شهد العقد الماضي صعود منطقة شرق المتوسط كأحد الأقاليم الفرعية التي جذبت اهتمام القوى الإقليمية والدولية، ويعود ذلك بشكل أساسي لحجم الاحتياطات من الغاز الطبيعي والذي يُقدر بنحو 340 تريليون قدم مكعب، وهو ما أضفى قيمة اقتصادية بجانب الأهمية الاستراتيجية للمنطقة، مما جعل شرق المتوسط ساحة للتنافس الإقليمي والدولي، حيث عملت كافة الأطراف على تحقيق أكبر قدر من النفوذ الذي يؤمّن لها مصالحها.
سمات حاكمة
على خلاف عام 2020 الذي كاد أن يشتعل فيه البحر الأبيض المتوسط عبر مواجهة عسكرية تم احتواؤها من قبل الأطراف الدولية بين تركيا واليونان، وذلك على خلفية الأنشطة التركية في المياه الإقليمية لقبرص واليونان، ومحاولة فرض أمر واقع يتنافى مع قواعد القانون الدولي للبحار؛ فقد تميز عام 2021 بنوع من الهدوء، أو على أقل تقدير شهد العام -الذي أوشك على الانتهاء- تصعيدًا مكتومًا لم يصل في حدته لما كان عليه الوضع عام 2020. وهو ما يستدعي الوقوف على السمات العامة الحاكمة للتفاعلات شرق المتوسط عام 2021، كمحاولة لفهم المسارات المحتملة خلال العام القادم، وذلك فيما يلي:
أولًا- استكمال البناء المؤسسي: كان الطابع المؤسسي بمثابة السمة الغالبة على التفاعلات الدولية شرق المتوسط، فخلال شهر مارس 2021، دخل ميثاق غاز شرق المتوسط حيز التنفيذ، كما تم التوقيع بعدها بنحو أربعة أشهر على اتفاقية دولة المقر، والتي وافق عليها مجلس النواب المصري في نوفمبر2021، مما ساهم في اكتمال كافة الجوانب الفنية والقانونية الرامية لتحويل منتدى غاز شرق المتوسط لمنظمة حكومية مقرها القاهرة.
من ناحية أخرى، شهد العام ميلاد “منتدى الصداقة” الذي عُقد اجتماعه الأول في اليونان في فبراير 2021، بمشاركة سبع دول من بينها ثلاث دول أوروبية وأربع عربية، في تجمع يمكن وصفة بالعابر للحدود، مما يشير لحدود الترابط بين التحديات التي يمر بها الإقليم ورغبة دول المنطقة في تعزيز التحركات الجماعية لتقويض التهديدات والتحديات التي تواجه دول المنطقة.
ثانيًا- الردع عبر الترتيبات الأمنية: لم تغب التفاعلات الأمنية شرق المتوسط خلال 2021، رغم تراجع مؤشرات وملامح المواجهة العسكرية، وقد تشكلت تلك الترتيبات عبر عدد من الأنماط لعل أبرزها قيام دول المنطقة بعقد مجموعة من التدريبات والمناورات العسكرية فيما بينها، حيث شهد شهر نوفمبر استكمال التدريب المشترك “ميدوزا” في نسخته الحادية عشرة. يضاف لذلك توقيع عدد من الشراكات الدفاعية والأمنية وفي مقدمتها الاتفاق الدفاعي بين اليونان وفرنسا خلال شهر سبتمبر، والذي لم يقتصر على المبيعات العسكرية وشراء اليونان ثلاث فرقاطات فرنسية، بل تطور الوضع للتوافق على صيغه تضمن المساعدة العسكرية المتبادلة في حال تعرض أي طرف لهجوم عسكري من دولة أخرى. على المنوال ذاته، وقّعت الولايات المتحدة الأمريكية واليونان خلال شهر أكتوبر اتفاقًا لتمديد التعاون الدفاعي بينهما.
