لا يمكن اختزال مرحلة ما بعد 24 ديسمبر 2021 في ليبيا في مشهد معارك ازدواج السلطة المحتملة، ما بين حكومة الوحدة الوطنية التي جرى اختيارها من الملتقى السياسي في 5 فبراير 2021، أو الحكومة التي سيختارها البرلمان بعد عام تقريبًا من ذلك التاريخ في جلسة 8 فبراير الجاري، وهو مشهد اعتيادي ومتكرر في الحالة الليبية، لكن المعركة الرئيسية تتجلى في التصادم أو التداخل في عملية الانتقال السياسي، فهناك خريطة طريق جديدة قيد التشكل لعملية الانتقال السياسي من جانب البرلمان، بينما لا تزال البعثة الأممية تتعاطى مع الأمر على أن صلاحية الفترة الانتقالية ستنتهي في يونيو المقبل، وبالتالي تطالب البرلمان بسقف زمني لعملية الانتخابات وهو أمر صعب حدوثه، فخريطة الطريق البرلمانية ستستغرق في الحد الأدنى عامين تقريبًا؛ بل إن البرلمان قفز خطوة إلى الأمام من تجاهل مطالب البعثة الأممية إلى الطلب من الأمين العام للأمم المتحدة بعدم تدخل البعثة في عملية تشكيل الحكومة، وهو ما يعكس انعدام التوافق بين البرلمان والبعثة على بقية الملفات الأخرى.
تحديات متبادلة
على هذا النحو، لا يعتقد أن البعثة الأممية قادرة على فرض استمرار مسار خريطة الطريق التي اعتمدت من قبل، ولا يمكنها اعتماد خريطة الطريق الجديدة التي يرسمها البرلمان بحكم أن البعثة لم تنخرط فيها بالأساس، وبالتالي يمكن القول إن البعثة تقوم بإدارة الوقت المتبقي من عمرها حتى يونيو المقبل أكثر من إدارة ملفات الأزمة السياسية، وسيكون هناك شأن آخر ومنظور جديد للحالة الليبية إذا ما تم تعيين بعثة بديلة من جانب الأمم المتحدة في ظل صعوبة التوافق الأمريكي-الروسي في هذا الصدد. وعلى الجانب الآخر، فإن البرلمان يواجه تحدي تمكين مشروعه الحالي لمرحلة انتقالية جديدة حتى وإن أوجد الصيغة الإجرائية الممكنة لذلك، فقد أثبتت التجربة الليبية أنه لا يمكن وضع حدٍّ لعمليات الانتقال السياسي المتكررة بمجرد التوصل لصيغ سياسية، خاصة في ظل توتر الوضع السياسي والأمني، فلم تحظَ عملية انتقالية بتوافق سياسي على نحو ما حظيت به المرحلة الانتقالية الحالية، ورغم ذلك هي في طريقها إلى الفشل التام، وبالتبعية إعادة إنتاج تداعيات الفشل الذي أعقب المراحل السابقة، فهناك فواعل وموازين قوى متعارضة تفرض نفسها على أي صيغة وفي أي وضع.
