إصلاح النظام الصحي في أي دولة هو عملية صعبة جدًا، والنجاح فيها هو تحد كبير، وقد قبلت مصر هذا التحدي، وقامت بإقرار قانون التأمين الصحي الشامل في ديسمبر 2017، وإصدار اللائحة التنفيذية الخاصة به في مايو 2018 (القانون رقم 2 لسنة 2018)، وقام الرئيس عبدالفتاح السيسي بإطلاق إشارة البدء الفعلي لتطبيق القانون من محافظة بورسعيد في مطلع شهر يوليو 2019.
التأمين الصحي الشامل هو نظام تكافلي اجتماعي، تقدم من خلاله خدمات طبية ذات جودة عالية لجميع فئات المجتمع دون تمييز بغض النظر عن مستوى الدخل، وتتكفل الدولة فيه بعلاج غير القادرين، عبر حزمة متكاملة من الخدمات التشخيصية والعلاجية. الاشتراك في قانون التأمين الصحي الشامل إجباري على جميع المصريين، فالنظام يجمع كل فئات المجتمع تحت مظلة تأمينية واحدة، وتأتي ضرورة أن يكون الاشتراك في نظام التأمين الصحي إلزاميًا لجميع المصريين لضمان استدامة التطبيق، وتوفير التمويل اللازم له، لأنه إذا تُرك اختياريًا فقد يعزف الأغنياء عن الاشتراك في النظام، وسيقوم فقط الفقراء بالاشتراك. وحيث إن الاشتراك يكون نسبة من الدخل، فبالتالي يتم حرمان نظام التأمين الصحي من موارد كبيرة، قد تعرقل استدامته. وتلزم الدولة المواطنين بالاشتراك في المشروع عن طريق ربط الحصول على الخدمات المختلفة من الدولة بسداد نسبة الاشتراك في التأمين الصحي الشامل. ومع اكتمال تطبيق القانون يتم توحيد كل الموارد العامة الموجهة للرعاية الصحية، ويتوقف العمل بالنظم الحكومية التكميلية والموازية، مثل نظام العلاج على نفقة الدولة.
يعتمد النظام الجديد في تمويله وضمان استدامته على اشتراكات الأسر بنسبة من الدخل الكلي لرب الأسرة، ويتضمن الاشتراك الزوجة إن كانت لا تعمل والأولاد، وفي حالة عمل الزوجة فهي تدفع عن نفسها نسبة 1% من دخلها، فيما تبلغ النسبة الإجمالية التي يدفعها رب الأسرة حوالي 7% من كامل دخله، سواء كان يعمل بالقطاع العام أو الخاص. أما بالنسبة للفئات غير القادرة وهي تقدر بنسبة 30% إلى 35% من إجمالي الأسر، فستقوم الخزانة العامة للدولة بالدفع عنها. ولضمان عدم الاستغلال السيئ للخدمات الصحية ستكون هناك مساهمة رمزية من المريض في تحمل تكلفة بعض الإجراءات والأشعة والتحاليل.
ملامح القانون
تتمثل أهم ملامح القانون في أن يكون لكل مواطن ملف طبي لدى طبيب الأسرة الخاص به، وهذا الملف يشمل التاريخ المرضي بالكامل للمواطن، ويقوم طبيب الأسرة بالكشف الطبي على المريض وتحويله إلى المستويات الأخرى لتلقي الرعاية الطبية في حالة احتياجه، ولا يقوم المواطن بالتوجه إلى المستشفى أو العيادة الخاصة من تلقاء نفسه، ولكن بعد العرض على طبيب الأسرة والتحويل عن طريقه. ويقوم طبيب الأسرة بالإشراف على البرتوكول العلاجي للمريض حال مرضه أو ثبوت إصابته بمرض مزمن، مع الإشراف على عملية صرف الدواء للمريض. ويشمل القانون مجالات الخدمات الصحية التأمينية، وتشمل طبيب الأسرة، والأطباء المتخصصين بجميع تخصصاتهم، والرعاية الطبية المنزلية عند الحاجة، والعلاج والإقامة بالمستشفى وإجراء العمليات الجراحية، والفحوصات الطبية بجميع أنواعها، والخدمات التأهيلية والعلاج الطبيعي، وتحرير الوصفات الطبية وصرف الأدوية، والكشف الطبي الابتدائي والدوري للمرشحين للعمل، والعلاج بالخارج لمن يستحيل علاجه داخل جمهورية مصر العربية. فيما لا ينطبق على خدمات الصحة العامة والوقائية وخدمات الإسعاف وخدمات تنظيم الأسرة، والخدمات الصحية الخاصة بتغطية الكوارث الطبيعية والأوبئة، وما يماثلها من خدمات تلتزم بها سائر أجهزة الدولة مجانًا.
