل لجنة معاونة جديدة، برئاسة “إبراهيم منير”، فضلًا عن حل المكتب الإداري للإخوان في تركيا، وحل مجلس شورى الجماعة، مما يؤكد ضعف البنية التنظيمية والهيكلية للجماعة. مع الأخذ في الاعتبار أن الخبرة التاريخية قد تعطي بعض المؤشرات حول قدرة الجماعة على تجاوز التحديات وإعادة بناء نفسها.
3.وضع الجماعة خارج الدولة الأم: بالنظر إلى وضع جماعة “الإخوان” خارج مصر، نجد أن وضعها في الساحة العربية يشهد تحديًا كبيرًا، إذ اتخذت دول الرباعي العربي (مصر، والإمارات، والسعودية، والبحرين) قرارًا باعتماد جماعة الإخوان “حركة إرهابية”. أما سوريا فقد اتخذت القرار نفسه منذ عام 1982، ناهيك عن حل الجماعة في الأردن بحكم قضائي في عام 2020.
ومؤخرًا بات وضع الجماعة في تونس موضع تساؤل حقيقي، سيما في أعقاب الحالة الثورية التي يعج بها الشارع التونسي والتي دفعت الرئيس التونسي “قيس سعيد” إلى اتخاد قرارات تتعلق بتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن النواب وإعفاء رئيس الوزراء هشام المشيشي. وعلى الرغم من أن السودان لم يحظر الجماعة؛ إلا أن الدولة السودانية بعد الثورة تسعى إلى تفكيكها. وفي السياق ذاته، عملت موريتانيا على تقويض نفوذ الجماعة، وإغلاق الجمعيات التابعة لها. كما عجزت الجماعة عن التغلغل في المجتمع اللبناني نتيجة التركيبة السكانية والسياسية الطائفية للدولة.
ولكن لا يمكن غض الطرف عن استمرار نشاط الجماعة في عدد من البلدان العربية، في مقدمتها قطاع غزة، وكذا نفوذ الجماعة في بعض مؤسسات الدولة الليبية، ناهيك عن وجود سياسي للجماعة في برلمانات المغرب والجزائر والكويت.
4.الظروف الإقليمية والدولية: يرتبط هذا المتغير بشكل وثيق بالعوامل الدولية والإقليمية المحفزة على نمو تيارات الإسلام السياسي بما فيها “الإخوان”، ويأتي في مقدمتها تنامي الخطابات العنصرية، سواء التي تعادي الآخر أو التي تعادي الإسلام، وهو خطاب يسير في اتجاه متزايد ومرتفع سيما في الغرب، إضافة إلى تزايد في أعداد النزاعات وتعقد أبعادها، لا سيما التي تحمل أبعادًا دينية أو عرقية أو إثنية، سواء في المنطقة كالأزمات الليبية واليمنية والسورية، أو خارجها كمسألة الإيجور ومسلمي بورما، وأخيرًا الصدام بين أرمينيا وأذربيجان، بجانب الأزمة في الخليج التي تحمل في فحواها صدامًا سنيًّا شيعيًّا على مقدرات المنطقة.
علاوة على ذلك، تظل القضية الفلسطينية في مقدمة القضايا التي تستغلها جماعة “الإخوان” لإقناع الجمهور بخطابها، لذا قد تُمثّل عملية التطبيع الخليجي، وبالأخص الإماراتي، مع إسرائيل مدخلًا مناسبًا للجماعة عبر تصدير خطاب مفاده تشويه الأنظمة العربية، واعتبار الجماعة هي البديل المناسب القادر على الثأر للقضية، ويزداد تأثير هذا البعد كلما اشتعل الداخل الفلسطيني أو شهد اشتباكات فلسطينية إسرائيلية.
5.مدركات الإدارة الأمريكية: يمكن القول إن الإدارات الأمريكية تعمل وفق أهداف واحدة أو محددة بأدوات متغيرة، وهو ما ينصرف قياسًا على ملف “الإخوان” أيضًا. إذ تحاول الإدارة الأمريكية بشكل عام الحفاظ على قنوات مفتوحة مع كافة الأطراف -بما فيها الإخوان- لضمان استغلالها كلما اقتضت المصالح الأمريكية. وعليه، ترى بعض الإدارات أن تواصلها مع “الإخوان” سيسمح بتحقيق عدد من الأهداف، يأتي على رأسها استغلالهم كأدوات ضغط ضد بعض الأنظمة، وضمان ولائها حال وصلت للسلطة، كما يسمح بالتواصل من خلالها -أي الإخوان– مع التنظيمات المتطرفة والعنيفة الأخرى.