ويمكن قراءة هذه الترتيبات في ضوء رغبة فرنسا واليونان في مواجهة عدد من التحديات، وفي مقدمتها التحدي التركي، حيث تنظر فرنسا ولليونان لتركيا باعتبارها مقوضًا لأمن المتوسط وفاعلًا مشتركًا في كافة التهديدات التي تؤثر على الأمن القومي للبلدين، كما تسعى الاتفاقية لتأمين الجناح الجنوبي لحلف الناتو. من ناحية أخرى، يصب الاتفاق بين واشنطن وأثينا في إطار رغبة الولايات المتحدة في مواجهة النفوذ الروسي والصيني المتصاعد شرق المتوسط، إذ إن الاتفاق يسمح بالوصول الأمريكي للقواعد العسكرية اليونانية، مما يوفر لواشنطن تحوطًا ضد أية تهديدات محتملة.
ثالثًا- اختبار المساعي الدبلوماسية: شهدت منطقة شرق المتوسط خلال 2021، عدة محاولات لاختبار الأداة الدبلوماسية، والعمل على تجنب الاشتباك والتصعيد بين الفواعل في المنطقة، وقد كانت مساعي أنقرة للتقارب مع القاهرة عبر جولتين من المباحثات الاستكشافية خلال شهري مايو وسبتمبر أبرز تلك التحولات، يضاف لذلك التقارب بين الإمارات وتركيا والذي افضى لقيام ولى عهد الإمارات بزيارة تركيا في نوفمبر، كما عادت المباحثات الاستكشافية بين تركيا واليونان بعد توقف دام لنحو 5 أعوام.
ويمكن قراءة نهج تركيا الدبلوماسي في إطار محاولات تجاوز حالة العزلة الإقليمية والإقصاء التي تعانيها أنقرة من الترتيبات الجماعية في شرق المتوسط، فضلًا عن كونها محاولات للتعاطي مع التغيرات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تغير الإدارة الأمريكية الجديدة. من ناحية أخرى، شهد 2021 محاولات لتسوية واحدة من النزاعات البحرية المتفاقمة بين لبنان وإسرائيل، حيث تم استكمال المباحثات بين الطرفين، قبل أن تتوقف في جولتها الخامسة في مايو، وذلك بسبب تباين الموقف وعدم التوافق بين الطرفين.
وعلى الرغم من أن تلك المساعي تظل في مرحلة اختبار النوايا، ولم تفرز عن أية تغيرات كبرى في ظل تعقد القضايا وتشابكها بين مختلف الأطراف، إلا أنها تدخل ضمن التغيرات والتحولات الهامة التي برزت خلال 2021 بين دول شرق المتوسط.
رابعًا- استمرار الصراعات المسلحة: يُعتبر تجدد دورات الصراع أحد الملامح التي تشكلت خلال 2021 في شرق المتوسط، فلا يزال الصراع السوري مستمرًا دون تحقيق اختراق كبير، كما أن غياب الثقة وحالة الاستقطاب وتعارض المصالح بين الأطراف الداخلية والخارجية قادت لعرقلة الانتخابات الليبية وـفشلت المسار السياسي، فكان من المنتظر أن تُجرَى الانتخابات الليبية 24 ديسمبر، إلا أن ذلك لم يحدث، حيث عادت خلال الأشهر الماضية حالة العسكرة والتلويح باستخدام القوة والتصعيد من قبل عدد من المليشيات غرب ليبيا. في الوقت ذاته، لم تنجح المساعي الدولية في التعامل مع قضية المرتزقة والقوات الأجنبية، يضاف لذلك عدم القدرة على إنجاز ملفات توحيد المؤسسات الليبية.
من ناحية أخرى، كانت دول شرق المتوسط على موعد مع تصعيد عنيف ومواجهة واسعة النطاق خلال الحرب الإسرائيلية على غزة في مايو 2021، ويعتبر تجدد تلك المواجهة أحد التهديدات التي تؤثر على أمن دول شرق المتوسط، إلا أن الجهود المصرية والوساطة الفاعلة نجحت في احتواء الصراع في أعقاب التوصل لوقف إطلاق النار بين الجانبين.
