كانت أحداث 11 سبتمبر في نيويورك سنة 2001 التي نفذتها القاعدة، وسمتها غزوة مانهاتن، ولم تستأذن فيها الإمارة التي بايعتها، بحسب ما ذكر عدد من المراقبين؛ السبب الرئيسي في سقوط حكم إمارة طالبان في أكتوبر من العام نفسه. فهل من المتوقع فك ارتباط معلنًا وحربًا من الإمارة على التنظيم المعولم وشبكته وقيادته المركزية في الفترة القادمة؟.
أسست القاعدة ودشنت منذ تأسيسها في 2 سبتمبر سنة 1998 عولمة الجهاد، واتخذت أفغانستان بعد قيام إمارة طالبان سنة 1996 ملاذًا آمنًا لها ومنطلقًا لعملياتها في عهد أميرها الراحل “أسامة بن لادن” (قتل في مايو سنة 2011) الذي احتفظ بعلاقة وطيدة بالملا الراحل “جلال الدين حقاني” (توفي في 3 سبتمبر 2018) زعيم شبكة حقاني التي تعد فرعًا شبه مستقل من طالبان، ويتولى أحد أبنائه “سراج الدين حقاني” وزارة الداخلية في حكومتها المؤقتة، وثلاثة آخرون من الشبكة، كما كان “جلال الدين” شيخًا ومرشدًا لقادة طالبان المؤسسين وفي مقدمتهم الملا عمر الذي أعلن مقتله عام 2013. ولكن قد يختلف الأمر، فقد رحل أسامة بن لادن الذي كان يحتفظ بجاذبية وكاريزمية خاصة في الجهاد الأفغاني، كما رحل جلال الدين حقاني وأتى جيل جديد للحركة ولشبكة حقاني مختلف بشكل كبير. ويبدو أنه مندمج في الحالة، فقد ظهرت صورة سراج الدين في تطمين نائب الرئيس الأفغاني الهارب أشرف غني بعد مبايعته لطالبان.
تجدد السؤال حول علاقة طالبان والقاعدة
يتجدد السؤال حول احتمال فك الارتباط بين طالبان والقاعدة بقوة، سواء مع تعهدات طالبان للولايات المتحدة بعدم اتخاذ أفغانستان منطلقًا لأي عمليات ضدها أو ضد حلفائها، كما حدث قبل عقدين من الزمان من قبل شبكة القاعدة في أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001، أو لدول الجوار الكبرى في جنوب آسيا أو غيرها، وهو ما يخالف توجهات القاعدة وكذلك توجهات سلفها داعش -رغم خلافهما- ويميت شبكة القاعدة وقيادتها المركزية موتًا إكلينيكيًا في هذه الحالة، وتفقد جوهر أيديولوجيتها وعملياتها وهو استهداف الولايات المتحدة وحلفائها وإسرائيل عبر جبهتها العالمية، منذ تأسيسها وحتى الآن.
أسباب مختلفة لاحتمالات فك الارتباط
يزيد الاحتمال بفك الارتباط مع القاعدة وزعيمها السجالي المختلف عليه والمختفي أيمن الظواهري، مع تزايد خطر فرع داعش خراسان في أفغانستان، وأسباب أخرى كثيرة منها ما يلي:
أولًا- قطرية ومحلية طالبان:
تظل حركة طالبان ذات طابع محلي وقطري، وبعد عشرين عامًا يبدو أنها اختبرت الدرس على المستوى الدولي، ولن تجازف مع من يلوذون بها من أمراء القاعدة المختفين والموجودين في دائرة الظل، كما تصف داعش أيمن الظواهري، بأن يقوموا بعمليات تُسقط مشروعهم وحكمهم من جديد، وتستدعي التدخل الأجنبي في بلادهم.
إن قطرية طالبان التي تتخذ من الصين دعمًا اقتصاديًا، وتنحدر من أصول ثقافية وديوبندية وصوفية هندية في محضن قبلي بشتوني، ربما لن تقبل توظيف عولمة الجهاد التي تمثلها القاعدة وداعش. وإذا كانت تعادي الأخيرة صراحة فإنها لن تقبل بنشاط الأولى، فكلاهما أقرب للآخر من قربه أيديولوجيًا ومفهوميًا من طالبان وخصوصيتها. حيث يبدو أن التحالف بين كلٍّ من القاعدة وطالبان على قدم المساواة، ولم يكن توافقًا أيديولوجيًا في تحديد العدو والهدف على الأقل داخل أفغانستان. فطالبان تظل حركة قطرية، بينما القاعدة حركة ذات طبيعة أممية، وأقول أيديولوجيًا نظرًا لبعض الاختلافات المرجعية والفروقات العقدية والفكرية في تصور الإسلام نفسه لدى كلٍّ منهما، وإن عذر كل الآخر في اختلاف نتيجة هذا التحالف والاتفاق في تصور العدو والأهداف الاستراتيجية، حيث ظلت القاعدة سلفية جهادية تنتمي مرجعيتها للسلفية الجهادية مع بعض التأويلات القطبية والفكرية، بينما ظلت طالبان حركة قطرية صوفية ديوبندية تعتقد في التصوف والعقيدة الماتريدية[1].