لذا، تتجه الإدارة الأمريكية إلى تبني نظرية “الدمج يؤدي إلى الاعتدال” خلال فترة ما، والتي تعني أن دمج الإسلاميين في اللعبة السياسية سيؤدي لتحولهم إلى جماعات معتدلة تؤمن بالديمقراطية، في مقابل اتجاه الإدارة الأمريكية -في أوقات أخرى- إلى التأكيد على ضرورة استبعاد الإسلاميين، والتضييق على الخطابات الراديكالية، في حين تفضل بعض الإدارات السير على خطى مزدوجة ما بين فتح قنوات خلفية معهم بالتوازي مع تعزيز العلاقات مع النظم الحاكمة التي تُضيّق عليهم.
6.الترابط الثلاثي بين قطر وتركيا والإخوان: تبلور بشكل جليّ خلال العقدين الأخيرين دعم متزايد من قبل قطر لتنظيم الإخوان، وكذا روابط كبيرة بين النظام التركي متمثلًا في حزب العدالة والتنمية وجماعة “الإخوان”، إذ يسعى اللاعبان (قطر وتركيا) لتعزيز قوة “الإخوان” من أجل إيصالهم للسلطة، انطلاقًا من أن ذلك سيحقق مشروعهما الإقليمي، وهو ما اتضح بشكل متزايد منذ اندلاع “الربيع العربي”.
وفي أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، تحولت تركيا إلى ساحة أساسية للتنظيم، حيث فر إليها كثيرٌ من قادته وأعضائه، ووجهوا نشاطاتهم العسكرية والسياسية والإعلامية ضد دولهم. فيما تقوم قطر بدور رئيسي في تأمين الدعم المالي لنشاطهم، فضلًا عن الدعم الإعلامي واسع النطاق عبر تسخير أبواقها الإعلامية -لا سيما الجزيرة- للدفاع عنهم والترويج لمشروعهم.
وعليه، يبدو أن قوة التنظيم ترتبط بشكل وثيق باستمرار هذا المثلث الذي يضمن له القدرة على البقاء، وتوسيع قنوات للتحرك من جانب، وترديد أفكارهم والدفاع عن مشروعهم من جانب آخر. إلا أن الفترة الأخيرة بدأت تشهد مؤشرات لتفكك هذا الارتباط الثلاثي، إذ ساهم سعي كل من قطر وتركيا للتقارب مع الدولة المصرية في تقييد علاقاتهم الدافئة مع “الإخوان”. ولكن يصعب حتى الآن الجزم بالتفكك النهائي لهذا الارتباط، إذ لا تزال مسار تحركات الدوحة وأنقرة موضع تساؤل.
مجمل القول، إن العلاقات بين واشنطن والإخوان مؤسسية أكثر مما تبدو عليه، والفارق الأساسي بين الحزب الديمقراطي أو الجمهوري في العلاقة مع الإخوان هو في نمط هذه العلاقة وما إذا كانت مباشرة (الحزب الديمقراطي) أم غير مباشرة (الحزب الجمهوري)، وليس في تحجيم انتشار وتأثير جماعة “الإخوان” من عدمه. لكن المتغيرات الأساسية في المنطقة التي تؤثر بشكل أساسي على مدى قوة الجماعة وانتشارها، هي ما يمكن أن تدفع في اتجاه تغيير نمط العلاقات بين الطرفين. وبعبارة موجزة، فإن العلاقة بين “الإخوان” والولايات المتحدة لا تسير وفق خط واحد، وإنما وفق معادلة تحوي عددًا من المتغيرات كما سبقت الإشارة. وعليه، يتضح أن مستقبل العلاقات سيتوقف على مدى قوة التنظيم وقدرته على التكيف، أو توظيف الظروف الإقليمية والدولية من أجل إعادة بناء نفسه مجددًا، فلا شك أن الإدارة الأمريكية ستسعى للتواصل مع أي لاعب قوي -أيًّا كانت هويته– لذا فإن قوة التنظيم وقدرته على إعادة بناء نفسه ستكون هي المحدِّد الأساسي لطبيعة العلاقات معه.