خامسًا- تعزيز الشراكات الاستراتيجية: ظل التعاون الثلاثي بين مصر وقبرص واليونان خلال 2021، وذلك من خلال عقد القمة التاسعة في أكتوبر، في إطار آلية التعاون الثلاثي التي انطلقت في نوفمبر 2014، في دلالة على تحول الشراكة لما يشبه الطابع المؤسسي. من ناحية أخرى، استضافت اليونان في نوفمبر القمة الثالثة لصيغة (3+1) وهو التحالف الذي يضم فرنسا بجانب كل من مصر وقبرص واليونان، والذي تم تدشينه مطلع عام 2020، وتشير تلك التحالفات والصيغ الجماعية لرغبة الدول المتوسطية في تعزيز التعاون فيما بينهما لمواجهة التحديات المشتركة، سواء المرتبطة بالإرهاب أو النزاعات المسلحة والتهديدات الأخرى كالهجرة غير الشرعية ومشكلة اللاجئين والقضايا المرتبطة بأمن الطاقة.
تعاون أم صراع
وسط تلك التحولات يمكن أن تتشكل التفاعلات خلال عام 2022 في إطار نمطين: أولهما تعاوني، ويدعم هذا النمط عددًا من المؤشرات، من بينها رغبة أغلب الأطراف المنخرطة في المتوسط في تجنب المواجهات العسكرية والصدام بهدف الحفاظ على مصالحها، كما أن الترتيبات الجماعية ذات الطابع السياسي والأمني التي شهدتها المنطقة ستدعم التعاون على حساب الصراع، وعليه يمكن أن يشهد عام 2022 جملة من التحولات في إقليم شرق المتوسط، بحيث يمكن أن تنخرط عدد من الدول داخل منظمة غاز شرق المتوسط سواء في إطار عضوية المنظمة أو الحصول على صفة مراقب.
كما قد تدفع الدول الأعضاء داخل المنظمة تجاه تبني وساطة للتعامل مع الخلافات البحرية، ويمكن أن تشرع تلك الدول في دفع إسرائيل ولبنان للعودة للمفاوضات بينها بشأن الحدود البحرية، خاصة أن الاتفاقيات الإبراهيمية والاندماج الإسرائيلي في منظمة غاز شرق المتوسط يمكن أن يصبح مدخلًا للتعاطي مع تلك الخلافات المستعصية، وقد يصبح ملف عودة المفاوضات بين البلدين مطروحًا بقوة في أعقاب الانتخابات اللبنانية المقرر عقدها في مارس 2022.
وفي إطار التعامل مع الصراعات المسلحة، فقد تشهد الأزمة الليبية نقلة نوعية تتمثل في إجراء الانتخابات خلال عام 2022، وإفراز سلطة شرعية تتولى التعامل مع القضايا المؤجلة والكبرى كتوحيد المؤسسات وإخراج المرتزقة.
من ناحية أخرى، يمكن أن يحدث ارتداد عن المسار التعاوني المحتمل وصولًا للنمط الصراعي، ويتوقف هذا الافتراض بشكل أساسي على موقف أنقرة، ومدى جديتها في تعزيز النهج التصالحي والتخلي عن دبلوماسية الزوارق الحربية ومحاولاتها فرض الأمر الواقع عبر التنقيب عن الغاز، الأمر الذي يظل محل شك في ظل عدد من الشواهد لعل أبرزها إعلان تركيا إضافة سفينة رابعة للتنقيب عن الغاز شرق المتوسط، والاستعداد لجولة جديدة من التنقيب منتصف العام المقبل، فضلًا عن عدم تخليها -رغم مساعي التهدئة المعلنة- عن أهدافها وأطماعها شرق المتوسط، وهو ما يمكن الاستدلال عليها من خلال إعلانها في مايو 2021 عن حفر آبار في مناطق متنازع عليها مع قبرص، فضلًا عن قيامها في سبتمبر بطرد سفينة المسح الإيطالية “Nautical Geo” أثناء مهمة لها في إطار مشروع “إيست ميد”، وقد بررت تركيا عرقلتها لمسار عمل السفينة زعمًا بأنها تمت في مناطق تقع ضمن السلطات البحرية لتركيا بموجب الاتفاق الموقّع مع حكومة السراج في نوفمبر 2019.في الأخير، يُرجَّح أن تطغى الصيغ التعاونية على التفاعلات في إقليم شرق المتوسط خلال العام القادم، وتظل فرص الصراع المفتوح أو الاحتكاك المباشر بين الأطراف الفاعلة محدودة، وقد يسيطر على المشهد حالة من الترقب والحذر بشأن التحركات التركية المحتملة.