وحسب اللائحة التنفيذية للقانون رقم 2 لسنة 2018، فإن نظام التأمين الصحي الشامل سيطبق على 6 مراحل، خلال 15 عامًا، حيث يعطي هذا التدرج في التنفيذ الوقت الكافي لإدارة الموارد المالية، وأيضًا يعطي الفرصة للاستفادة من الخبرات والأخطاء وإصلاحها في المراحل التالية، وتشمل مراحل التطبيق المحافظات التالية:
المرحلة الأولى | بورسعيد والإسماعيلية والسويس وجنوب سيناء والأقصر وأسوان |
المرحلة الثانية | مطروح والبحر الأحمر وقنا وشمال سيناء |
المرحلة الثالثة | الإسكندرية والبحيرة ودمياط وسوهاج وكفر الشيخ |
المرحلة الرابعة | بني سويف وأسيوط والمنيا والوادي الجديد والفيوم |
المرحلة الخامسة | الدقهلية والشرقية والغربية والمنوفية |
المرحلة السادسة | القاهرة والجيزة والقليوبية |
يرتكز قانون التأمين الصحي الشامل على الفصل بين السلطات، حيث فصل القانون بين مقدم الخدمة الصحية، وممول الخدمة الصحية، والمراقب على تقديم الخدمة الصحية، وذلك من خلال ثلاث هيئات على النحو التالي:
- هيئة الرعاية الصحية: وهي الهيئة المعنية بتقديم الخدمة الصحية بكافة أنواعها، من مستشفيات ومراكز رعاية أولية ومعامل ومراكز أشعة ومراكز علاج طبيعي وصيدليات، وغيرها.
- هيئة الرقابة والاعتماد الصحية: وهي الهيئة التي تضمن جودة الخدمات الصحية المقدمة، حيث تقوم بإصدار المعايير الخاصة بأداء الخدمة الصحية، واعتماد المستشفيات حسب المعايير الصادرة عنها، وتتولى أيضًا الرقابة الدورية على المنشآت الصحية، واستبعاد من يثبت إخلاله بمعايير جودة الرعاية الصحية.
- هيئة التأمين الصحي: وهي الهيئة التي تتولى إدارة وتمويل التأمين الصحي، من حيث جمع الاشتراكات من المواطنين، والدفع مقابل الخدمات المقدمة من هيئة الرعاية الصحية للمشتركين.
تحديات التأمين الصحي الشامل
هناك تحديات رئيسية تواجه تطبيق قانون التأمين الصحي الشامل بنجاح، أهمها:
تحدي الموارد البشرية: حيث تعد الموارد البشرية هي التحدي الأكبر للوصول بالمشروع إلى بر الأمان، فتردي الأوضاع المادية للأطقم الطبية في مصر، مقارنة بجيرانها من الدول الأخرى؛ أدى إلى هروب أعداد كبيرة من الأطباء والتمريض للعمل بالخارج، وبالتالي هناك ندرة في بعض التخصصات الطبية الحرجة، مثل تخصصات الرعاية المركزة وأطباء التخدير، وقلة أعداد الأطباء بصفة عامة، وخاصة في مستوى أطباء الأسرة الذين هم حجر الأساس لتطبيق القانون. فبافتراض تخصيص طبيب واحد لكل 10 آلاف مواطن، سنجد أن كل مليون نسمة يحتاجون إلى قرابة 100 طبيب أسرة، هذا إلى جانب التمريض والفرق المساعدة، وهو الأمر الذي يعد توفيره بالغ الصعوبة.
تحدي التكلفة: يحتاج البدء في تطبيق المشروع في أي محافظة تكلفة أولية كبيرة لإعادة بناء أغلب المنشآت الصحية لتصبح مطابقة لمتطلبات الجودة والسلامة حسب المعايير المطلوبة للاعتماد. أما على المدى الطويل فإن تكاليف التشغيل التي تسمى أيضًا التكاليف المتغيرة، ستكون مغطاة من النسب التي يدفعها المشتركون، ومن عوائد تقديم الخدمة الصحية في مختلف المنشآت.
تحدي ميكنة المنظومة والتحول الرقمي: والذي يعد توجهًا قوميًا للدولة لتحويل جميع الخدمات إلى خدمات مميكنة. وفيما يخص التأمين الصحي الشامل، فإن الميكنة والتحول الرقمي تشمل إدارة بيانات المرضى وتسجيلهم بالكامل في الوحدات الصحية التابعين لها، وتحويل الملف الطبي للمرضى إلى ملف رقمي، وأيضًا يشمل إدارة المطالبات المالية لمقدمي الخدمة.
تحدي الإعلام والتوعية: ويشمل هذا المحور توعية المواطن عن القانون وأهميته، والفوائد التي ستعود عليه وعلى أسرته وعلى الدولة بأكملها عند دخوله في منظومة التأمين الصحي الشامل، وكيفية بناء ثقته في جدية ومصداقية الدولة في تطبيق القانون، وتوعيته بالعقوبات المترتبة على عدم التزامه بدفع النسبة المنصوص عليها من أجره لتغطية دخوله هو وأسرته في المنظومة.
ختامًا، إن الحصول على الخدمات الصحية من خلال منظومة التأمين الصحي الشامل يحقق للمواطن قدرًا كبيرًا من الأمان الاجتماعي، ويولد لديه شعورًا بالانتماء لوطنه، وفي سبيل هذا تُولي القيادة السياسية اهتمامًا غير مسبوق بسرعة ودقة تطبيق المنظومة حسب المخطط لها، وللاطمئنان على توفر مقومات النجاح، فالتحدي هنا ليس فقط توفير التغطية الصحية الشاملة، ولكن توفيرها بجودة عالية لضمان حياة كريمة آمنة للجميع.