معضلة مركبة
في الوقت ذاته، في أي حال من الأحوال تعكس معادلات موازين القوى، رغم تبدل التحالفات السياسية ما بين صراعات جهوية (شرق – غرب) في السابق إلى صراعات نخب ومراكز قوى في المشهد الراهن؛ حالة الهشاشة المستدامة في المشهد الليبي بشكل عام، وبالتالي هناك حالة تقاسم ضعف في كافة المعادلات مهما اعتبر كل طرف أو فصيل سياسي أن موازين القوى تميل لصالحه، وهو ما ينقلها إلى معضلة أخرى هي “معضلة الثقة” حيال أي تصور مطروح لعملية الانتقال السياسي، فالنخبة تبدل مواقعها باستمرار وفقًا لمصالحها السياسية، وبالتبعية تتبدل الهندسة السياسية لعملية الانتقال السياسي، وكما طرأ على المشهد السابق مدخلات جديدة غيرت مسار العملية السياسية، مثل ظهور سيف الإسلام القذافي وعبدالحميد الدبيبة كلاعبين محوريين في العملية الانتخابات، لم يكونا في الحسبان؛ كذلك فإن هندسة عملية انتقالية جديدة ستمدد بقاء الكيانات السياسية القائمة مثل البرلمان ومجلس الدولة، وهي معادلة أخرى لم تضع في حسبانها طرفًا أصيلًا هو جماهير الليبيين، فقد أكدت معظم الاستطلاعات التي أجريت في العام الماضي لهفتهم للانتخابات، ليس فقط لتغيير السلطة السياسية الانتقالية وانتخاب سلطة جديدة كعنوان لمرحلة استقرار سياسي، وإنما لتغيير شامل لكافة المؤسسات ومن بينها البرلمان الذي يعمل على وضع تصور جديد لمرحلة انتقالية، وهو ما يضاعف من ضمانات الثقة في المسار المقبل.
فترة بينية معقدة
ستنتهي صلاحية المرحلة الانتقالية بحلول يونيو المقبل، ومعها ستنتهي صلاحية حكومة طرابلس وفقًا لصيغة المرحلة الانتقالية إن لم تحظَ الحكومة الجديدة بتصويت 120 برلمانيًا، وهو أمر غير وارد، وربما تراهن تلك الحكومة على انقسام برلماني في جلسة التصويت، لكن من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن حكومة طرابلس لا تراهن فقط على العامل الإجرائي، وإلا لأكدت في بياناتها وخطابها المتعاقب أنها ستسلم السلطة في حال صحة إجراءات البرلمان وليس لحكومة أو سلطة منتخبة تعرف أنها لا تتشكل في المدى الزمني المنظور، وبالتالي لديها رهانات أخرى من بينها دور الفصائل المسلحة في غرب طرابلس، وهو تحدٍّ آخر. صحيح أن الحكومة التي سيشكلها البرلمان ستتخذ من “سرت” مقرًا لها، مما سيعزلها عن الفصائل المسلحة في الغرب بشكل نسبي، لكن هل يمكن عزل حكومة “سرت” عن الغرب، وألا تمتد سلطتها أو دورها على مدار فترة لن تكون قصيرة إلى هناك؟ وهل ستحظى حكومة “سرت” باعتراف إذا كانت أغلب مؤسسات الدولة باستثناء البرلمان بالإضافة إلى البعثات الدبلوماسية في طرابلس؟
المتوقع أن الفصائل المسلحة في الغرب ستسعى إلى فرض معادلة تمكينها هي الأخرى، مقابل محاولات البرلمان تمكين الحكومة في “سرت”، وبالتالي لن يكون هناك وضع متوتر في طرابلس، وسينال ذلك من أي عملية انتقال سياسي، بغض النظر عن المشروعية وطبيعة التحالفات والاصطفافات السياسية الجديدة. وبالتالي ستشهد الفترة البينية ما بين العملية الانتقالية التي يسعى البرلمان إلى وضعها والمدى الزمني لنهاية العملية الانتقالية الراهنة مخاضًا عسيرًا، سيسعى خلالها كل طرف إلى بناء مواقف قابلة للتطور في المرحلة التالية، ستضع كافة الفاعلين في مأزق مستقبلي.
في الأخير، من المتصور أن السؤال بشأن معضلات المراحل الانتقالية في ليبيا هو سؤال متكرر بحكم تكرار تلك المراحل، وهو سؤال معروف بحكم مآلات تلك المراحل، لكن السؤال الذي يبقى بلا إجابة هو نهايات المراحل الانتقالية، ومتى وكيف يمكن وضع حد لتكرار هذه المراحل؟ مع الوضع في الاعتبار عامل تراجع الثقة وغياب الضمانات اللازمة في ظل إشكاليات الحالة الليبية التي تحولت -بدورها- إلى معضلات مزمنة ومستعصية على الحل.