في تطور مهم أصدرت الحكومة الانتقالية السودانية قرارها بتسليم “البشير” ومعه مجموعة من المتورطين في جرائم إبادة جماعية بدارفور، للمحكمة الجنائية الدولية، وذلك بعد تمرير مشروع قانون يقضي بالانضمام لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية. وخلال زيارة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم أسد خان، صرحت وزيرة الخارجية مريم الصادق المهدي، بانفتاح الحكومة السودانية على التعاون مع المحكمة في تسليم البشير. وجاء ذلك بعد أن وقّع وزير العدل نصر الدين عبدالباري، ممثلًا عن الحكومة السودانية، وكريم خان عن المحكمة الجنائية الدولية، مذكرة تفاهم بين الجانبين، تقضي بمواصلة التعاون في توفير المعلومات المطلوبة.
وقد أعاد القرار السوداني الجدل حول تسليم البشير بصفة خاصة والموقف الإفريقي من الجنائية الدولية بصفة عامة، إلى الواجهة؛ على نحوٍ يستدعي الوقوف على خلفيات ودوافع القرار، ومن ثمّ إمكانية وفاعلية تطبيقه.
أبعاد قرار تسليم “البشير”
في عام 2005، أحال مجلس الأمن الدولي النظر في قضايا الحرب في دارفور وما ارتكب من جرائم إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية للمحكمة الجنائية الدولية، وهو القرار الذي شكّل الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك “كوفي عنان” على خلفيته لجنة تحقيق في جرائم الحرب بدارفور، برئاسة القاضي الإيطالي أنطونيو كاسيوس. وبعد الزيارات الميدانية للمناطق والمعسكرات المتضررة من الحرب، أعلنت المحكمة عن قائمة تضم 51 من الشخصيات المتورطة في الحرب. لكن مع تسلّم المدعي العام للمحكمة لويس مورينو أوكامبو ملف القضية، أعلن إعادة فتح التحقيق من جديد، ليتوصل بعد ثلاث سنوات من التحقيق، لتوجيه الاتهام للبشير وأربعة من رموز نظامه وذلك في عام 2008.
وبالفعل، تمّ توقيع مذكرتي توقيف للبشير عامي 2008 و2009، بجانب مذكرات توقيف لكلٍّ من وزير داخليته والحاكم السابق لكلٍّ من جنوب وشمال كردفان “أحمد هارون”، ووزير الدفاع آنذاك عبدالرحيم محمد حسين، بالإضافة إلى عبدالله بنده وعلي كوشيب، قائد ميليشيا الجنجويد، الذي سلّم نفسه في مايو الماضي للمحكمة، أثناء تواجده في إفريقيا الوسطى.
وفي ظل عدم عضوية السودان بين الدول الموقّعة على نظام روما الأساسي، رفض البشير الامتثال لتلك القرارات، مدعومًا بموقف إقليمي رافض للامتثال لقرارات المحكمة، حيث تجنب البشير القبض عليه أثناء مشاركته في قمة الاتحاد الإفريقي بجوهانسبرج بجنوب إفريقيا (2015)، وهو الأمر الذي تكرر أثناء تواجده بنيجيريا. وقد مثّلت تلك المواقف اختبارًا كاشفًا للمواقف الإفريقية من المحكمة؛ إذ عزمت جنوب إفريقيا الانسحاب عام 2016، متعللة برغبتها في التحلل من الالتزامات القانونية تجاه المحكمة. وبعد سقوط البشير 2019، تجددت المطالبات بتسليمه للجنائية الدولية، كجزء من العدالة الانتقالية، وللقصاص لضحايا الحرب في دارفور. وبعد سلسلة من التجاذبات بين قادة المرحلة الانتقالية، استقرّ الرأي مؤخرًا على مثول البشير أمام الجنائية الدولية.
وقد جاء هذا الإعلان الأخير بعد تردد واضح من جانب السلطات الانتقالية في السودان. فقد سبق أن أعلن رئيس المجلس السيادي في وقتٍ سابق عن عدم تسليم البشير للجنائية، مؤكدًا الثقة في القضاء السوداني في إنفاذ القانون، وتحقيق العدالة الانتقالية، وأن البلاد ليست طرفًا في المحكمة الجنائية. وفي المقابل، أعلن فيصل محمد صالح، وزير الإعلام السابق، بقاء كافة السيناريوهات مطروحة أمام التعاون مع المحكمة الجنائية فيما يخص الموقف من البشير. ومن جانبه، طالب ممثل دارفور في مجلس السيادة، محمد حسن التعايشي، بضرورة تسليم البشير للجنائية، اتساقًا مع الموقف الذي تمسّكت به الحركات الدارفورية خلال مفاوضات السلام. وما بين داعين لتنفيذ القرار، وآخرين رافضين له بدعوى إمكانية محاكمته محليًا، يتوسطهم رأي يقضي بتشكيل محكمة مختلطة، يشارك بها قضاة سودانيون مع قضاة من المحكمة الجنائية.
