نيقولا ميكيافيلى هو أحد أهم المفكرين السياسيين فى التاريخ. كتب ميكيافيلى ناصحا أحد أمراء إيطاليا فى القرن السادس عشر، فكتب بواقعية أورثته سمعة سيئة. سخر ميكيافيلى من الكتابات التى دعت إلى تأسيس مدينة فاضلة، لما وجده فيها من وعظ فارغ وأحلام محلقة. يعتبر ميكيافيلى أحد مؤسسى العلم الاجتماعى الحديث، لأنه ركز فى دراسته على ما هو قائم، وليس على ما يجب أن يكون.درس ميكيافيلى التاريخ، وقرأ ما وصل إليه من تاريخ اليونان والرومان والفرس والترك والمماليك وبابوات روما وأمراء وملوك أوروبا، فاستخلص منه الدروس، وضمها فى صفحات كتاب، لعلها تفيد من يقرؤها.
لاحظ ميكيافيلى أن مشكلات السياسة والمجتمع مثل المرض، صعب التشخيص لكنه سهل العلاج فى البداية؛ وسهل التشخيص لكنه صعب العلاج فى المراحل المتأخرة. هذه حكمة لا تقدر بمال، ولا تتقادم أو يبليها الزمن؛ فلندعُ الله أن يهبنا الحكمة لنصل للتشخيص السليم مبكرا، وأن نقدر على تحمل العلاج الضرورى فى المراحل المتأخرة.
عاش ميكيافيلى فى عصر ما قبل أوروبا الديمقراطية، وحاول مساعدة الأمراء للنجاح فى ظروف زمانهم؛ ومما كتبه أنك لن ترى رجلا مسلحا يطيع رجلا أعزل، وهو بكامل إرادته؛ ولن ترى أعزل سالما بين أتباعه المسلحين؛ وأن الجنود لا يحترمون أميرهم الجاهل بالشئون الحربية، وعلى الأمير ألا يكف عن التدريب العسكرى، وأن يشغل وقته بالرياضات الخشنة، ويعود جسده على المشقة والتعب. هل يشرح لنا هذا لماذا درس ملوك أوروبا وأمراؤها فى المعاهد العسكرية، ولماذا كانت الحرب مهنتهم، ولماذا ظهروا دائما فى الملابس العسكرية.إنه الزمن الذى كان فيه الأمراء يتريضون بالصيد وتسلق المرتفعات والتخييم فى الخلاء، فلم يكن لأمراء ذلك الزمان رفاهية لعب الجولف، فهذه ألعاب زمن السلم والرفاهية الذى لم يأت إلا بعد ذلك بكثير.
لاحظ ميكيافيلى أن النخب تتصارع على السلطة، وتقوض حكم بعضها البعض، وأن نجاح الأميرمرهون بالسيطرة على النخب، واسترضاء بسطاء الناس وكسب ودهم. ميز ميكيافيلى بين سياسة النبلاء وسياسة الشعب، فمن يصل إلى الحكم بمساعدة النبلاء سيكون عليه أن يتحمل منافستهم له، واحتفاظهم بسلطات تنتقص من سلطاته، وربما تحديه والانقلاب عليه. أما الشعب فأمره مختلف، لأن الشعب لا يريد سوى العدل.
فى علاقته مع المنافسين، على الأمير ألا يحفظ عهدا يكون الوفاء به ضد مصلحته، وألا يستمر فى الوفاء بوعد انتهت أسباب الارتباط به، وليس من الصعب إيجاد الأعذار المقبولة لتبرير عدم الوفاء بالعهد. التساهل مضر، ومسبب للفوضى، وهناك طيبون كثر، يعرفون كيف يتجنبون الأخطاء، أكثر من معرفتهم بكيفية تصحيح أخطاء الآخرين، ومعاقبتهم عليها، حتى لا يكررونها.
للفوز على الخصوم قواعد، ومن نصائح ميكيافيلى أن انتصر على خصمك، لكن تجنب إهانته. فحتى المصالح المستحدثة لا تمحو أثر الإهانات القديمة من النفوس. من نصائحه أيضا أن احترام الممتلكات ضرورى، فالناس قد يغفرون لقاتل أبيهم، لكنهم لن يغفروا له أبدا لو أنه حرمهم من ميراثه.
إذا أردت الفوز بتعاون الخصم، فعليك مساعدته على ادعاء النصر، حتى لو كان فى حقيقة الأمر قد قدم تنازلات هائلة.تجنب إهدار كرامة الخصم، ولا تتصرف كما لو كنت تسعى لإجباره على التصرف بطريقة تتعارض مع مبادئه ومصالحه.احفظ ماء وجه الخصم، ولا تهدر كرامته، فكلما خرجت الكرامة من حسابات السياسة كان التوصل لاتفاق أسهل.
لسياسة الناس قواعد تختلف عن سياسة النخب، والأمير الناجح لا يخلط بين الأمرين. الناس يقاومون كل ما هو جديد، ولا يقبلونه إلا بعد أن يجربوه أولا. لو كان لابد من قرارات صعبة، فيحسن أن تأتى دفعة واحدة، فهذا أقل ضررا من واقعات متعددة تبقى مرارة آثارها قائمة لفترة طويلة؛ أما المزايا فيجب تقديمها جرعة جرعة، ليستمتع الناس بها ويشعروا بفائدتها.
لم يكن ميكيافيلى مشغولا بالديمقراطية، ولم يكن هذا المصطلح قد خرج من كتب تاريخ اليونان القديم ليدخل واقع أوروبا الحديثة بعد. مع هذا فإن ميكيافيلى أجرى مقارنات وكتب ملاحظات شديدة الذكاء تتصل بهذه القضية. قارن ميكيافيلى بين تركيا وفرنسا، وقال إن من ينظر إلى هاتين الدولتين سيجد أنه من الصعب جدا الاستيلاء على الدولة التركية لكن السيطرة عليها سهل جدا حال هزيمتها؛ أما مملكة فرنسا فمن السهل جدا إسقاطها لكن السيطرة عليها أمر شديد الصعوبة؛ ولهذه الملاحظة صلة قوية بمسألة التركيب الاجتماعى وعلاقته بنمط السلطة السياسية فى أوروبا والشرق.
نيقولا ميكيافيلى هو مؤسس العلوم الاجتماعية الحديثة، وتشفع له كتابات المفكر والقائد اليسارى الإيطالى أنطونيو جرامشى، الذى أطلق على أحد أهم مؤلفاته اسم الأمير الحديث، لتأكيد الصلة التى تربط طريقته فى التفكير بما كتبه ميكيافيلى قبله بأربعمائة عام. قد لا يحب الكثيرون منا ما كتبه ميكيافيلى، لكن فهم ميكيافيلى فى سياقه التاريخى، ومحاكمته بمعايير عصره تظهر العبقرية والجوانب التقدمية فى فكره.
ولد نيقولا ميكيافيلى فى 1469، ومات عام 1527، عندما كانت أوروبا تخرج من القرون الوسطى، وتتهيأ للدخول فى العصر الحديث. إنها نفس الفترة التى عاش فيها المصلحون الدينيون مارتن لوثر وجون كالفن، وعالم الطبيعيات نيكولاس كوبرنيكوس، أول من قال بدوران الأرض حول الشمس. كانت أوروبا وقتها تتهيأ للانطلاق، فراح مثقفوها يؤسسون مذاهب فلسفية وتفسيرات دينية وعلوما حديثة، فهل نشهد عندنا حراكا فكريا يبشر بنهضة قادمة؟.