ثانيًا- خطر داعش والدعم الأمريكي في مواجهتها:
تتواتر الأخبار عن التحالف المحتمل بين الإمارة الإسلامية والولايات المتحدة الأمريكية في مواجهة داعش، في الفترة القادمة، التي تمثل التحدي الأكبر لها بعد سيطرتها على وادي بنجشير وهزيمة حركة المقاومة بقيادة أحمد مسعود في أوائل سبتمبر الجاري.
سير متبادل من كلا الطرفين نحو الآخر، الولايات المتحدة من جهة وطالبان من جهة أخرى، نحو الآخر، حدث قبل انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان في 31 أغسطس، بعد اتفاقهما في الدوحة في فبراير سنة 2020، حيث قامت القوات الجوية الأمريكية بتوفير غطاء جوي لطالبان في معارك خاضتها الأخيرة ضد “داعش خراسان” التي لم ترسل لها التهنئة، وتصر على وصفها بالمرتدة والكافرة، وتستهدف عناصرها في كل مكان.
من مبررات فكّ الارتباط أيديولوجيًا أيضًا أن عناصر القاعدة وأفكار وخطاب قياداتها قد تمثل وقودًا ومحضنًا لنشاط رغم اختلافهما وخلافهما، وتزيد من حرج طالبان المتقاربة مع الولايات المتحدة والملتزمة تجاهها وتجاه القوى الكبرى بعدم التهديد أو الاحتضان لأي عمليات ضدها، فضلًا عن رغبة داعش في استعادة خلافتها الأممية في مواجهة إمارة مؤمني طالبان المحلية المحدودة بالنسبة لها كما تراها.
ويتوقع أن يزيد الدعم الأمريكي لطالبان في مواجهة داعش، في الفترة القادمة، وهو ما تدركه إدارة الرئيس الأمريكي بايدن، وأشار إليه بايدن في كلمته عقب الانسحاب الأمريكي في 50 أغسطس الماضي، كما أكده قبل أيام في الثاني من سبتمبر الجاري 2021 رئيس هيئة الأركان المشتركة الأمريكية مارك مايلي، من احتمال تنسيق الجيش الأمريكي مع حركة طالبان في أي عمليات مكافحة إرهاب مستقبلية ضد تنظيم “داعش-خراسان” الإرهابي في أفغانستان. وفي 11 مارس العام الماضي 2020 قال قائد القيادة المركزية للجيش الأمريكي “سينتكوم”، الجنرال كينيث ماكنزي، إن قوات بلاده قدمت دعمًا “محدودًا” لحركة طالبان في مواجهتها مع تنظيم داعش الإرهابي في محافظة “نانغاهار” شرق أفغانستان التي كانت معقلًا لداعش.
وجاءت كلمة ماكينزي تلك في كلمة أدلى بها أمام لجنة الخدمات المسلحة بمجلس النواب الأمريكي، وتطرق خلالها إلى الاتفاقية التي عقدتها واشنطن مع طالبان بقطر في 29 فبراير 2020، وأكد أن حركة طالبان لم تشنّ أي هجمات على الولايات المتحدة منذ هذا الاتفاق. وقد نشرت “بلومبرج” تقريرًا يوضح معضلة طالبان في التعاون مع واشنطن في حربها ضد داعش، إذ إن الحركة تخشى من تحول عناصرها إلى التنظيم الإرهابي في ظل عدم وجود ما تقوله عن تضحياتها لـ”طرد الغزاة الأمريكيين” خلال العقدين الماضيين.