اعتبارات سياسية وقانونية
تُشير التفاعلات الجارية عن ارتباط الموقف من محاكمة البشير إلى العديد من الاعتبارات السياسية والقانونية المركبة، حيث لا ينفصل الجدل الدائر بشأن تسليم البشير عن السياق المعقد للمرحلة الانتقالية التي تمر بها السودان. فعلى المستوى الداخلي، هناك رغبة في إتمام اتفاق السلام السوداني الذي لا تزال أقوى الحركات الدارفورية خارجه، والتي اشترطت تسليم البشير للجنائية الدولية لترسيخ العدالة الانتقالية، وتنفيذ تطلعات سكان أحد أكثر الأقاليم معاناة في عهد البشير. كما يرتبط الموقف السوداني الأخير بالجدل الدائر بشأن القضاء السوداني مع الاتهامات المتكررة باستمرار سيطرة القضاة المحسوبين على النظام السابق على مواقع مهمة من السلطة القضائية، بما يخلّ بمعايير النزاهة، ويعرقل مساءلة رموز نظام الإنقاذ عن الجرائم التي ارتكبوها خلال توليهم الحكم.
وعلى المستوى الخارجي، لا ينفصل موقف السودان من المحكمة الجنائية الدولية عن محاولات إعادة دمج السودان في المجتمع الدولي. وبينما تسعى الحكومة الانتقالية لفك تلك العزلة الدولية عن السودان، فإنها حريصة على إظار امتثال والتزام سوداني بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان وتطبيق العدالة بمفهومها الشامل. حيث تأتي مساعي تسليم البشير للمحكمة الجنائية، وكذلك في محاولة لإبداء انفتاح السودان على المجتمع الدولي بمؤسساته ونظامه القانوني الحاكم، ربما في محاولة من الحكومة المدنية لترسيخ الثقة المتبادلة مع النظام والمجتمع الدولي.
تحديات التنفيذ
تكشف أبعاد القرار السوداني ومحدداته عن تحديات جمة في تنفيذه، على نحوٍ دفع بالبعض للبحث في البنود القانونية لإيجاد مخرج من تلك الأزمة، وكان من بينها أن قانون الجرائم السوداني لعام 1991 لم يشتمل على نص خاص يتعلق بجرائم الإبادة الجماعية والترحيل القسري، وهي الجرائم التي اشتمل عليها القانون الجنائي المعدل في 2020، وهو ما يتعارض مع المبدأ القانوني الخاص بعدم محاكمة المتهم بأثر رجعي. كما أن قرار إحالة قضية الانتهاكات في دارفور للمحكمة الجنائية الدولي قد جاء من مجلس الأمن الدولي للمحكمة، في وقت لم يكن السودان فيه عضوًا في المحكمة، بجانب الدول التي تطالب بنفسها المحكمة للتحقيق فيما تشهده من جرائم حرب وعلى رأسها الولايات المتحدة.
وربما يكون تشكيل محكمة مختلطة، بانضمام قضاة سودانيين لقضاة المحكمة الجنائية الدولية، لضمان عدم الانحياز، هو أحد المقترحات الواقعية لتجاوز التحديات في هذا السياق الشائك. فمن جهة، سيُرضي ذلك الموقف المتضررين من ممارسات البشير اللا إنسانية، خاصة مع توقيع أحكام ناجزة؛ ومن جهة أخرى سيحفظ سيادة الدولة السودانية، في وقت لا يزال فيه الموقف من الجنائية الدولية نفسها محل الكثير من الانتقاد والتشكيك، ليس على الجانب السوداني فقط، ولكن كذلك على المستوى الإفريقي ككل.
وختامًا، يفتح القرار السوداني الأخير الباب أمام سيناريوهات عدة، تسعى السلطات الانتقالية من خلالها للحفاظ على حد أدنى من السيادة السودانية، مع الانفتاح على الجهود الدولية المبذولة من المحكمة الجنائية الدولية من أجل الوصول لعدالة ناجزة بشأن الجرائم التي ارتُكبت خلال سنوات الصراع في دارفور.