ثالثًا- الاختلاف الجيلي ووجود أجنحة متحفظة في طالبان على العلاقة مع القاعدة:
منذ البدايات كانت هناك أجنحة من طالبان متحفظة على العلاقة مع تنظيم القاعدة، ولكن الجناح المتحمس لهذه العلاقة كان المسيطر حينها، فضلًا عن دعم تنظيم القاعدة بقيادة الراحل “أسامة بن لادن” الإمارةَ حينها اقتصاديًا، وكان منظرو وقادة القاعدة الاستراتيجيون منتبهين لهذا الأمر، ولاختلاف أجنحة طالبان، وفي ذلك يقول أبو مصعب السوري في شهادته المبكرة عن العلاقة بين حركة طالبان والقاعدة: “إن في الطالبان تيارين:
الأول: صالح قوي حاكم، نحسبهم على خير من حيث غيرتهم على الدين والشريعة ومصالح المسلمين، ومن حيث إيواؤنا وإحسان جوارنا، وتعاونهم معنا ومع المسلمين في حمل راية الجهاد ضد النظام العالمي الظالم، ومن هؤلاء الصالحون -كما نحسبهم- أمير المؤمنين وكثير من شيوخ ومسؤولي الطالبان اليوم.
الثاني: تيار ضعيف، ولكنه موجود في الطالبان، من بعض الضعفاء الموالين لبعض القوى الإقليمية أو الدولية بغية مصالح شخصية، وهؤلاء خطرهم هو استعدادهم للتخلي عن العرب والمهاجرين من المسلمين ومشروع جهاد الأمة مقابل مصالح شخصية، لتفكيرهم بالمصالح الأفغانية الذاتية، وهؤلاء تيار فاسد مستضعف حاليا. فأقول: تقتضي الحكمة والدين والعقل أن ندعم التيار القوي الصالح الممثل في ملا محمد عمر ومن معه، وتثبيتهم على ما هم عليه من الخير، وعدم إعطاء الشواهد للتيار الآخر من خلال الممارسات الخاطئة أو التقصير في مواقف يجب أن نبادر إليها، لأننا لو فعلنا العكس وأطيح بالتيار الصالح -لا قدر الله- وقام الآخر فسيقول الجهال فينا ومن كان يخالفنا الرأي: انظروا لقد قلنا لكم إنهم فاسدون، والحقيقة غير هذا، لأننا لم ننصر الصالح وقوي الفاسد ووقع المحذور فستكون فحقيقة الأمر أننا خذلنا أنفسنا فخذلنا الناس وكفرنا نعمة الله فنُزعت منا لا سمح الله”[2].
إن هذا الجناح المحافظ الذي كان يتزعمه الملا الراحل جلال الدين حقاني قد اختلف في وجود أبنائه، وتحولت طالبان في عشرين عامًا، كما اختلفت القاعدة بعد رحيل أسامة بن لادن، وفقدت كثيرًا من زخمها وبريقها وزاد السجال حولها والضعف فيها على مدار العقد الأخير من زعامة أيمن الظواهري لها، الذي نظن أنه ليس أمام الأخير ودائرته المحدودة إلا الاستمرار في الاختفاء والموت الإكلينيكي لتنظيمه وشبكته وأيديولوجيته، أو التخلي عنها، وهو الأمر المستبعد، أو المواجهة المباشرة مع حركة طالبان التي ستتخلى عنه.
وهنا لابد من الاختلاف مع تقرير “الإيكونوميست” المنشور في 28 أغسطس الماضي عن احتمال نشاط التطرف العنيف عمومًا، وتوثيق الترابط بين القاعدة وطالبان[3] استنادًا فقط إلى تأثير شبكة حقاني وبيعتها السابقة للقاعدة وأسامة بن لادن، في حياة مؤسسها، بعد احتواء أبنائه وتولي أربعة منهم الحكم في حكومة طالبان المؤقتة، التي أعلنت يوم الاثنين 7 سبتمبر، فضلًا عن الاختلاف الجيلي وخبرة العشرين عامًا بعد سقوطها ومحاولات العودة التي راح ضحيتها ما لا يقل عن 45 ألف أفغاني على الأقل. وختامًا، يمكن القول فإن فك الارتباط بين طالبان والقاعدة سيُضعف من زخم المشهد الجهادي العالمي، الذي قد تنفرد به داعش، ويزداد اتقادها منه ومن عناصر القاعدة الفارة مع أزمة قيادتها الظواهرية واختفائها وعدم قدرتها على الخيار بين الشلل أو رفع الغطاء عنها من قبل قادة
[1] راجع حول المدرسة الديوبندية كتاب الباحث الباكستاني الدكتور مصباح عبدالباقي، المدارس الدينية في باكستان، مكتبة مدبولي، القاهرة ط1 سنة 2009.
[2] نقلا عن يوسف العييري، المصدر السابق، على الرابط التالي: http://majmo3pages.atspace.com/Taleban-039.htm
[3] Good news for global jihad: America’s flight from Afghanistan will embolden jihadists around the world, The Economist , August 28 , 2021 , accessible at: